ليبيا: آفاق الطموح التركي وسط زحمة التدخلات الدولية

خيارات العنف تُشعل قلقاً أممياً

ليبيا: آفاق الطموح التركي وسط زحمة التدخلات الدولية
TT

ليبيا: آفاق الطموح التركي وسط زحمة التدخلات الدولية

ليبيا: آفاق الطموح التركي وسط زحمة التدخلات الدولية

راود الليبيين على مدار تسع سنوات شعور مُهين بأن بلادهم «باتت مرتعاً لأجهزة استخباراتية عديدة»، وأن مجالها الجويّ أصبح مفتوحاً لطائرات أجنبية، كانوا يطلقون على بعضها فيما مضى لقب «فاعل خير». غير أن هذا الشعور بات واقعاً مرئياً، على وقع «حرب طرابلس»، وما تسببت فيه من «فتح شهية» أنظمة دولية وإقليمية، في مقدمها نظام تركيا، دخلت إلى السوق الليبية لعرض بضاعتها، والتربح من أزمتها.
وبقراءة الليبيين أنفسهم، فإن جزءاً من عبثية المشهد، راهناً، يتمثل في صراع دولي بات يعرقل بعضه بعضاً لكثرة أجنداته وتعدّد حساباته؛ فلكل منهم هدف ولجميعهم غاية. ولقد عبَّر عن ذلك وزير ليبي سابق في حديثه إلى «الشرق الأوسط»، فقال: «كان صراعنا في البدء مناطقياً داخلياً منذ إسقاط نظام معمر القذافي، إلا أن قوى دولية مختلفة عملت على تغذيته، وتعاظم أكثر مع دخول تركيا على خط الأزمة».
هناك، عند منتصف الساحل الليبي، بين طرابلس العاصمة وبنغازي، وتحديداً، على بُعد 450 كيلومتراً، تتقاطع المصالح الدولية حول سرت. ويجري التجهيز لمعركة فاصلة، ربما تكون الأكثر دمويةً في البلاد، تحشد لها تركيا عدةً وعتاداً منذ شهر وأكثر دعماً لـ«حكومة الوفاق»، برئاسة فائز السراج، في مواجهة قوات «الجيش الوطني الليبي»، بقيادة المشير خليفة حفتر، وكأن مصير هذه المدينة أن تكون شاهداً على تحوّلات جذرية، بدأت بمقتل معمر القذافي في إحدى ضواحيها، وربما تنتظر مشهداً جديداً في قادم الأيام.
الملاحَظ أنه منذ إطلاق حفتر الحرب على طرابلس، تبدَّلت مواقف دولية، وظهرت أخرى كانت خافتة، إلى العلن، على مسرح الأحداث. ومع ذلك لا تتوقف غالبيتها عن بث رسائل الطمأنة بأنه «لا حل عسكرياً في ليبيا»، وأن الأزمة «لا بدّ من أن تنتهي على طاولة التفاوض السياسي»، لكن فوق طاولة مشابهة أُجريت اتفاقات وعقدت صفقات.

إردوغان وماكرون
لم تهدأ أنقرة، منذ إعلان «تحرير» الحدود الإدارية للعاصمة، في الرابع من يونيو (حزيران) الماضي. ولعلها لن تكتفي بما تحقق. ذلك أن ما سيطرت عليه - وفقاً لموالين لـ«الجيش الوطني» - عبارة عن أراض صحراوية تخلو من آبار النفط. لذا ينفخ الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، الذي تحظى تحركاته هناك برضا أميركي، في نار الحرب، سعياً لإشعالها، على أمل أن يتجاوز خط سرت - الجفرة، ويقترب من «الهلال النفطي». ولذا، تجاهل كل المبادرات والدعوات المنادية بوقف الحرب.
من ناحية ثانية، فإن مسؤولي الحكومة التركية بدأوا يتحدثون بلسان «حكومة الوفاق»، ويحدّدون شروطاً لوقف إطلاق النار، بما معناه أن الحرب ماضية في طريقها، وهو ما أغضب كثيرين من مواطني غرب ليبيا. وذهب المحلل السياسي عبد العظيم البشتي، في حديث لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «الارتهان للديكتاتور إردوغان يزداد يوماً بعد يوم... وهو سيستغل استعانة السراج به أبشع استغلال». لكنه يستدرك، فيقول: «ما كان ذلك ليحدث لولا الحرب (العدوانية) والمدمّرة التي شنها حفتر على طرابلس».
وحقاً، فإن جزءاً من تقاطع المصالح عبّرت عنه فرنسا، عندما أظهرت موقفاً مغايراً باتجاه التحرّكات التركية في ليبيا، نشأ عنه تجاذبات متبادلة في بداية الأمر. وتدرّج تصاعدياً إلى أن اتهم وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لو دريان، تركيا، بمحاولة تكرار «السيناريو السوري» في ليبيا من خلال الدفع بالأسلحة و«المرتزقة» إلى الغرب الليبي، لدرجة دفعت البعض للتساؤل: هل تتحوّل ليبيا إلى ساحة للصراع بين إردوغان وإيمانويل ماكرون؟

