فرنسا: حكومة التحديات المتعددة

مهمتها إنقاذ عهد ماكرون وتجربته السياسية

فرنسا: حكومة التحديات المتعددة
TT

فرنسا: حكومة التحديات المتعددة

فرنسا: حكومة التحديات المتعددة

شكلت في فرنسا هذا الأسبوع حكومة جديدة برئاسة جان كاستيكس، خلفاً للحكومة الأولى التي شكلت في عهد الرئيس إيمانويل ماكرون برئاسة إدوار فيليب. غير أن المراقبين لفتهم كثيراً بعد إعلان أسماء الوزراء الوزير جيرالد درامانان ابن الـ37 سنة، الذي عهدت إليه في التشكيلة الحكومية الجديدة حقيبة وزارة الداخلية التي ترتدي أهمية استثنائية، إذ أن حاملها، المعروف بصاحب «الأذان الطويلة» هو الجهة التي تصب فيها تقارير المخابرات الداخلية. وهو المسؤول الذي يعرف كل صغيرة وكبيرة.
وليس سرا أن أي رئيس للجمهورية يحرص أن يكون صاحب هذه الوزارة، التي يقع مقرها مقابل قصر الإليزيه - إذ لا يفصل بينهما سوى شارع فوبور سان هونوريه - رجل ثقة ومقرباً منه.
جيرالد درامانان تسلم وزارة الداخلية في الحكومة الفرنسية الجديدة من الوزير السابق كريستوف كاستانير، أحد أقرب المقربين من الرئيس إيمانويل ماكرون. لكن «أخطاء» الأخير حالت دون بقائه في منصبه فأخرج من الحكومة. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن فرنسا ما زالت تعاني من مخاطر الإرهاب ومن «الهبات» الاجتماعية والمظاهرات ومجموعاتها العنيفة وسخونة الضواحي وشكاوى رجال الأمن، ولذا، يتعين أن يكون وزير الداخلية رجلا قديرا، حائزا على ثقة الرئيس ولكن أيضاً على ثقة الأجهزة الأمنية المختلفة.
ويبدو أن ماكرون قد وجد مجمل هذه الصفات في شخص درامانان بحيث تغلب على منافسين أقوياء على المنصب لهم من يدعمهم في محيط رئيس الجمهورية وأبرزهم وزير التربية جان ميشال بلانكير المقرب من بريجيت ماكرون، عقيلة ماكرون. وفي أي حال، فإن «الترقية» الاستثنائية التي حصل عليها درامانان تمثل اعترافا بجديته ونجاحه في وظيفته السابقة إذ شغل، طيلة ثلاث سنوات، حقيبة الميزانية، إلى جانب وزير الاقتصاد برونو لومير. ولعل كان أحد أهم نجاحاته السابقة أنه أقنع الرئيس ماكرون بتغيير نظام الجباية الضريبية بحيث تصبح شهرية ومباشرة كما تشددت، بإشرافه، إدارة الضرائب في ملاحقة المتهربين من دفع الضرائب المستحقة عليهم إلى درجة أنها أخذت تدر على الخزينة حوالي 11 مليار يورو إضافية سنويا.

أصغر وزير داخلية
هكذا إذاً، أصبح درامانان، بإرادة رئاسية، أصغر وزير داخلية في تاريخ «الجمهورية الخامسة» وأحد الأعمدة التي يعول عليها ماكرون للسنتين المقبلتين المتبقيتين من عهده. إلا أن سماء درامانان ليست منقشعة. فيوم تسلمه حقيبته الجديدة، نزلت إلى شوارع العاصمة باريس مظاهرة احتجاجية على تعيينه بسبب اتهامات له بالاغتصاب ساقتها بحقه امرأتان. ويذكر أنه بعدما أغلقت محكمة البداية الملف، أمرت محكمة الاستئناف في باريس بإعادة فتحه في بداية يونيو (حزيران) الماضي. ورغم ذلك، فإن ماكرون ورئيس الحكومة الجديد جان كاستيكس مضيا قدماً في تعيينه. وقال الأخير في مقابلة تلفزيونية يوم الثلاثاء الماضي إنه يؤمن ببراءة الشخص حتى ثبوت جرمه وأنه «يتحمل تماماً» مسؤولية تعيينه.
ومن جانبه، نفى درامانان تهمتي الاغتصاب، وأكد أن العلاقات موضع الشكوى كانت بالتراضي. وفي أي حال، من المؤكد أن إثارة القضيتين مجدداً من شأنها إضعاف موقعه بانتظار حسم محكمة الاستئناف القضية نهائيا. والحال أن الزمن القضائي أبطأ من الزمن السياسي، وبالتالي فإن اهتمام الإعلام والفرنسيين سيركز للأشهر المقبلة على هذه المسألة وليس على عمل وزير الداخلية الجديد.

