وزير الإعلام

وزير الإعلام
TT

وزير الإعلام

وزير الإعلام

مع اندلاع الانتفاضات العربية قبل عقد من الزمان، ثار الحديث عن «تحرير الإعلام» في عدد من دول المنطقة؛ وهو حديث تواكب مع «النزعات الثورية» التي رأت في تلك الانتفاضات «مشروعات تغيير جذرية» تأخذنا إلى مضاهاة «دول العالم الحر» من جانب، ومع «نزعات الإصلاح» الوطنية، التي عوض بها بعض البلدان «الشغف بالتحولات الحادة» من جانب آخر.
على أي حال، فقد تراجعت التوقعات في شأن إمكانية إحداث «التغيير الجذري»، بعدما تمخض معظم تلك الانتفاضات، لأسباب ليس هذا مجال ذكرها، عن انهيارات وخسائر وحروب أهلية على أنقاض الدولة الوطنية، كما هدأ الحديث عن «الإصلاح» في ظل تحديات إقليمية ودولية ضخمة وعنيفة.
لكن ما بقي في مجال تنظيم الإعلام من «فورة الانتفاضات» ما زال ماثلاً للعيان، سواء في دول التغيير العربية أو في الدول التي تفادت وقوع التقلبات الحادة، ولسبب غير معروف على وجه اليقين، فإن عدداً من دول المنطقة رأى أن إلغاء وزارة الإعلام واستبدال هيئات تنظيمية مستقلة بها سيكون عنواناً لـ«تحرير» نظمها الإعلامية، وخطوة نحو تأسيس مجال إعلامي حر ومستقل ومتوازن، بما يقابل أهداف التغيير الجوهري أو الإصلاح الناجع.
وعندما استقر هذا المفهوم في أذهان بعض النخب داخل الحكم أو خارجه، وتشبعت به قطاعات من الجمهور المعنيّ بالشؤون العامة، كان من السهل اتخاذ القرارات بإلغاء وزارات الإعلام في أكثر من دولة، وإجراء تغييرات دستورية أو قانونية عميقة استهدفت إنشاء كيانات «مستقلة» للإشراف على صناعة الإعلام وتنظيمها.
لقد انطلقت هذه السياسة، التي لم تشهدها دول الانتفاضات وحدها، من تقييم انطوى على خطأين جوهريين؛ أولهما افتراض أن وزارة الإعلام لا توجد إلا في الدول الاستبدادية، وأنها عنوان لإرادة الهيمنة على المجال الإعلامي ومصادرته لمصلحة السلطة الحاكمة، وثانيهما اعتبار أن إنشاء كيان يوصف بأنه «مستقل» لإدارة هذا المجال يكفي لجلب الاستقلالية للأداء الإعلامي.
سيُدهش البعض حين يعرف أن عدداً كبيراً من الدول المتقدمة لديه وزراء معنيون بالإعلام؛ ومن بين تلك الدول على سبيل المثال المملكة المتحدة والدنمارك والسويد وغيرها، لكنّ هؤلاء الوزراء لا يديرون المشهد الإعلامي، ولا يعيّنون رؤساء تحرير الصحف والقنوات، وإنما يصوغون سياسات الدولة الإعلامية، ويتحدثون باسم الحكومة، ويمثلون دولهم في المحافل ذات الصلة. وبموازاة ذلك، لن يدهش كثيرون حين نشير إلى أن معظم الكيانات «المستقلة» التي تم إنشاؤها في العالم العربي لإدارة المجال الإعلامي ما زالت غير مستقلة وغير قادرة على النهوض بأدوارها المفترضة، سواء كما تظهر في الدساتير، أو كما نعاين أداء مثيلاتها في الدول المتقدمة.
تعرف التجربة الإعلامية الغربية نمط الهيئات الضابطة، التي تنشأ بصورة مستقلة عن الحكومات عادةً، وتضمن تمويلاً لا يمس بالاستقلالية، وتقوم بأدوار إدارة المجال الإعلامي وتحمي حقوق الأطراف المعنية، عبر إبقاء الأداء الإعلامي ضمن التوافقات المجتمعية وبعيداً عن إثارة المخاطر والفتن من جهة، والحفاظ على حرية التعبير وحرية وسائل الإعلام كضمانة للمجتمع الديمقراطي من جهة أخرى.
ومن تلك الهيئات مكتب الاتصالات بالمملكة المتحدة Office for Communications (Of COM)، واللجنة الفيدرالية للاتصالات بالولايات المتحدة (FCC) Federal Communications Commission، والمجلس الأعلى للإعلام المرئي والمسموع بفرنسا Le Conseil Supérieur de l›audiovisuel (CSA).
تقوم تلك الهيئات بأدوارها، وتحقق الهدف من إنشائها، لأنها تقع ضمن سياق سياسي واجتماعي واقتصادي عام يسمح لها بتنظيم صناعة الإعلام على أسس التعدد والتنوع والحرية والمهنية والاستقلالية؛ وهي، وعبر طبيعة تشكيلها المتوازن والمدروس، تمتلك القدرة على النهوض بدورها بأقل قابلية ممكنة لتلقي الضغوط.
مشكلة معظم الدول العربية لا تتعلق بوجود وزير إعلام من عدمه، أو بوجود هيئة مستقلة تضبط صناعة الإعلام من عدمه، ولكنها تتعلق بوجود سياق عام يسمح بتوازن المصالح، والتعدد، ويقبل بدور الإعلام المهني في مساءلة السلطة، ويحترم حرية الرأي والتعبير.
بسبب غياب هذا السياق، أو تشوشه، نعين وزراء إعلام ثم نلغي الوزارة ثم نعود عن إلغائها، ونشكّل هيئات ضابطة ثم نعيد تشكيلها، بينما الصحف والشاشات لا تتغير.