كلام لودريان الأخير
موقف فرنسا المتصاعد في مواجهة تركيا، وإن كان البعض يرى أنه ظل مسانداً لحفتر طول أشهر الحرب الـ14. يُعد الأقوى في ظل التباينات التي تبديها أطراف دولية أمام مجلس الأمن الدولي بشأن الأزمة الليبية، فضلاً عن أنه يُوصف بأنه تمكن من «لجم» الموقف التركي، وبات نداً له.
ورداً على الاتهامات التركية لباريس بالانحياز لطرف على حساب آخر، قال لودريان أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الفرنسي: «أسمع أشياء كثيرة عن أن فرنسا اختارت معسكر المشير (خليفة) حفتر. من المهم توضيح كل هذا... نحن ندعم الجيش الوطني الليبي الذي اشتهر على الصعيد الدولي بقتاله ضد (داعش). إننا لا نقدم له دعماً عسكرياً فعالاً، بل المشورة والدعم السياسي»، متحدثاً عن «تغيير في الموقف» بعدما شن حرباً على طرابلس.

«ضحية الجغرافيا»
كثير من المحللين يرجعون السبب في تأخر حسم معركة سرت، ومن ثم، عرقلة الطموح التركي، إلى أسباب عدة، من بينها كثرة التدخلات الخارجية على خط المعركة، وما يكتنف ذلك من تضارب مصالح، بغض النظر عما تضمره تلك القوى، ويظهر في إفادات منمقة أمام مجلس الأمن الدولي.
ويربط كثيرون من الليبيين هذه التصرفات الدولية المتباينة بما يرونه أطماعاً في ثروات بلدهم وموقعه الجغرافي، وهي النقطة ذاتها التي انطلق منها الرئيس التركي، عندما تحدث عن حق بلاده في «جغرافيتها القديمة»، وبرّر دخوله ليبيا للدفاع عن مليون ليبي من أصول تركية. لكن الدكتور علي قلمة مرصدي، وزير العمل والتأهيل السابق في «حكومة الوفاق»، قال لـ«الشرق الأوسط» إنه يرى أن أطماع تركيا وكثرة من الدول المتدخلة في الأزمة متعلقة بالموقع الاستراتيجي لليبيا الذي يربط بين أوروبا وأفريقيا، وأن هذا سبب كافٍ للصراعات الدولية حول بلاده، وتابع: «ما نشهده هو بداية للحرب الباردة بين الدول العظمى من جديد، وفق نظرية (قلب العالم)، خصوصاً الدول التي لديها أطماع بالسيطرة على الساحل الشمالي للبحر المتوسط».
وحسب مرصدي، فإن «هناك ارتباطاً وثيقاً بين تحقيق الأمن في كل من ليبيا ومصر. وبالتالي، كان طبيعياً أن نجد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يتحدث عن ضرورة تحقيق الأمن في ليبيا، بوقف الحرب ومنع تخطيها خط سرت - الجفرة. ولا أحد يستطيع أن يجادل في أهمية خطورة ذلك على مصر، لكن ليس لدى تركيا حجة للتدخل في ليبيا، بل هي تستهدف مصالح آنية فقط».
من جانب آخر، يقول مسؤول عسكري بـ«الجيش الوطني» إن «تحركات كثير من الدول الشقيقة والصديقة، وفي مقدمتها مصر وروسيا، التي عرضت للرأي العام العالمي رغبة القيادة العامة في الحوار واستئناف العملية السياسية، ساهمت إلى الآن في إيطاء عجلة الحرب، ووضع إردوغان أمام حرج دولي، غير أن الأطماع التي قادته إلى ليبيا ستدفع به لاستكمال الحرب، بهدف وضع يده على موانئ النفط، كما يزعم أنصاره».
وأردف المسؤول أن الليبيين «يحلمون بيوم يرون فيه دولتهم مستقرة، ذات سيادة محفوظة، وليست بحدود مشرعة أمام مخابرات العالم، وسماؤها تعربد فيها الطائرات الأجنبية التي كان الليبيون يطلقون عليها في السابق (فاعل خير) عندما كانت تستهدف فلول (داعش)».