تغيير دون التوقعات
أيضاً، قبل الإعلان عن التشكيلة الجديدة، كانت دوائر الإليزيه تعد بمفاجآت. وكان الفرنسيون ينتظرون ترجمة لوعود ماكرون بأنه «تغير» وأنه «يريد إعادة إنتاج نفسه من جديد» بمعنى تغيير مساره وخياراته. لكن التشكيلة الحكومية لم تكن على قدر التوقعات. والمفاجآت الموعودة انحصرت بتعيين المحامي أريك دوبون موريتي وزيرا للعدل وروزلين باشلو وزيرة للثقافة.
الأول ليس شخصية نكرة. بل هو أحد أساطين سلك المحاماة. ثم إن هذا الرجل، الضخم الجثة، الجهوري الصوت كان «بعبع» المحاكم. ورجل الملفات الصعبة والقضايا المثيرة. إنه ابن لمهاجرة إيطالية كانت تعمل خادمة في المنازل ولأب فرنسي توفي عندما كان إريك في الرابعة من عمره. وهذا الرجل البالغ من العمر 59 سنة، بدأ العمل في صغره لإكمال دراسته واختار المحاماة. وشيئا فشيئا، ذاعت شهرته في شمال فرنسا حيث كان يقيم وتمددت بعدها إلى كل أنحاء البلاد. تخصص في الدفاع عن القضايا الجنائية الشائكة والميؤوس منها. لا فرق لديه بين مجرم وغير مجرم وحقق نجاحات وبرأ عشرات الأشخاص. وبالفعل يعد «وحش» المحاكم. ولعب أدوارا في السينما وصعد إلى خشبة المسارح.
أيضاً، طلبت إذاعة «أوروبا رقم واحد» من دوبون موريتي أن يكون معلقا صباحيا وذلك رغبة منها في توفير دعم ودعاية لإذاعته. كيف لا وهو الخطيب المفوه، الذي يهابه القضاة وخصومه من المحامين. هذا، وسبق أن تقدم بشكوى ضد الدولة بسبب مراقبة هاتفه الشخصي وقامت قيامة القضاة لتعيينه في هذا المنصب الحساس بسبب معاداته لهم ومشاريعه لإصلاح الجهاز القضائي. ويروى أن جان كلود ديكو، وهو أحد أهم رجال الأعمال في فرنسا، دعاه يوما للغداء من أجل استشارته في شؤون مصالحه. وجاء رد الوزير الجديد: «لا أفهم شيئا بهذا الخصوص. لكن إذا قتلت زوجتك يوما، فسأكون إلى جانبك».
بدورها، روزلين باشلو، المولودة في العام 1946. ليست جدية في عالم السياسة والنيابة والوزارة. بل تقلبت في العديد من المناصب الوزارية في عهدي الرئيسين جاك شيراك ونيكولا ساركوزي. وأول منصب وزاري لها كان في العام 2002. عندما عينت وزيرة للبيئة والتنمية المستدامة ثم وزيرة للصحة والشباب والرياضة قبل أن توكل إليها مهمة إدارة وزارة العمل والشؤون الاجتماعية ولاحقا وزارة الثقافة. ومنذ خسارة اليمين للانتخابات الرئاسية في العام 2017. قررت التوقف عن العمل السياسي وتحولت إلى معلقة إذاعية وتلفزيونية قبل أن تُستدعى مجددا إلى «فردوس» الحكم. وحقاً، بين استطلاع للرأي أن تعيين موريتي وباشلو يحظى برضى الفرنسيين.

