قصائد الآباء عن الأبناء

أهم الانطولوجيات الشعرية العربية خلت منها

أحمد شوقي - بدر شاكر السياب - عبد الرزاق عبد الواحد
أحمد شوقي - بدر شاكر السياب - عبد الرزاق عبد الواحد
TT

قصائد الآباء عن الأبناء

أحمد شوقي - بدر شاكر السياب - عبد الرزاق عبد الواحد
أحمد شوقي - بدر شاكر السياب - عبد الرزاق عبد الواحد

في قصيدة للشاعر السوري عمر بهاء الدين الأميري، نقرأ تفاصيل كثيرة عن الأطفال وصخبهم اللذيذ، ومرثية في الوقت نفسه لتلك الأيام التي بدأ الشاعر يبحث عنها فلا يجدها، إن مثل هذه القصائد قد لا يتفاعل معها غير المتزوجين؛ لأنها تتحدث عن تفاصيل لا يمكن التفاعل معها من خلال التخيل فقط، إنما الغوص في تلابيبها سيمنحك طاقة للتلقي. وهي ذكرتني بقصيدة للشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، كنَّا قبل الزواج نتهكم عليها لأننا لا نشعر بصدقها، وواقعيتها المحببة، حيث يقول في مطلعها:
لا تطرق الباب تدري أنَّهم رحلوا
خذ المفاتيح وافتح أيُّها الرجل
فهذا المطلع كان مصدر سخريتنا بصراحة، ولكن حين تزوجتُ، وأنجبت أطفالاً، رجعتُ لقصيدة عبد الرزاق عبد الواحد تلك، وقد ندمت كثيراً لأني تعاملت بسخرية مراهقة مع نص حقيقي يختصر رحلة الأب، وتعبه، ومن ثم يتركه أبناؤه بمجرد أنْ يكبروا.
أعود إلى الإشارة التي بعثها مهند، فقصيدة «عمر بهاء الدين الأميري» وقصيدة «عبد الرزاق عبد الواحد» رغم فخامة البناء التقليدي في نصيهما إلا أنهما نصَّان منغمسان في الحياة بكل تفاصيل البيت، وشغب الأطفال، ولعبهم، وشكواهم، وقد كنتُ أظن أنَّ هذه التفاصيل اليومية للبيت والعائلة لا يمكن أنْ تنتجها الهياكل الكلاسيكية، إنَّما هي بنت الحداثة، وعلى وجه التحديد بنت قصيدة النثر، التي من الممكن أنْ يكون فيها جدول مختلف تستحم فيه العائلة وتفاصيلها، فحتى النص الذي كتبه السياب عن ابنه غيلان «مرحى غيلان» لم يكن يتحدث عن تفاصيل الطفل مع أبيه، إنما كتب باستعارات وصور تشبيهية وتناصات أكبر من حجم وتلقائية الأطفال (ينساب صوتك في الظلام إليَّ كالمطر الغضير- ينساب من خلل النعاس وأنت ترقد في السرير- من أي رؤيا جاء؟ أي سماوة؟ أي انطلاق...) مع العلم أنَّ الشعر العربي لم يخل على الإطلاق من هذه الحميمية ما بين الأب وأطفاله، ولكن الغريب أن أهم الأنطولوجيات الشعرية - كما أظن - وهما ديوان الحماسة لأبي تمام، وديوان الشعر العربي لأدونيس، خاليان تماماً من أي شعر خاص وذاتي للشاعر مع أطفاله، ما عدا باباً يمكن أنْ يكون في جزء منه للعائلة وضعه أبو تمام في نهاية حماسته، ولكنه للأسف أسماه بـ«باب مذمة النساء» وما تحفل به الذاكرة الآن هو أشعار رثائية قيلت لأبناء الشعراء المتوفين، كقصائد ابن الرومي، أو قصيدة أبو تمام في رثاء ابنه، ورثائيات كثيرة جداً مثل هذا النوع، ولكننا لم نحفل كثيراً بنصوص تدوّن تفاصيل الأبناء، بطريقة حميمية مثلما فعل «أحمد شوقي» في قصيدته عن ابنته «يا حبذا أمينة وكلبها» حيث يقول:
يا حبذا أمينة وكلبُها
تحبُّه جداً كما يحبُّها
أمينتي تحبو إلى الحولين
وكلبها يناهز الشهرين
يلزمها نهارها وتلزمُه
ومثلما يكرمها لا تكرمه
فعندها من شدة الاشفاقِ
أنْ تأخذ الصغير بالخناقِ
في كل ساعة لها صياحُ
وقلَّما ينعمُ أو يرتاحُ
ولكن ما فعله عمر بهاء الدين وعبد الرزاق عبد الواحد أمرٌ مختلف، حيث نبرة الرثاء المختلفة عما تعودناه من رثائيات، فعمر بهاء الدين يقول في قصيدته والذي يُقال إن العقاد قال عنها «لو كان للأدب العالمي ديوان لكانت هذه القصيدة في طليعته»
أين الضجيج العذب والشغبُ
أين التدارس شابه اللعبُ؟
أين الطفولة في توقدها؟
أين الدمى في الأرض والكتبُ؟
أين التشاكس دونما غرضٍ؟
أين التشاكي ما له سبب؟
ثم يستغرق الأميري في تفاصيل أكثر حميمية وأبلغ حزناً وهي عبارة عن يوميات يعيشها كل أبٍ مع أطفاله؛ لذلك قال عنها العقاد إنها في طليعة الشعر العالمي، فالأميري يقول:
أين التسابق في مجاورتي
شغفاً إذا أكلوا وإنْ شربوا
فنشيدهم «بابا» إذا فرحوا
ووعيدهم «بابا» إذا غضبوا
بالأمس كانوا ملء منزلنا
واليوم ويح القلب قد ذهبوا
ثم يغوص الأميري بعد أن يكبر أبناؤه ويتفرقوا بعيداُ عنه، فليس له من مفرٍ إلا الذاكرة واستدعاء شغب الأطفال الذي يتمنَّاه الآن، ويكرهه في شبابه، حيث يقول:
في كل ركن منهم أثرٌ
وبكل زاوية لهم صخبُ
في النافذات زجاجها حطموا
في الحائط المدهون قد ثقبوا
في الباب قد كسروا مزالجه
وعليه قد رسموا وقد كتبوا
بعدها يختمها
هيهات ما كل البكا خورٌ
إني وبي عزم الرجال أبُ
عمر بهاء الدين استطاع أنْ يحول هذه التفاصيل التي تمر على كل أبٍ في هذا العالم من هامشها المزعج إلى نافذة يطل منها على ذاكرة، وكأنها مرثية لأيامه التي كان يلعب بها مع أبنائه ويصيح عليهم، أقول استطاع دون أنْ يتكلف وهو محبوس داخل الشطرين في أنْ يصنع نصاً نابضاً بالحركة والحياة، وكأنَّ قارئه يمسك بالأطفال وهم يرسمون على الأبواب، وهم يثقبون الجدران، وهم يتزاحمون على الجلوس مع الأب، كل هذه الحركة وغيرها كثير في النص، صنعها الصدق في القصيدة، وليست الدربة أو المهارة الشعرية، أو الاستعارات، إنما القصيدة خالية من البلاغة المعتادة، وتكاد تخلو من الصورة الشعرية بمعناها البلاغي، في حين القصيدة كاملة هي عبارة عن صورة في ألبوم احتفظ به صاحبه ليخرجه بعد أكثر من عشرين عاماً، يندب فيه تلك الأيام بأقل الكلمات وأبسطها إلى القلب؛ لأنها صادقة ومعبرة، وصدق التجربة متضافر مع الهم الكوني، يجعل من القصيدة مناخا يشترك فيه العالم كله؛ لذلك قال العقاد عن هذه القصيدة أنها ستقف في مقدمة الشعر العالمي، لأنها لو ترجمت سيتلقاها كل الناس ومن كل الاتجاهات بقبول وبتفاعل كبير لأنها تتناول هماً إنسانياً مشتركاً.