«العبثية الساخرة»
الواقع أن ثمة نظرةً في ليبيا تعتبر الدورين الروسي والتركي السبب الرئيسي في تأجيج الصراع وإذكاء نار الحرب؛ فالأولى داعمة لـ«الجيش الوطني الليبي»، والثانية تدفع بالسلاح والمرتزقة لـ«حكومة الوفاق». والغريب أنه رغم ذلك، لا تتوقف اللقاءات بين مسؤولي البلدين لبحث الأوضاع في ليبيا. هذا الأمر يثير حيرة الليبيين وسخريتهم، في آن واحد؛ إذ يرى بعضهم أن موسكو وأنقرة تتحاوران وكأنهما في «تمثيلية» مسرحها محاور الاقتتال، ويتساءل هؤلاء «عن الجهات التي تدفع بالأسلحة والمعدات العسكرية الثقيلة، منذ شهر، إلى تخوم مدينة سرت».
هنا يقول مرصدي: «يبدو أن الأطراف الخارجية المتصارعة على الملف الليبي تفاهمت على تقاسم الكعكة قبل أن تتفاهم عليها الأطراف الليبية المتنازعة».
والأربعاء الماضي، أفادت وكالة «الأناضول» التركية بأن رئيس هيئة الأركان التركي يشار غولر بحث، ونظيره الروسي، فاليري جيراسيموف «القضايا الأمنية الراهنة المتعلقة بسوريا وليبيا». وفي اليوم ذاته، نقلت وكالة «إنترفاكس» الروسية للأنباء عن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن موسكو وأنقرة تعملان من أجل التوسط لوقف فوري لإطلاق النار في ليبيا. ونقل أن «الجيش الوطني» مستعد لتوقيع وثيقة تقضي بوقف إطلاق النار، ويأمل أن تتمكن تركيا من إقناع «حكومة الوفاق» - المعترف بها دولياً - بالتوقيع أيضاً.
هذا، وشارك وزير الخارجية الألماني هايكو ماس، الذي تتولى بلاده الرئاسة الدورية لمجلس الأمن، الليبيين سخريتهم. وقال، خلال مؤتمر وزاري لمجلس الأمن عبر الفيديو، حول ليبيا: «في الوقت الذي أغلق العالم بأكمله حدوده، واصلت السفن والطائرات والشاحنات المحملة بالأسلحة والمرتزقة في الوصول إلى المدن الليبية... لقد حان الوقت لإنهاء هذه العبثية الساخرة... فلا مزيد من الطائرات ولا الدبابات ولا الشاحنات أو السفن المليئة بالأسلحة. ولا مزيد من الأكاذيب».
لهذا، اضطرت روسيا أمام الاتهامات التي توجه إليها للتأكيد عبر مندوبها الدائم لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا، على «رفضها» الاتهامات بالانخراط في القتال داخل ليبيا. وأكد المندوب أنه «لا يوجد جندي روسي واحد يقاتل في ليبيا، ولا أدلة على وجود مواطنين روس يقاتلون في ليبيا، بينما هناك مقاتلون آخرون من عدة بلدان، بما فيها الدول التي تتهمنا».
مع ذلك، قال سعد الجازوي، عضو مجلس النواب «المقاطع»، والقيادي بتنظيم «الإخوان»، إن الوجود الكبير للقوات الروسية في صفوف «العدو» يمثل «مطامع لدى موسكو لإعادة تمركزها ورسم خريطة النفوذ على الخريطة الدولية؛ لأنه مما لا شك فيه أن غياب القطب الروسي عن التأثير في المعادلة الدولية نتيجة انقسام الاتحاد السوفياتي جعلها تحاول إعادة تموضعها!».