«إلى اليمين دُر!»
لا يمكن فهم التشكيلة الحكومية الجديدة ما لم يؤخذ الوضع السياسي والاقتصادي العام في فرنسا بعين الاعتبار. ونادرا ما يحصل إجماع في الرؤية لدى المحللين والمراقبين والطبقة السياسية إزاء الأحداث والتحولات التي تعيشها البلاد. إلا أن كثيرا من الإجماع تحقق في النظرة إلى حكومة كاستيكس، فمسيرة رئيسها نفسه كانت محصورة في الوظائف الحكومية العليا، التي تبقيه بعيداً عن الأضواء.
حتى الربيع الماضي، كانت غالبية الفرنسيين تجهل وجود كاستيكس، الآتي من صفوف حزب «الجمهوريون». فرئيس الحكومة الجديد كان موظفا «كبيرا»، شغل سابقاً منصب مساعد أمين عام قصر الإليزيه في عهد الرئيس نيكولا ساركوزي. كما عمل مديراً لمكتب وزير الصحة السابق كزافيه برتراند. وهو ينتمي إلى اليمين الكلاسيكي ممثلا بحزب «الجمهوريون»، وتحديداً، إلى ما يسمى جناح «الديغولية الاجتماعية» أي الليبرالية ذات الوجه الاجتماعي المؤمن بالدولة وبدورها في الاقتصاد.
وللعلم، في رئاسة الحكومة خلف كاستيكس اليميني إدوار فيليب اليميني أيضا. لكن الجديد أن الحكومة المشكلة ازدادت يمينية، ووزراء اليمين يمسكون بالحقائب الرئيسة باستثناء حقيبتي الخارجية والدفاع. إذ الأولى بقيت معقودة اللواء للوزير جان إيف لو دريان والثانية لفلورانس بارلي وكلاهما يأتي من صفوف اليسار. وفي المقابل، فإن وزارات الاقتصاد (برونو لو مير) والثقافة (روزلين باشلو) والعدل (أريك دوبون موريتي) والداخلية (درامانان) والتربية والشباب والرياضة (جان ميشال بلانكير) والتجارة الخارجية (فرانك ريستير) والعمل (برجيت كلينكير) والشؤون الأوروبية (أملي دو مونشالون) وما وراء البحار (سيباستيان لوكورنو) كلها رست لدى وزراء جاءوا من اليمين ما يبين بشكل قاطع أن الرئيس ماكرون يريد الاستناد إلى هؤلاء من أجل معركته الرئاسية المقبلة في ربيع العام 2022. ونقلت صحيفة «لو موند» عن مصادر مقربة من ماكرون أن «اليمين يمسك بعنان الحكومة بحيث لم يترك لليسار سوى الفضلات». أما النائبة كلير بيتولا المنتمية إلى الحزب الرئاسي «الجمهورية إلى الأمام» فقد نبهت إلى ضرورة الالتفات إلى النجاحات التي حققها الخضر والاشتراكيون في حين اعتبر كثيرون أن الحزب الذي أراده ماكرون في العام 2016 تخطيا لليمين واليسار على السواء آخذ بالتحول إلى حزب متموضع على يمين الوسط. ومنذ الأشهر الأولى لولايته وبعد أشهر قليلة من انتخابه، علقت بـماكرون صفة «رئيس الأغنياء» بعدما سارعت حكومته إلى إلغاء الضريبة على الثروة، بحجة تشجيع الأثرياء على البقاء في فرنسا والاستثمار في اقتصاد البلاد. ورغم المطالبة بإعادة هذه الضريبة التي رفعها محتجو «السترات الصفراء» فإن ماكرون رفض قطعيا الاستجابة لها، كما رفضت الحكومة فكرة فرض ضريبة على الأرباح الموزعة على كبار المساهمين في كبريات الشركات لمواجهة الوضع الاقتصادي والاجتماعي الناتج عن توقف الاقتصاد خلال الأشهر الثلاثة المنقضية.