وبسبب هذا النص الذي اطلعتُ عليه تذكرت قصيدة عبد الرزاق عبد الواحد، تلك التي كنتُ أسخر من مطلعها، ولكني عاقبت نفسي فيما بعد، بأنَّي رحتُ أسخر من نفسي؛ وذلك لأنَّ النص قد لا يتفاعل معه العزَّاب كما ذكرت، والنص بصراحة مختلف عن تجربة عبد الرزاق عبد الواحد، تلك التجربة التي اعتدنا على جرسها العالي، وعلى لغتها الفخمة، وبنائها المتين، وسبكها الذي لا يقبل الضعف أو الهنة، إلا أنه هنا في هذه القصيدة يخرج عبد الرزاق عبد الواحد الإنسان وليس الشاعر المحترف، الذي قد يتحول الشعر بين يدي المحترفين إلى عادة بسبب التكرار، فتنطفئ لحظتها جمرات الدهشة، أعود إلى نص عبد الرزاق عبد الواحد حيث يقول:
لا تطرق الباب تدري أنَّهم رحلوا
خذ المفاتيح وافتح أيها الرجل
أدري ستذهب تستقصي نوافذهم
كما دأبت، وتسعى حيثما دخلوا
تراقب الزاد هل ناموا وما أكلوا؟
وتطفئ النور... لو... لو... مرة فعلوا
ثم يغوص عبد الرزاق كما غاص بهاء الدين بتفاصيل حميمية يمرُّ بها الآباء
لا تطرق الباب كانوا حين تطرقها
لا ينزلون إليها... كنتَ تنفعلُ
ويضحكون وقد تقسو فتشتمهم
وأنت في السر مشبوب الهوى جذلُ
حتى إذا فتحوها والتقيتَ بهم
كادت عيونك فرط الحب تنهملُ
عبد الرزاق عبد الواحد يتنازل من علياء قصيدته التي عُرف بها واندمغ أسلوبه بفخامة البناء، ينزل لهوامش الهوامش في بيته بعد أنْ كبر أولاده، وكلٌّ في جهة قد غادر يقول:
لا تطرق الباب، من يومين تطرقها
لكنهم يا غزير الشيب ما نزلوا
ستبصر الغرف البكماء مطفأة
أضواؤها، وبقاياهم بها هملُ
قمصانهم، كتبٌ في الرفِّ أشرطة
على الأسرِّة عافوها وما سألوا
كانت أعزَّ عليهم من نواظرهم
وها عليها سروب النمل تقتتلُ
وسوف تلقى لقىً كم شاكسوك لكي
تبقى لهم، ثم عافوهنَّ وارتحلوا
خذها لماذا إذن تبكي، وتلثمها
كانت أعزَّ مناهم هذه القبلُ
يشترك هنا عبد الرزاق عبد الواحد مع عمر بهاء الدين في هذه القصيدة بخصيصة الصدق، وليست البلاغة المعتادة، إنَّها بلاغة البيوت التي تفرغ، وبلاغة الحنين الذي ينزف، وبلاغة الذاكرة التي تنوء بحركة الأطفال الذين كبروا بسرعة، وغادروا بسرعة، هذه البلاغة فرضتها طبيعة الموضوعة المعالجة، فغيرت بجوهر الكتابة لدى الشاعر نفسه، فعبد الرزاق عبد الواحد وعلى الرغم من محافظته في هذا النص على البناء العالي، وهذه طبيعة العراقيين في الكتابة على ما يبدو، فإنه استطاع أنْ يوظف الهامش اليومي الذي يمر على كل أبٍ وفي كل يوم، من دون صور استعارية أو تشبيهية، فما الذي يصنع من تفاصيل الأطفال وعراكهم وصراخهم شعرية عالية؟ وهي خالية من الاستعارات والصور التي اعتدنا عليها؟ إذن هو الصدق الملفوف باللغة والمختمر بالتجربة سينتج خبزة ساخنة في تنور القصيدة، عندها فقط سنعترف بأنّ «أجمل الشعر أصدقه»، وبأنَّ الصدق في القصيدة هو الاستعارة الكبرى التي لا تضاهيها أكثر الصور مهارة، وبأي شكلٍ من أشكال الكتابة.



