جاك تشارلتون... عملاق كرة قدم استحوذ على قلوب البريطانيين

كان أسطورة كرة القدم الإنجليزية جاك تشارلتون هو الإنجليزي المفضل لدى الشعب الآيرلندي، وكان مشعوق جماهير نادي ليدز يونايتد، كما كان يحظى بحب واحترام الجميع في عائلة تشارلتون. توفي جاك قبل فجر السبت في منزله بمقاطعة نورثمبرلاند وهو نائم عن عمر يناهز 85 عاماً بعد معاناته من سرطان الغدد الليمفاوية والخرف لأكثر من عام.
وخلال مسيرته الطويلة في عالم كرة القدم، قاد تشارلتون المنتخب الإنجليزي للفوز بكأس العالم عام 1966، وقضى 23 عاماً مع نادي ليدز يونايتد، وتولى تدريب المنتخب الآيرلندي وقاده للتأهل لنهائيات كأس العالم مرتين. وعلاوة على ذلك، حقق تشارلتون بعض النجاحات في مجال التدريب مع نادي ميدلسبره وحصل معه على لقب أفضل مدير فني عام 1974، كما قاد نادي شيفيلد وينزداي وساعده في تجنب الهبوط. وعلاوة على ذلك، عمل تشارلتون لفترة قصيرة مع بول جاسكوين في نادي نيوكاسل يونايتد.
لكن تشارلتون كان عملاقاً من نوع مختلف، حيث كان ينتمي للطبقة العاملة كعامل مناجم وهو في الخامسة عشرة من عمره، كما كان واحداً من أوائل الذين انضموا إلى الأسطورة الإنجليزية برايان كلوف في انتقاده الشديد للجبهة الوطنية العنصرية في عام 1977، في الوقت الذي كانت فيه الرياضة تنأى بنفسها عن السياسة وعن القضايا الاجتماعية. ولو كان كلوف وتشارلتون على قيد الحياة الآن لنزل كل منهما على ركبته دون تفكير لمناهضة العنصرية.
أول من أمس، أمطره عشرات من المعجبين الذين عرفوه شخصياً أو سمعوا عنه بالتحية ورووا عنه كثيراً من الحكايات النادرة والطريفة. وكتب داني بيكر، مقدم البرامج السابق على هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، تغريدة على حسابه الخاص بموقع «تويتر» يقول فيها: «ربما تكون قصتي المفضلة في عالم كرة القدم هي كيف كان الصباح التالي للفوز بلقب كأس العالم، حيث استيقظ جاك تشارلتون ليجد زوجين من ضاحية داجنهام لا يعرفهما من قبل في غرفة المعيشة، بينما كانت ميدالية الفوز لا تزال في جيبه».
وكتب جوناثان ويلسون، كاتب عمود عن كرة القدم في صحيفة «الأوبزرفر»، على موقع «تويتر» يقول: «التقيت جاك تشارلتون مرة واحدة فقط، في قطار من ديربي إلى نيوكاسل. لقد قرأ مجلة لبعض الوقت، ووقع على عدد من الأوتوغرافات، ثم صنع كرة من الورق الذي كانت توجد به الشطائر التي كان يأكلها، وظل نحو الساعة يسددها نحو المرمى الذي صنعه من أكواب القهوة».
وهناك كثير من القصص التي تتحدث عن تواصل تشارلتون مع عشاقه ومعجبيه، بدءاً من قيامه بدعوة عمال توصيل الطعام إلى تناول الشاي والبسكويت معه في منزل العائلة، وصولاً إلى قيامه بتوصيل أحد المشجعين الذين تقطعت بهم السبل إلى منزله بحافلة الفريق من شيفيلد.
ويحكي الممثل الآيرلندي الشهير، بريان أوبيرن، عن موقف حدث معه في نهائيات كأس العالم عام 1994 بالولايات المتحدة، قائلاً: «فور إطلاق صافرة النهاية لمباراة آيرلندا ضد إيطاليا في ملعب جاينتس، لم يحتفل تشارلتون وإنما جاء للتأكد من أن المشجع الآيرلندي الذي تم التعامل معه بقوة من قبل الشرطة كان على ما يرام».
وقالت حفيدة تشارلتون، إيما ويلكنسون، التي تعمل مراسلة بقناة «أي تي في» التلفزيونية: «لقد أثرى كثير من الأرواح عن طريق كرة القدم والصداقة والأسرة. لقد كان رجلاً لطيفاً ومرحاً وصادقاً تماماً، وستفتقده عائلتنا بشكل كبير».
وكان تشارلتون أيضاً لاعباً عظيماً، ومعشوقاً للجماهير ومحبوباً من الجميع بسبب ذكائه الكبير وكرمه غير المحدود. وكان وهو وشقيقه، بوبي تشارلتون، نتاجاً طبيعياً للبيئة التي عاشا بها. ولم يكن والدهما، بوب، الذي عمل عاملاً في المناجم طوال حياته، لديه وقت كبير لكرة القدم، لكن والدتهما، إليزابيث، التي كانت تعمل مدرسة، قد لعبت كرة القدم ودربت فريقاً محلياً بإحدى المدارس. وكان أسطورة نيوكاسل جاكي ميلبورن ابن عمها.