الأولويات الحكومية
استبق الرئيس الفرنسي الإعلان عن تشكيل الحكومة الجديدة بمجموعة تغريدات حدد فيها الأولويات والخطوط العريضة لعملها للعامين المقبلين إذ أن المتعارف عليه أنها ستبقى في السلطة حتى نهاية ولاية ماكرون (الأولى). بالطبع، لم يأت الرئيس الفرنسي بجديد، إذ أنه تناول هذه الملفات في كلماته للفرنسيين منذ تفشي جائحة «كوفيد - 19» على نطاق واسع بدءا من مارس (آذار) الماضي. كذلك، فقد تحدث مطولاً للصحافة الإقليمية وسيعود للتوجه للفرنسيين يوم 14 يوليو (تموز) الجاري بمناسبة اليوم الوطني الفرنسي. وكان كاستيكس قد أعلن أنه يود الإسراع في المثول أمام الجمعية الوطنية لنيل الثقة، إلا أنه ألزم على التخلي عن مشروعه باعتبار أن الأولوية لرئيس الجمهورية. وبانتظار ذلك، فمن المؤكد أن الأولويات الحكومية تتناول بداية إعادة إطلاق «الماكينة» الاقتصادية التي أصيبت بأضرار بالغة.
والواقع أن الدولة الفرنسية، كما بقية البلدان الرئيسية، وقفت بقوة إلى جانب اقتصادها للتخفيف من الخسائر، وقدمت الدعم المكثف له ولقطاعاته. ووفق الميزانية المعدلة التي قدمتها الحكومة إلى البرلمان في العاشر من يونيو الماضي، فإن كلفة الدعم الحكومي وصلت إلى 136 مليار يورو للعام الجاري وحده. إلا أن هذا المبلغ لا يشكل سوى ربع المبلغ الإجمالي الذي وفرته الحكومة والذي يصل إلى 460 مليار يورو، وهو ما يعادل 20 في المائة من الثروة القومية الفرنسية. وتبين بعض التفاصيل ضخامة المهمة التي يتعين على الحكومة التنكب لها. إذ وفرت الدولة مساعدات متنوعة لقطاع السياحة (18 مليارا) والصناعات الجوية (15 مليارا) والسيارات (8 مليارات) والصحافة والثقافة (1.3 مليار) والشركات التكنولوجية الصغيرة (1.2 مليار)... ولاكتمال الصورة، تتعين الإشارة إلى أن التوقعات الرسمية تفيد أن الناتج الداخلي الخام سيتراجع في 2020 بنسبة 11 في المائة وأن عجز الميزانية سيجاور هذه النسبة بينما القاعدة الأوروبية التي كان معمولا بها تفترض ألا يتخطى حاجز الـ3 في المائة. كذلك، فإن ديون الدولة ستصل إلى 121 في المائة من الناتج الخام، الأمر الذي سيجبر الحكومة على إصدار سندات للعام الجاري ستصل قيمتها إلى 260 مليار يورو.
على ضوء هذه الأرقام والنسب، يمكن أن نعي ضخامة المهمة الحكومية، خصوصاً، أن جهود الدولة لم تكن كافية للحد من تدمير فرص العمل وارتفاع أرقام البطالة بشكل غير مسبوق. ولقد توقعت وزارة الاقتصاد أن تتزايد أرقام العاطلين عن العمل بما لا يقل عن 600 إلى 700 ألف عاطل إضافي، وهو من شأنه إغراق صناديق البطالة ويضرب الرعاية الاجتماعية. ويوماً بعد يوم، تتواتر أرقام التسريحات التي تقوم بها الشركات من كل القطاعات، ومنها تلك التي حازت على أكبر دعم حكومي.
وستكون من مهمات الحكومة، طبعاً، دعم القطاع الصحي الذي أبان عن هشاشته بمناسبة امتحان «كوفيد - 19». ومنذ عدة أسابيع، ينزل العاملون في القطاع الصحي إلى الشوارع للمطالبة بتحسين أوضاعهم وبتنفيذ الوعود التي أغدقت عليهم إبان الأزمة الصحية. كذلك، فإن ماكرون يريد من الحكومة أن تكون فاعلة في الموضوع البيئوي الذي انتدب له وزيرة معروفة بكفاءتها، هي بربرا بومبيلي التي كانت عضوا في حزب «الخضر» قبل أن تتركه وتؤسس حزباً آخر وتنضم، بمناسبة الانتخابات الرئاسية إلى حزب «الجمهورية إلى الأمام».
من ناحية أخرى، كتب ماكرون في تغريدة يوم 5 يونيو الماضي أن إحدى مهمات الحكومة هي «الدفاع عن السيادة الأوروبية». وهذه الدعوة ليست جديدة عند الرئيس الفرنسي لكنها يمكن أن تفهم بأشكال عديدة. والواقع أن ما عناه في هذه التغريدة بالذات هو توفير السيادة الفرنسية والأوروبية في قطاعات حساسة وأولها الدواء. ذلك أن أزمة «كوفيد - 19» بينت كم أن فرنسا عاجزة عن توفير الوسائل الدنيا للحماية من الأوبئة ومنع تحولها إلى جوائح. فمن جهة، تبين النقص الفاضح في توفير الكمامات حتى للجهاز الطبي والصحي. ومنذ بداية الشهر الجاري، تعمل لجنة برلمانية مشكلة من ثلاثين نائباً على جلاء ما قامت به الحكومة لتوفير وسائل الوقاية وصوابية القرارات التي اتخذتها أو تلك التي لم تتخذها. ولا يقتصر العجز والنقص على الكمامات، بل يتناول أيضاً، وخصوصاً، نقص الاختبارات الكافية للكشف عن المصابين بالفيروس. كما تبين النقص في المستشفيات وفي أقسام العناية الفائقة بحيث اضطرت فرنسا إلى ترحيل بعض مرضاها إلى دول الجوار. كذلك، فإن السيادة الطبية تعني توافر الأدوية الضرورية. والحال أن بلدين رئيسيين هما الصين والهند يعدان المزودين الأساسيين للأدوية في العالم، كما أن شركات الأدوية الأوروبية نقلت قسماً كبيراً من إنتاجها إلى بلدان حيث كلفة اليد العاملة رخيصة.
في أي حال، واضح أن مهمات حكومة كاستيكس ليست سهلة التحقيق، خصوصاً، في فترة زمنية محدودة. لكن ماكرون كان بحاجة لدفع سياسي جديد من أجل تناسي هزيمة الانتخابات المحلية والتحضر للاستحقاقات القادمة بكافة أشكالها السياسية والاقتصادية والبيئوية والصحية. فهل ستكون الحكومة الجديدة على قدر التحديات؟