غوتيريش قلِق
وعكسَ الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، جانباً من التناقضات والتدخلات وتأثيراتها على الأرض، بوصفه أن «التدخل الخارجي في ليبيا بلغ مستويات غير مسبوقة، مع تسليم معدات متطورة وعدد المرتزقة المشاركين في المعارك». وأضاف أن قوات «حكومة الوفاق» تواصل «بدعم خارجي كبير تقدمها نحو الشرق، وهي حالياً على مسافة 25 كيلومتراً من سرت». واستطرد: «نحن قلقون للغاية إزاء الحشد العسكري المثير للقلق حول المدينة، والمستوى المرتفع للتدخل الخارجي المباشر في النزاع، الذي ينتهك حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة، وقرارات مجلس الأمن، وتعهدات الدول المشاركة في (مؤتمر) برلين»، الذي عُقد في يناير (كانون الثاني) الماضي.
واتفق البشتي مع ما ذهب إليه غوتيريش، لكنه قال إن التدخلات «ستشكل دون شك ضغطاً على الوجود التركي في ليبيا، وعلى قواته وميليشياته، وربما يتبع ذلك ضغط من الأمم المتحدة على إردوغان، بدفع (الوفاق) للجلوس إلى الحوار برعاية أممية، وهذا ما نأمله دون شك»، مضيفاً: «ونطالب الأمم المتحدة، إذا ما تحقق ذلك، باتخاذ قرار بضرورة سحب سلاح كل الميليشيات غرباً وشرقاً وجنوباً، والإشراف على حماية الشعب حتى إتمام الانتخابات النيابية والرئاسية».