ثلاثة أفلام تسجيلية تمر على أحداث متباعدة

من «واحد لواحد: جون ويوكو» (مركوري ستديوز)
من «واحد لواحد: جون ويوكو» (مركوري ستديوز)
TT

ثلاثة أفلام تسجيلية تمر على أحداث متباعدة

من «واحد لواحد: جون ويوكو» (مركوري ستديوز)
من «واحد لواحد: جون ويوكو» (مركوري ستديوز)

«ماريا»، الذي سبق وتناولناه هنا قبل يومين، ليس سوى أحد الأفلام المعروضة على شاشة الدورة 81 لمهرجان «ڤينيسيا»، (انطلق في 28 من الشهر الماضي وتسدل ستارته في 7 سبتمبر «أيلول» الحالي)، الذي يتناول حياة شخصيات شهيرة. إذ إن هناك أفلاماً عدّة تتحدّث عن شخصيات حقيقية أخرى بينها ثلاثة أفلام غير درامية.

إنها أفلام وثائقية وتسجيلية عن أسماء مشهورة تتباعد في أزمانها وشخصياتها كما في أدوارها في الحياة. هناك «رايفنشتال» عن المخرجة الألمانية ليني رايفنشتال التي عاشت نحو 101 سنة، و«جون ويوكو» عن حياة المغني جون لينون (من فرقة البيتلز) والمرأة التي ارتبط بها، كذلك يطالعنا فيلم المخرج التسجيلي إيرول موريس «منفصلون» الذي يتناول بعض ما تمر به الولايات المتحدة من أزمات بخصوص المهاجرين القادمين من فنزويلا وكولومبيا ودول لاتينية أخرى.

في هذا النطاق، وبالمقارنة، فإن «ماريا» للمخرج التشيلي بابلو لاراين، يبقى الإنتاج الدرامي الوحيد بين هذه المجموعة متناولاً، كما ذكرنا، الأيام الأخيرة من حياة مغنية الأوبرا.

المخرجة المتّهمة

«رايفنشتال» للألماني أندريس فايَل فيلم مفعم بالتوثيق مستعيناً بصور نادرة ومشاهد من أفلام عدّة للمخرجة التي دار حولها كثير من النقاشات الفنية والسياسية. حققت ليني في حياتها 8 أفلام، أولها سنة 1932 وآخرها «انطباعات تحت الماء» (Impressions Under Water) سنة 2002. لكن شهرتها تحدّدت بفيلميها «انتصار الإرادة» (Triumph of the Will) (1935)، و«أولمبيا» الذي أنجزته في جزأين سنة 1938.

السبب في أن هذين الفيلمين لا يزالان الأشهر بين أعمالها يعود إلى أنهما أُنتجا في عصر النهضة النازية بعدما تبوأ أدولف هتلر رئاسة ألمانيا.

دار «انتصار الإرادة» عن الاستعراض الكبير الذي أقيم في عام 1934 في مدينة نورمبيرغ، الذي ألقى فيه هتلر خطبة نارية أمام حشد وصل تعداده إلى 700 ألف شخص. فيها تحدّث عن ألمانيا جديدة مزدهرة وقوية وعن مستقبل كبير ينتظرها.

الفيلم الثاني من جزأين كان عن الأولمبياد الرياضي الذي أقيم صيف 1936، وحضرته أمم كثيرة بعضها من تلك التي تحالفت لاحقاً ضد الاحتلال الألماني لأوروبا.

شغل المخرجة على الفيلمين فعلٌ فني لا يرقى إليه الشك. تصوّر بثراء كل ما يقع أمامها من الجموع إلى المسيرات العسكرية والرياضية، ومنها إلى هتلر وهو يخطب ويراقب سعيداً الاستعدادات العسكرية التي خاضت لاحقاً تلك الحرب الطاحنة التي خرجت ألمانيا منها خاسرة كلّ شيء.

