تسعى «المملكة» المعلنة أحادياً في قرية سيبورغا المطلة على الريفييرا الإيطالية إلى انتزاع اعتراف دولي بها بوصفها إحدى أصغر الدول في العالم، في معركة متعددة الأوجه تفتح الباب أمام رهانات سياسية واقتصادية كبيرة.
وتصف نينا مينيغاتو، لوكالة الصحافة الفرنسية، انتخابها أول «أميرة» في تاريخ هذه القرية، بأنه «أشبه بقصص الأحلام». وتزور سيدة الأعمال الألمانية هذه؛ البالغة 41 عاماً، «رعاياها» وتجوب أزقة «المملكة» الصغيرة الممتدة على بضعة كيلومترات مربعة والتي يقطنها 300 شخص.
وتوضح مينيغاتو التي تدير شركة عقارية في موناكو: «لم أكن أتصور يوماً أني سأصبح أميرة»، بعدما تولى زوجها السابق مارتشيلو منصب «أمير» سيبورغا على مدى 9 سنوات.
ويعرض تاجها للسكان والمارة في مكتب هيئة السياحة المحلية المستخدم أيضاً متجراً للتذكارات «الملكية».
ينادي «حكام» هذه القرية الصغيرة في منطقة ليغوريا الإيطالية قرب الحدود الفرنسية بمنح سيبورغا صفة الدولة المجهرية، مستندين إلى وثائق من القرن الثامن عشر يقولون إنها تؤكد أن القرية لم تنضم يوماً قانوناً إلى إيطاليا.
وترتدي هذه المعركة بعداً اقتصادياً يتمثل في تحفيز السياحة وتفادي النزوح السكاني الذي أفرغ الوسط التاريخي لمناطق إيطالية عدة من سكانها.
وترغب «الأميرة» نينا في إعادة استخدام عملة محلية تحمل اسم «لويجينو» وإقامة فندق فاخر على تلة مجاورة تطل على 4 «بلدان» هي: فرنسا وموناكو وإيطاليا... و«إمارة سيبورغا». كذلك تسعى لإنشاء خط لعربات التلفريك بهدف ربط القرية بالساحل.
وليست سيبورغا الدولة المجهرية الوحيدة غير المعترف بها في العالم، غير أن سكان سيبورغا يؤكدون أن الطابع الخاص الذي تتمتع به «إمارتهم» يستند إلى وقائع مثبتة ويبدون تصميماً على انتزاع اعتراف من السلطات الإيطالية بذلك.
في عام 954 انتقلت ملكية القرية إلى الرهبنة البنيديكتية، ويروي السكان أن كاهن سيبورغا أصبح في 1079 أمير الإمبراطورية الرومانية المقدسة. بعدها اشترت السلالة الملكية في منطقة سافوا هذه القرية سنة 1697 من دون أن تسجل العملية رسمياً.
ويؤكد سكان سيبورغا أن هذا الخطأ أبطل مفاعيل العملية، ويؤشر حتى إلى أنها لم تحصل في الأساس، فيما يشير المؤرخون إلى عدم العثور يوماً على الوثيقة الأصلية لعملية البيع. وقد أجريت مفاوضات لسنوات مع فيكتور أميديه الثاني دوق سافوا وملك ساردينيا المستقبلي للتوقيع على عملية البيع رسمياً من دون بلوغ أي نتيجة.
ويقول السكان إن هذا الأمر يعني أن «الإمارة» استثنيت من إعلان توحيد إيطاليا سنة 1861 وتشكيل الجمهورية الإيطالية عام 1946.
هل يمكن بذلك حسبان هذه القرية الزراعية الصغيرة التي يقطنها متقاعدون ولا تضم سوى شارع رئيسي واحد، دولة مستقلة؟
يجيب أستاذ التاريخ في جامعة فيرجينيا الغربية الأميركية ماثيو فيستر عن هذا التساؤل بالنفي، بالاستناد إلى «وثائق تظهر أن وكلاء تابعين لملك ساردينيا استحوذوا فعلاً على سيبورغا سنة 1729 بموافقة سكان محليين ودعمهم».
وتصف الحكومة الإيطالية هذه الادعاءات بأنها خرافات. ولم ترد وزارة الخارجية الإيطالية على أسئلة وكالة الصحافة الفرنسية في هذا المجال.
ورفضت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان طلباً سابقاً من سكان القرية لهذه الغاية، غير أن نينا مينيغاتو لا تزال مصممة على مواصلة الكفاح من أجل استقلال «المملكة» بالاستعانة بفريق جديد من المحامين.
ويقول أستاذ التاريخ المساعد في جامعة جنوا الإيطالية، باولو كالكانيو، لوكالة الصحافة الفرنسية، إن الفكرة تعتمد على خرافة متوارثة؛ لأن الكهنة الذين كانوا يقودون سيبورغا «لم يكونوا أمراء؛ إذ إن هذا اللقب لم يظهر يوماً في الوثائق العائدة إلى القرون الوسطى».
هذا الأمر لم يمنع مزارعاً يزرع لنبات الميموزا يدعى جورجو كاربونه من إعادة إطلاق فكرة إقامة «إمارة سيبورغا» في ستينات القرن الماضي.