قوة ضاغطة
أيضاً، أعربت أطراف دولية وعربية عن مخاوفها من خطورة الأوضاع في ليبيا. وقال وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو إن الوضع «لا يزال قلقاً للغاية»، وأرجع ذلك لما سماه «التوازن غير المستقر»، الذي جاء «نتيجة سلسلة من الأخطاء الاستراتيجية خلال السنوات العشر الأخيرة، وآخرها الهجوم العسكري على طرابلس»، وتابع أنه وجَّه دعوة لضبط النفس والاعتدال لرئيس «حكومة الوفاق» خلال زيارته الأخيرة إلى طرابلس «ويجب توجيه الرسالة نفسها إلى قائد (الجيش الوطني) المشير حفتر». ودعا جميع البلدان إلى وقف عمليات نقل الأسلحة، والتعاون «من خلال طريقة مخلصة».
وزير الشؤون الخارجية والتعاون الأفريقي المغربي ناصر بوريطة، أعرب من جهته أمام مجلس الأمن الدولي عن قلقه إزاء التدهور المستمر للوضع في ليبيا، ولفت إلى أن «النوايا الحسنة للمجتمع الدولي متوافرة فيما إرادته السياسية مفقودة». وقال بوريطة إن ليبيا «ليست أصلاً للتجارة الدبلوماسية. والتدخلات الأجنبية لا تخدم مصالحها ولا تساعد الأفرقاء هناك على الارتقاء فوق مصالحهم الخاصة إلى المصلحة المشتركة لجميع الليبيين»، وانتهى إلى أن الحل «يجب أن يكون سياسياً لا عسكرياً، وأن يأتي من الليبيين أنفسهم، ويضمن وحدة ليبيا وسيادتها وسلامتها الترابية».
كذلك جدد أحمد أبو الغيط، أمين عام الجامعة العربية، رفض وإدانة الجامعة كل أشكال التدخلات العسكرية الأجنبية في ليبيا، مطالباً بالوقف الفوري للقتال بين الأطراف الليبية، وشدد على ضرورة خروج جميع القوات الأجنبية والمرتزقة من الأراضي الليبية، واستئناف الحوار الوطني الخالص بين الأشقاء الليبيين للتوصل إلى تسوية متكاملة للوضع في البلاد بمساراته الأمنية والسياسية والاقتصادية. ورأى أن «هذه الجهود وتلك المسارات لا يمكن أن تنجح إلا في مناخ يخلو من كافة التدخلات الأجنبية، وبعيداً عن التهديد الذي تمثله الجماعات والميليشيات المسلحة».
والحاصل أنه في ظل تشبث طرفي الصراع بقوى خارجية، زادت الأزمات الداخلية، وتعقد المشهد الراهن، ما دعا الاقتصادي الليبي الدكتور محسن الدريجة، إلى التعجب من أمر الليبيين «يستعينون بالغرباء بعضهم على بعض، ويتوقعون أن ليبيا ستبقى لهم!».
زمن «الميري»... أيام لا يحب الليبيون تذكرها
> أحيت التبريرات التي أطلقها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان «لشرعنة» وجود قواته على الأراضي الليبية، مخاوف أطياف مختلفة من الشعب، متذكرين فترة طالت لنحو ثلاثة قرون من الحكم العثماني لبلادهم، وصفوها بأنها كانت شاهداً على «العديد من المذابح والأهوال» التي ارتُكبت في أنحاء البلاد.
ومنذ توقيع إردوغان «مذكرتي تفاهم» مع سلطات طرابلس، وهو يحاول اللعب على أن ليبيا «تركية الأصل»، وأنها تضم مليون مواطن من أصول تركية «يستحقون دعمه والتدخل لنجدتهم، والوقوف إلى جانبهم». لكن التصريحات التي أطلقها استقبلها الليبيون بالرفض والاستنكار، مؤكدين على أنهم ليسوا مستعدين للعودة إلى زمن دفع «الميري»، أو «الويركو»، وهو اسم لنوع من الضرائب التي فرضتها الدولة العثمانية على الليبيين آنذاك.
وترصد كتب التاريخ أن هذه الضريبة كانت تُقدّر بـ40 قرشاً قابلة للزيادة يدفعها الذكور سنوياً، كما كانت تُجبى بالمقدار ذاته من أصحاب الحيوانات والمزارع، ويُعاقب الممتنع عن دفعها بالسجن ثلاثة أشهر. وبجانب «الميري» كانت هناك أيضاً ضريبة تُسمى «فتح بندر» تُفرض على من يريد فتح مشروع تجاري، بهدف إتاحة الفرصة لمنافسة التجار الأجانب.
إلا أن ضريبة «العُشر» توصف بأنها كانت الأكثر ظلماً لليبيين، وهي عبارة عن 10 في المائة من قيمة المحاصيل الزراعية، يُجبر الفلاحون على دفعها بغض النظر عن سنوات الجفاف وتضرر الأرضي الزراعية. وكان يُعفى منها الموسرون، في حين كانت تُغلّظ على الفقراء، ما اضطر غالبية الفلاحين إلى مغادرة أراضيهم هرباً من البطش.
الأمر لم يتوقف عند رصد المؤرخين لزمن الجباية، بل تحدثوا عن وقوع مذابح كثيرة في ليبيا بأيدي الأتراك، من بينها مذبحة قبيلة الجوازي، التي تسكن مدينة بنغازي. وفيها قُتِل نحو 10 آلاف شخص خلال شهر رمضان، بسبب نزاع بين الوالي العثماني يوسف باشا القرماني وولده. وهو ما عبر عنه ﻣﻔﺘﻲ ﻟﻴﺒﻴﺎ ﺍﻷﺳﺒﻖ ﺍلطاهر ﺍﻟﺰﺍﻭﻱ، وأورده ﻛﺘﺎﺏ ﻣﻌﺠﻢ ﺍﻟﺒلدان ﺍﻟﻠﻴﺒﻴﺔ، إذ قال إن «العهد التركي في ليبيا كان أسود، وﺍﺳﺘﻤﺮ ﺛﻼﺛﻤﺎﺋﺔ وستين عاماً، عانت فيه طرابلس الفقر والجهل والذل والفوضى فوق ما يتصور إنسان».
تحدث الأكاديمي الليبي أستاذ التاريخ عثمان البدري لـ«الشرق الأوسط» عن فترة الاحتلال العثماني لبلاده، فقال إن «الحكم العثماني لم یهتم بالشؤون الاقتصادية والثقافية في ولاية طرابلس الغرب، التي كان يحتلها مركّزاً فقط على جمع الضرائب فقط من المواطنين». وأردف أن «العثمانیین ضربوا حاجزاً بینهم وبین الأهالي ما أدی إلی انعدام الاختلاط بين الثقافتين، وهو ما انعكس في أن المصطلحات العثمانية لم تنتشر رغم بقائهم فی هذه الولایة لمدة طویلة زادت عن ثلاثة قرون».
من جهة ثانية، رأى فيها المستشار عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب، التبريرات التي أطلقها الرئيس التركي وسيلة تستهدف «ضرب النسيج الاجتماعي الليبي، وإحداث فتنة بين المواطنين».
وقال علي أبو سبيح، رئيس المجلس الأعلى للقبائل والمدن الليبية في المنطقة الجنوبية، إن أهالي منطقة القرضة بوادي الشاطئ ما زالوا يتناقلون قصصَ تصدّي أهلهم لإحدى الحملات العثمانية التي جاءت لإرغامهم على دفع «الميري»، وقال في تصريحات تلفزيونية، إن المواطنين تمكنوا من «دحر حملة الوالي العثماني حينها، وبالتالي يقدرون اليوم على دحر الغزو التركي عن بلادهم».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.