تبعاً لهذين الفيلمين عدّ الإعلام السياسي الغربي المخرجة رايفنشتال ساهمت في الترويج للنازية. تهمة رفضتها رايفنشتال. وأكدت، في مقطع من الفيلم مأخوذ عن مقابلة مسجّلة، أنها لم تنفّذ ما طُلب منها تنفيذه، ولم تنتمِ إلى الحزب النازي (وهذا صحيح) ولم تكن تعلم، شأن ملايين الألمان، بما يدور في المعتقلات.

ليني رايفنشتال خلال تصوير «أولمبياد» (مهرجان ڤينيسيا)

يستعرض الفيلم حياة المخرجة التي دافع عن أعمالها نُقاد السينما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وإلى اليوم. فيلماها لا يزالان من أفضل ما طُبع على أشرطة في مجال الفيلم الوثائقي إلى اليوم، وذلك عائد إلى اختياراتها من اللقطات والمشاهد وتوثيقها لحدثين مهمّين لا يمكن تصوّر السينما من دون وجودهما بدلالاتهما المختلفة. النتيجة الواضحة إلى اليوم، حتى عبر المقتطفات التي يعرضها الفيلم، تفيد بحرفة متقدّمة وتعامل رائعٍ مع الحدث بأوجهه المتعدّدة.

ينتهج المخرج فايل موقفاً يشيد فيه بالمخرجة ومجمل أفلامها السبعة. لا يفوته الاعتراف بأن رايفنشتال كانت فنانة سينما حقيقية، لكن يوجّه مشاهديه في الوقت نفسه إلى أن هذا الفن لم يكن سوى مظهر دعائي للنازية، وأنها لعبت الدور المباشر في البروباغاندا في الفترة التي سبقت الحرب.

حيال سرد هذا التاريخ يستعين المخرج فايل بمقابلات متعددة أدلت بها (معظمها بعد نهاية الحرب) وواجهت فيها منتقديها كما يعمد المخرج إلى مشاهد من حياتها الخاصة. زواجها. رحلتها إلى السودان خلال اضطرابات عام 2000 حيث تحطمت الطائرة المروحية التي استقلّتها وأصيبت برضوض. رحلتها تلك كانت بصدد التعرّف على البيئة النوبية، وكانت قد حصلت على الجنسية السودانية قبل سنوات (إلى جانب جنسيتها الألمانية وإقامتها البريطانية)، وبذلك كانت أول شخص غربي يُمنح الجنسية السودانية.

لا يأتي الفيلم بجديد فِعليّ لما يسرده ويعرضه. هناك كتب عديدة دارت حولها أهمها، مما قرأ هذا الناقد، «أفلام ليني رايفنشتال» لديفيد هنتون (صدر سنة 2000) و«ليني رايفنشتال: حياة» الذي وضعه يورغن تريمبورن قبل سنة من وفاة المخرجة عام 2003.

هو فيلم كاشف، بيد أنه يتوقف عند كل المحطات التي سبق لمصادر أخرى وفّرتها. محاولة الفيلم لتكون «الكلمة الفصل» ناجحة بوصفها فكرة وأقل من ذلك كحكم لها أو عليها.

جون لينون ويوكو أونو

في الإطار الفني، ولو على مسافة كبيرة في الاهتمام ونوع المعالجة، يأتي (One to One: John & Yoko) «واحد لواحد: جون ويوكو» لكيڤن ماكدونالد، الذي يحيط بحياة الثنائي جون لينون وزوجته يوكو أونو اللذين وقعا في الحب وانتقلا للعيش في حي غرينتش فيلاج في مدينة نيويورك مباشرة بعد انفراط فريق «البيتلز» الذي كان جون لينون أحد أفراده الأربعة.