لقد تخرج جاك وبوبي تشارلتون - وهما اثنان من أربعة أشقاء كانوا ينامون على فراش واحد في منزل صغير في آشينغتون، شمال نيوكاسل - من سلالة ميلبورن لكرة القدم في شمال شرقي البلاد، لكنهما تحركا في اتجاهات مختلفة. فبينما تألق بوبي تشارلتون في خط هجوم المنتخب الإنجليزي ونادي مانشستر يونايتد ووصل إلى مكانة اللاعبين العظماء في تاريخ اللعبة إلى جانب جورج بست وبيليه وبوبي مور، فإن جاك، الذي يكبر بوبي بثلاث سنوات وأطول منه ببضعة سنتيمترات، اتجه للعب في خط الدفاع. وكان جاك يتميز بالطول الفارع، حيث كان يصل طوله إلى 1.87 متر، وقوته الهائلة وقدرته على الحد من خطورة أفضل المهاجمين.
وقد اتجه جاك للعمل في المناجم لفترة قصيرة وهو في الخامسة عشرة من عمره عندما ترك المدرسة، لكنه لم يحب هذه المهنة كثيراً، كما فكر في الالتحاق بكلية الشرطة، لكنه في اليوم الذي من المفترض أن يجري مقابلة للالتحاق بالكلية اختار بدلاً من ذلك الذهاب إلى ملعب «إيلاند رود» التابع لنادي ليدز يونايتد، الذي سبق أن لعب له عمه، جيم.
وقد رأى بات كيمب لأول مرة في نادي ليدز يونايتد وتزوجها في يناير (كانون الثاني) عام 1958، وأنجب منها ثلاثة أطفال؛ جون وديبورا وبيتر.
وقد لعب الجيش دوراً كبيراً في تشكيل شخصيته أيضاً، حيث قال بعد سنوات من انتهاء خدمته بالجيش: «يمكنك القول إنني ذهبت إلى الجيش صبياً عمره 18 عاماً، وعدت رجلاً عمره 20 عاماً. وبعد الذي رأيته بعيداً عن النادي، لم أكن يوماً ما في حالة مزاجية تسمح لي بالعمل بطريقة سيئة أو وقحة».
وأضاف: «ربما كنت مغروراً بعض الشيء. أتذكر أنني تشاجرت يوماً ما مع جون تشارلز أثناء تنفيذ ركلة ركنية ضدنا، حيث تحدث معي بطريقة سيئة ورددت عليه بطريقة أكثر سوءاً. بعد المباراة عنفني بشدة وقال لي إنه لا يتعين أن أتحدث معه بهذه الطريقة مرة أخرى». وبالفعل، لم يفعل تشارلتون هذا الأمر ثانية.
ويقال إن تشارلتون كان لديه كتاب يحتفظ فيه بأسماء بعض اللاعبين المنافسين الذين كان يرى أنهم بحاجة إلى الترويض في المرة المقبلة التي يلتقون فيها. ويتذكر تشارلتون ذلك قائلاً: «لم نكن نخاف من أحد، بل على العكس كان الجميع يخافون منا - وكان ذلك أمراً ممتعاً».
ومع المنتخب الإنجليزي، دائماً كان تشارلتون يعطي انطباعاً بأنه كان محظوظاً لوجوده إلى جانب هذه الكوكبة من النجوم اللامعة. وبينما كان لاعبو المنتخب الإنجليزي تسيطر عليهم لحظات النشوة والانتصار خلال الثواني الأخيرة من عمر المباراة النهائية لكأس العالم عام 1966 أمام منتخب ألمانيا الغربية، كان تشارلتون لا يزال في كامل تركيزه. وعندما استدار جاك وهو يتصبب عرقاً ليطلب من زميله مور أن يعيد الكرة إلى الوراء، إذا بمور يرسل كرة سحرية إلى جيف هيرست، الذي وضع الكرة في الشباك مرة أخرى، ليقف جاك مشدوهاً وهو يهز رأسه ويضع يديه على قدميه كأنه طفل صغير لا يصدق ما يراه!
وعن تعيينه على رأس القيادة الفنية لمنتخب آيرلندا الشمالية، قال تشارلتون: «لقد أخبرتهم بأن الأمر لا يتعلق بالمال، ولكنه شرف لي أن أتولى هذا المنصب. لقد كتبوا رقماً بالراتب الذي سأتقاضيه على قطعة من الورق، ووضعوا الورقة على الطاولة ووجهوها نحوي. ونظرت إلى الورقة وقلت: إنه ليس مبلغاً كبيراً بالشكل الذي يتناسب مع شرف تولي هذا المنصب!».
ورغم ذلك، كانت هناك بعض الخلافات بين جاك وشقيقه بوبي، ففي عام 1996، اتهم جاك بوبي بعدم زيارة والدتهما عندما كانت تموت. وبدا الأمر كأن هذه اللحظة كانت بداية انقسام شديد بين الشقيقين. وحتى بعد أكثر من 11 عاماً، وعندما كتب بوبي سيرته الذاتية، أعلن فيها أن الخلاف مع جاك ينبع من صدام بين زوجته، نورما صاحبة «الشخصية القوية»، ووالدته. وعلى مدار سنوات، لم يتحدث الشقيقان مع بعضهما. وقال بوبي عن جاك: «إنه شخص عظيم، وأنا شخص عظيم، وهذا كل ما في الأمر وستستمر الحياة».
وفي نهاية المطاف، تصالح الشقيقان، ففي حفل «بي بي سي» لتوزيع جوائز شخصية العام لسنة 2018، بكى معظم من كان في الحفل عندما قدم جاك جائزة لشقيقه بوبي وهو يقول بكل هدوء: «بوبي تشارلتون هو أعظم لاعب رأيته على الإطلاق، وهو أخي».