فوز ترمب «يُحطم» البنية الإعلامية التقليدية للديمقراطيين

ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)
ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)
TT

فوز ترمب «يُحطم» البنية الإعلامية التقليدية للديمقراطيين

ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)
ليلة انتصار ترمب... على الإعلام التقليدي (رويترز)

قد يكون من الواجب المهني الاعتراف بأن الجميع أخطأ في قراءة مجريات المعركة الانتخابية، والمؤشرات التي كانت كلها تقود إلى أن دونالد ترمب في طريقه للعودة مرة ثانية إلى البيت الأبيض. وترافق ذلك مع حالة من الإنكار لما كانت استطلاعات الرأي تُشير إليه عن هموم الناخب الأميركي، والأخطاء التي أدّت إلى قلّة التنبُّه لـ«الأماكن المخفية»، التي كان ينبغي الالتفات إليها.

لا ثقة بالإعلام الإخباري

وبمعزل عن الدوافع التي دعت جيف بيزوس، مالك صحيفة «واشنطن بوست»، إلى القول بأن «الأميركيين لا يثقون بوسائل الإعلام الإخبارية» لتبرير الامتناع عن تأييد أي من المرشحيْن، تظل «الحقيقة المؤلمة» أن وسائل الإعلام الأميركية، خصوصاً الليبرالية منها، كانت سبباً رئيسياً، ستدفع الثمن باهظاً، جراء الدور الذي لعبته في تمويه الحقائق عن الهموم التي تقضّ مضاجع الأميركيين.

صباح يوم الأربعاء، ومع إعلان الفوز الكاسح لترمب، بدا الارتباك واضحاً على تلك المؤسسات المكتوبة منها أو المرئية. ومع بدء تقاذف المسؤوليات عن أسباب خسارة الديمقراطيين، كانت وسائل الإعلام هي الضحية.

وفي بلد يتمتع بصحافة فعّالة، كان لافتاً أن تظل الأوهام قائمة حتى يوم الانتخابات، حين أصرت عناوينها الرئيسية على أن الأميركيين يعيشون في واحد من «أقوى الاقتصادات» على الإطلاق، ومعدلات الجريمة في انخفاض، وعلى أن حكام «الولايات الحمراء» يُضخّمون مشكلة المهاجرين، وأن كبرى القضايا هي المناخ والعنصرية والإجهاض وحقوق المتحولين جنسياً.

في هذا الوقت، وفي حين كان الجمهوريون يُسجلون زيادة غير مسبوقة في أعداد الناخبين، والتصويت المبكر، ويستفيدون من التحوّلات الديموغرافية التي تشير إلى انزياح مزيد من الناخبين ذوي البشرة السمراء واللاتينيين نحو تأييد ترمب والجمهوريين، أصرّت العناوين الرئيسية على أن كامالا هاريس ستفوز بموجة من النساء في الضواحي.

جيف بيزوس مالك «واشنطن بوست» (رويترز)

عجز عن فهم أسباب التصويت لترمب

من جهة ثانية، صحيفة «وول ستريت جورنال»، مع أنها محسوبة على الجمهوريين المعتدلين، وأسهمت استطلاعاتها هي الأخرى في خلق صورة خدعت كثيرين، تساءلت عمّا إذا كان الديمقراطيون الذين يشعرون بالصدمة من خسارتهم، سيُعيدون تقييم خطابهم وبرنامجهم السياسي، وكذلك الإعلام المنحاز لهم، لمعرفة لماذا صوّت الأميركيون لترمب، ولماذا غاب ذلك عنهم؟

في أي حال، رغم رهان تلك المؤسسات على أن عودة ترمب ستتيح لها تدفقاً جديداً للاشتراكات، كما جرى عام 2016، يرى البعض أن عودته الجديدة ستكون أكثر هدوءاً مما كانت عليه في إدارته الأولى، لأن بعض القراء سئِموا أو استنفدوا من التغطية الإخبارية السائدة.