لا تغييرات متوقعة في السياستين الخارجية والدفاعية
> في فرنسا، يعود تحديد السياسة الخارجية والدفاعية لرئيس الجمهورية. والحال أن الرئيس إيمانويل ماكرون أبقى على جان إيف لو دريان في وزارة الخارجية وعلى فلورانس بارلي في وزارة الدفاع التي تسمى اليوم «وزارة الجيوش» أو «القوات المسلحة». ويمكن فهم هذه الاستمرارية على أن سياسة باريس في هذين الحقلين لن يحدث فيها أي تغيير. أما أولى أولوياتها فيبقى الاتحاد الأوروبي وتقويته واندماجه بعد خروج بريطانيا منه. وفي الأسابيع الأخيرة، عادت العلاقة بين ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لتشهد تقاربا واضحا برز في المشروع الفرنسي ــ الألماني المشترك لدفع الاتحاد الأوروبي لبلورة خطة مشتركة لدعم الاقتصاد عبر الاستدانة الجماعية باسم المفوضية.
إلا أن الشغل الشغال لباريس اليوم هو الملف الليبي والجدل القائم بينها وبين تركيا، حيث تبرز فرنسا على أنها المعارض الأول لتنامي النفوذ التركي في ليبيا. وهي ترى فيه خطرا على مصالحها وعلى مصالح أوروبا ليس فقط في هذا البلد ولكن أيضا في شمال أفريقيا وبلدان الساحل. وتعمل باريس على توفير الدعم لمواقفها داخل الاتحاد الأوروبي، ودعت إلى اجتماع يوم 13 يوليو (تموز) الجاري مُخصص للسياسة التركية في ليبيا ومياه المتوسط حيث تفتئت أعمال التنقيب التي تقوم بها أنقره على حقوق عضوين أوروبيين هما قبرص واليونان.
وتريد باريس درس إمكانية فرض عقوبات أوروبية على تركيا. وبالتوازي، عمدت إلى تجميد مشاركتها في عملية «سي غارديان» الأطلسية بعد المواجهة بين فرقاطتها «لو كوربيه» وقطع بحرية تركية في العاشر من الشهر الماضي، عندما سعت الباخرة الفرنسية لتفتيش حمولة سفينة شحن يظن أنها كانت تحمل أسلحة إلى «حكومة الوفاق» الليبية مخالفة بذلك قرارات الأمم المتحدة ومقررات قمة برلين. وتربط باريس عودتها للمشاركة في العمليات بالاستجابة لمجموعة شروط تراها ضرورية لعدم تكرار حوادث الاستفزاز واحترام حظر السلاح إلى ليبيا والتقيد بالقواعد المعمول بها داخل الأطلسي.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.