النقلة إلى ذلك الحي لم تكن اختياراً بلا مرجعية سياسية كون غرينتش فيلاج شهدت حينها حياة ثقافية وفنية وسياسية حافلة تعاملت ضد العنصرية وضد حرب فيتنام، وكانت صوت اليسار الشّعبي الأميركي إلى حين فضيحة «ووترغيت» التي أودت بمنصب الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون. يكشف فيلم مكدونالد (الذي سبق وأُخرج قبل أعوام قليلة، فيلماً عن المغني الجامايكي بوب مارلي) عن اهتمام لينون وزوجته بتلك القضايا السياسية. جون الذي باع منزله المرفّه في ضواحي لندن واستقر في شقة من غرفتين في ذلك الحي، ويوكو التي لعبت دوراً فنياً وتثقيفياً في حياته.

لا يكتفي الفيلم بالحديث عن الثنائي معيشياً وعاطفياً بل عن المحيط السياسي العام ما يُعيد لمشاهدين من جيل ذلك الحين بعض الأحداث التي وقعت، ويوجه المشاهدين الذين وُلدوا سنوات صوب تقدير الثنائي، كما لم يفعل فيلم ما من قبل. ليس لأن «واحد لواحد: جون ويوكو» فيلم سياسي، بل هو استعراض منفّذ مونتاجياً بقدر كبير من الإجادة لحياة ثنائيّ موسيقيّ مطروحة على الخلفية المجتمعية المذكورة.

إرث ترمب

نيسكون مضى ومعه قناعاته وبعد عقود حلّ دونالد ترمب ليسير على النهج اليميني نفسه.

يرتسم ذلك في «منفصلون» (Separated) للمخرج المتخصص بالأفلام التسجيلية والوثائقية السياسية إيرول موريس. من بين أفضل أعماله «ضباب الحرب» (The Fog of War)، الذي تناول الحرب العراقية وكيف تضافرت جهود الحكومة الأميركية على تأكيد وجود ما لم يكن موجوداً في حيازة العراق، مثل القدرات النّووية والصواريخ التي يمكن لها أن تطير من العراق وتحط في واشنطن دي سي (وكثيرون صدّقوا).

«منفصلون» لديه موضوع مختلف: إنه عن ذلك القرار الذي اتخذه ترمب خلال فترة رئاسته ببناء سياج على الحدود الجنوبية للولايات المتحدة لمنع تدفق المهاجرين القادمين من الدول اللاتينية بدافع الفقر وانتشار العنف.

كان يمكن تفهّم هذا القرار لو أنه توقف عند هذا الحد، لكن ترمب تلاه بقرار آخر يقضي بفصل الأطفال عن ذويهم الراغبين في دخول البلاد عبر الحدود. بذلك لدى هؤلاء إمّا العودة من حيث أتوا مع أولادهم، أو العودة من دونهم على أساس وجود هيئات ومؤسسات أميركية ستعني بهم.

مثل هذا الموقف، يؤكد الفيلم، غير الأخلاقي، وكان له معارضون ومؤيدون. بعض المعارضين من أعضاء الكونغرس انقلبوا مؤيدين ما بين مؤتمر صحافي وآخر.

محور الفيلم هو رفض هذا الانفصال على أسس أخلاقية وإنسانية والمتهم الأساسي في فرض العمل به هو ترمب الذي لم يكترث، والكلام للفيلم، لفظاعة الفصل بين الآباء والأمهات وأطفالهم. تطلّب الأمر أن يخسر ترمب الانتخابات من قبل أن يلغي بايدن القرار على أساس تلك المبادئ الإنسانية، لكن بذلك تعاود أزمة المهاجرين حضورها من دون حل معروف.

يستخدم المخرج موريس المقابلات لتأييد وجهة نظره المعارضة وأخرى لرفضها، لكنه ليس فيلماً حيادياً في هذا الشأن. مشكلته التي يحسّ بها المُشاهد هي أن الفيلم يتطرّق لموضوع فات أوانه منذ أكثر من عامين، ما يجعله يدور في رحى أحداث ليست آنية ولا مرّ عليه ما يكفي من الزمن لإعادة اكتشافها ولا هي بعيدة بحيث تُكتشف.