وحتى مع متابعة المشاهدين لنتائج الانتخابات، يرى الخبراء أن تقييمات متابعة التلفزيون والصحف التقليدية في انحدار مستمر، ومن غير المرجّح أن يُغيّر فوز ترمب هذا المأزق. وبغضّ النظر عن زيادة عدد المشاهدين في الأمد القريب، يرى هؤلاء أن على المسؤولين التنفيذيين في وسائل الإعلام الإخبارية وضع مهامهم طويلة الأجل قبل مخاوفهم التجارية قصيرة الأجل، أو المخاطرة «بتنفير» جماهيرهم لسنوات مقبلة.

وهنا يرى فرانك سيزنو، الأستاذ في جامعة «جورج واشنطن» ورئيس مكتب واشنطن السابق لشبكة «سي إن إن» أنه «من المرجح أن يكون عهد ترمب الثاني مختلفاً تماماً عمّا رأيناه من قبل. وسيحمل هذا عواقب وخيمة، وقيمة إخبارية، وينشّط وسائل الإعلام اليمينية، ويثير ذعر اليسار». ويضيف سيزنو «من الأهمية بمكان أن تفكر هذه القنوات في تقييماتها، وأن تفكر أيضاً بعمق في الخدمة العامة التي من المفترض أن تلعبها، حتى في سوق تنافسية للغاية يقودها القطاع الخاص».

صعود الإعلام الرقمي

في هذه الأثناء، يرى آخرون أن المستفيدين المحتملين الآخرين من دورة الأخبار عالية الكثافة بعد فوز ترمب، هم صانعو الـ«بودكاست» والإعلام الرقمي وغيرهم من المبدعين عبر الإنترنت، الذين اجتذبهم ترمب وكامالا هاريس خلال الفترة التي سبقت الانتخابات. وهو ما عُدَّ إشارة إلى أن القوة الزائدة للأصوات المؤثرة خارج وسائل الإعلام الرئيسية ستتواصل في أعقاب الانتخابات.

وفي هذا الإطار، قال كريس بالف، الذي يرأس شركة إعلامية تنتج بودكاست، لصحيفة «نيويورك تايمز» معلّقاً: «لقد بنى هؤلاء المبدعون جمهوراً كبيراً ومخلصاً حقّاً. ومن الواضح أن هذا هو الأمر الذي يتّجه إليه استهلاك وسائل الإعلام، ومن ثم، فإن هذا هو المكان الذي يحتاج المرشحون السياسيون إلى الذهاب إليه للوصول إلى هذا الجمهور».

والواقع، لم يخسر الديمقراطيون بصورة سيئة فحسب، بل أيضاً تحطّمت البنية الإعلامية التقليدية المتعاطفة مع آرائهم والمعادية لترمب، وهذا ما أدى إلى تنشيط وسائل الإعلام غير التقليدية، وبدأت في دفع الرجال من البيئتين الهسبانيكية (الأميركية اللاتينية) والفريقية (السوداء) بعيداً عنهم، خصوصاً، العمال منهم.

يرى الخبراء أن تقييمات متابعة التلفزيون والصحف التقليدية في انحدار مستمر ومن غير المرجّح أن يُغيّر فوز ترمب هذا المأزق

تهميش الإعلام التقليدي

لقد كانت الإحصاءات تشير إلى أن ما يقرب من 50 مليون شخص، قد أصغوا إلى «بودكاست» جو روغان مع ترمب، حين قدم تقييماً أكثر دقة لمواقفه ولمخاوف البلاد من المقالات والتحليلات التي حفلت بها وسائل الإعلام التقليدية، عن «سلطويته» و«فاشيته» لتدمير المناخ وحقوق الإجهاض والديمقراطية. ومع ذلك، لا تزال وسائل الإعلام، خصوصاً الليبرالية منها، تلزم الصمت في تقييم ما جرى، رغم أن توجّه الناخبين نحو الوسائل الجديدة عُدّ تهميشاً لها من قِبَل الناخبين، لمصلحة مذيعين ومؤثّرين يثقون بهم. وبالمناسبة، فإن روغان، الذي يُعد من أكبر المؤثّرين، ويتابعه ملايين الأميركيين، وصفته «سي إن إن» عام 2020 بأنه «يميل إلى الليبرالية»، وكان من أشد المؤيدين للسيناتور اليساري بيرني ساندرز، وقد خسره الديمقراطيون في الانتخابات الأخيرة عند إعلانه دعمه لترمب. وبدا أن خطاب ساندرز الذي انتقد فيه حزبه جراء ابتعاده عن الطبقة العاملة التي تخلّت عنه، أقرب إلى ترمب منه إلى نُخب حزبه، كما بدا الأخير بدوره أقرب إلى ساندرز من أغنياء حزبه الجمهوري.