وبعدما أعلن نفسه «أميراً» على القرية، وضع دستوراً لها، ونشيداً خاصاً، إضافة إلى راية ملكية، وحتى شعار هو: «أجلسوا في الظل»، على ما يروي غوستافو أوتولينغي؛ وهو متقاعد في سن 88 عاماً من سكان سيبورغا.
كذلك أقام «الأمير» جورجو «جيشاً» لا يضم حالياً سوى رجل واحد هو سيكوندو ميسالي (64 عاماً) شغل أيضاً منصب «وزير» الداخلية والمال ثم «رئيس الوزراء».
غير أن أداء كاربونه خيب آمال كثيرين بعدما أثبت عجزاً عن «إصلاح طريق أو مجرد عمود إنارة في الشوارع» بحسب أوتولينغي.
في الشتاء، تفرغ شوارع القرية الهانئة إلا من حفنة من المتنزهين الفرنسيين، فيما يرتفع عدد السكان صيفاً إلى ألفي شخص مع توافد السياح بالحافلات في رحلات استكشافية نهارية.
ويكون في استقبال هؤلاء عادة الجندي الوحيد في «الإمارة» بقبعته الزرقاء وبزته الأنيقة في ساحة القرية المركزية.
ويقول هذا الرجل إنه يشعر بالانتماء إلى «إيطاليا وسيبورغا معاً». وعلى غرار سائر سكان القرية، هو يدفع ضرائبه إلى السلطات في روما ويدلي بصوته في الانتخابات الإيطالية. لكنه يؤكد أن سيبورغا هي «أرضه بالتبني».
وبالإضافة إلى مهام الحراسة اليومية، يملك هذا الرجل مفاتيح السجن الصغير في القرية، وهو ليس سوى غرفة حجرية صغيرة بأرضية مغطاة بالقش لم تستقبل أي نزيل منذ قرون.
وبحسب الأخبار المتداولة في القرية، فإن «فرسان الهيكل» أخفوا قبل نحو ألف سنة «الكأس المقدسة» في سيبورغا. ولا يتوانى القائمون على «الإمارة» الصغيرة عن الترويج لهذا الأمر عبر تزيين المنازل الحجرية الصغيرة بصور لـ«فرسان الهيكل» أو من خلال توجيه السياح إلى ساحة صغيرة يشكل الحصى المنتشر فيها شكل صليب هذا التنظيم.
غير أن الخبيرة في تاريخ هذا التنظيم في جامعة كارديف، إيلينا بيلومو، تشكك في هذه النظرية، واصفة إياها بأنها من «الخرافات المعاصرة». وتقول: «لا دليل على وجود (فرسان الهيكل) بمنطقة سيبورغا في القرون الوسطى».
ولإكمال هذا المشهد السريالي في القرية، يطالب فرنسي منذ 2016 بحقه في «التاج الملكي»، معلناً نفسه «أمير سيبورغا صاحب السمو الملكي» نيكولا الأول.
وقد أحاط الفرنسي نيكولا موت نفسه بـ«مستشارين» وأقام في دارة بالقرية، كذلك أنشأ موقعاً إلكترونياً عن هذه «الدولة» الصغيرة، منادياً بـ«القيم العالمية الأساسية» و«حماية البيئة».
ويواجه موت اتهامات قضائية في فرنسا في إطار تحقيق لا يزال مستمراً بشأن قضايا تزوير جوازات سفر وعملات، وهو ما ينفيه.
ويوضح موت لوكالة الصحافة الفرنسية أنه بدأ مساراً يرمي لانتزاع اعتراف خارجي به على أنه «أمير»؛ بدءا بالبرازيل التي يقول إنها منحته اعترافاً دبلوماسياً.
غير أن وزارة الخارجية البرازيلية نفت هذا الادعاء.
وقد ترك الرجل القرية في مارس (آذار) الماضي قبيل فرض تدابير الحجر لمكافحة فيروس «كورونا» المستجد.
ويقول غوستافو أوتولينغي، وهو مؤلف كتاب عن تاريخ سيبورغا، إن «أي أحد لا يمكنه منع أي كان» من إعلان نفسه ملكاً أو دوقاً أو أميراً في المنطقة.
وبالفعل، ثمة كثر نصبوا أنفسهم في هذا الموقع؛ بينهم تنظيم يصف مسؤولوه أنفسهم بأنهم «مدافعون عن الوسط المسيحي» في سيبورغا.
ووسط كل هذه المعمعة، يبقى رجل مصمماً على سيادة القانون في القرية؛ هو رئيس البلدية إنريكو إيلاريوتسي الذي يؤكد أنه على تواصل دائم مع الشرطة الإيطالية. وهو يقول: «لا مكان للأمراء المزيفين أو النصابين في سيبورغا أيّا كانوا».
«مملكة» صغيرة على الريفييرا الإيطالية تسعى لانتزاع اعتراف باستقلالها
«مملكة» صغيرة على الريفييرا الإيطالية تسعى لانتزاع اعتراف باستقلالها
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة