خطاطون سعوديون: التقنية سلبت الخط العربي روحه

يحاولون إخراج الخط من إطاره «النخبوي» وإضفاء روح «شعبية» عليه

من أعمال سراج علاف  -  من أعمال حسن آل رضوان
من أعمال سراج علاف - من أعمال حسن آل رضوان
TT

خطاطون سعوديون: التقنية سلبت الخط العربي روحه

من أعمال سراج علاف  -  من أعمال حسن آل رضوان
من أعمال سراج علاف - من أعمال حسن آل رضوان

يدور جدل ساخن بين أوساط الخطاطين السعوديين، حول الدور الذي لعبته وسائل التقنية الحديثة في فن الخط العربي، بين من يعتبر التقنية خصما لدودا لهذا الفن ومعول هدم يسهم في تشويه جمالياته، ومن يرى أن بالإمكان تطويع التقنية لخدمة مدارس الخط، مع اعتراف الفريقين بأن الوسائل التكنولوجية كان لها دور ملموس في سلب روح الخط العربي، وإخراجه من الطابع الكلاسيكي العتيق، إلى صورة «مودرن» قد لا يتقبلها الكثيرون.
وهذه الإشكالية تكشف رغبة فئة من الخطاطين في الحفاظ على هويتهم التقليدية وحمايتها من ثورة التطور التكنولوجي، وفي الوقت نفسه يعترفون بأن أدواتهم التقليدية أدت إلى حبس فن الخط العربي في إطار «نخبوي»، على اعتبار أنه فن لا يلقى حفاوة كبيرة في المجتمع السعودي مقارنة بالفنون البصرية الأخرى، مع وجود بعض الجهود الحديثة لإخراج الخط العربي من عباءة النخبوية وجعاه فنا شعبيا جاذبا للجمهور، باستخدام التقنية ووسائل التواصل الاجتماعي، مما يجعل الأكثرية تتفق على أن التقنية الحديثة ساعدت الخط العربي من حيث الإشهار، وأساءت له عبر التدخل في تقنية صناعة العمل الفني ذاته وآليته.
ويقول الخطاط حسن آل رضوان، أحد مؤسسي جماعة الخط العربي في القطيف، إن «الخط في أساسه فن ينبع من فكر، وهذا الفكر يمتلكه الفنان الذي يصنع هذا المنتج». ويضيف: «أمثل الفنان بالبئر التي لا تنضب ماؤها، فكلما سحبنا الماء منه ينبع مرة أخرى، لأنه مصدر إنتاج وإبداع»، وأشار إلى أن «بعض الفنانين استفاد من الآلات والأدوات التقنية الحديثة بما يضيف له ولفنه، بحيث يستفيد من إضافة الطباعة أو الرسم في بعض تصاميمه، لكن الآلة إذا كانت موجودة بيد غير المتخصص، فإنه لا ينتج منها سوى أعمال متكررة (فوتو كوبي).
ويتابع آل رضوان حديثه لـ«الشرق الأوسط»، قائلا: «تأثير التقنية لا أستطيع أن أقول إنه سلبي بالمطلق، فبعض التقنيات والبرامج الخطية الجاهزة، عرّفت الجمهور العام بأن هناك فنا يُسمى فن الخط العربي. ونحن كمتخصصين، نضع الإشكال على المصممين الذين يستخدمون هذه البرامج التقنية، في أنهم لا يحسنون استخدامها. وهناك أخطاء قاتلة للعمل الفني، كاستخدام بعض الأشكال الفنية غير الصحيحة». ويضيف: «المشكلة الكبرى أن هذه التقنيات تشوه أحيانا العمل الفني، وتسهله أو تبسطه!».
ويوضح آل رضوان أن «الهدف من فن الخط العربي ليس نقل المصطلح النصي في العبارة، بل استمتاع الجمهور بالجانب الجمالي اليدوي الإنساني للعمل الفني». ويرى أن «هناك جانبا إيجابيا لاستخدام التقنيات والتطور الحاسوبي، وهناك جانب سلبي أيضا. يتعلق الجانب الإيجابي بإشهار هذا الفن على مستوى قنوات التواصل الاجتماعي وتعريف الناس أكثر به، من جهة ثانية إذا وقعت هذه الأدوات في يد غير المتخصص فقد يسيء استخدامها بحيث إنه يبسط هذا الفن ويختزله في لوحة مفاتيح الكومبيوتر».
وبالسؤال إن كانت هذه المعطيات قد تنبئ بمستقبل مقلق لفن الخط العربي، يجيب آل رضوان: «بالعكس، فالخط في القريب سيكون حظه أفضل، وبحكم كوني مراقبا منذ 15 عاما للساحة على هذا الصعيد، أجد أن هناك تناميا جيدا رغم قلة الحفاوة بهذا الفن، مقارنة بالفنون البصرية الأخرى». ويضيف: «بوصفنا خطاطين نحاول إخراج هذا الفن من الجانب النخبوي، واقتصار المعارض على الخطاطين والخطاطات على أن تكون لعامة الناس. واليوم بالتعاون مع الجهات الفنية، بدأ كثير من الخطاطين والخطاطات يخرجون أعمالهم بشكل ملموس إلى الجمهور، وهذا بحد ذاته تطور جميل».
من ناحيته، يبدي المهندس سراج علاف، وهو عضو مجلس إدارة الجمعية العلمية السعودية للخط العربي، حماسة في مسألة استخدام التقنية في أعمال الخط العربي، بالنظر لكونه خطاطا إلى جانب عمله مهندس كومبيوتر، ويعد حاليا، رسالة الماجستير حول تطويع التقنية في خدمة الخط العربي الكلاسيكي. يقول سراج: «لا نستطيع أن نقول إنه قد حدث تشويه لجماليات الخط العربي بسبب التقنية، لكن ما حدث هو سلب الروح، فروح الخط العربي سُلبت بفعل الآلة».
ويتابع علاف حديثه لـ«الشرق الأوسط»، ويقول: «كلما دخلت الآلة في مجال سلبت منه الروح، وهذا أمر طبيعي، والسؤال هنا: لماذا وصلنا إلى هذه المرحلة؟ لأن الخطاطين لم يمدوا يدهم للمبرمجين، والمبرمجين لم يمدوا يدهم للخطاطين، بمعنى أننا لم نستطع الوصول إلى حل وسط؛ كل طرف مصرّ على رأيه»، مشيرا في حديثه إلى المدرسة المحافظة في الخط العربي التي ترفض التطوير وفقا للمعطيات التكنولوجية الحديثة.
ويضيف علاف: «على سبيل المثال، فإن الخط (الكوفي) خط يدوي جميل ويتناسب مع خطوط الكومبيوتر، لأنه خط من مزاياه أن حدوده ثابتة وزواياه معروفة، بينما الخطوط الأخرى مثل خط (الثلث) و(الديواني) خطوط فيها جماليات عالية جدا تعود لقدرة الخطاط، والآلة لا تستطيع الوصول إلى هذه الجماليات، فالحل هنا في أن نحاول وضع حلول وسطية في التعامل مع التقنية».
من جهة ثانية، يرى عضو مجلس إدارة الجمعية العلمية السعودية للخط العربي، أن الثورة التكنولوجية المعاصرة أسهمت في نشر وتعزيز مكانة الخط العربي وتعليمه لدى أكبر شريحة ممكنة من الجمهور، قائلا: «نحن في الجمعية نستقبل طلبات لإقامة دورات من كل المناطق السعودية، وأحيانا يكون هناك صعوبة في الوصول إلى بعض المناطق، لكن التقنية حلت هذه الإشكالية من خلال التعلم عن بعد، وتعليم الخط العربي عبر وسائل التواصل الإلكتروني كان له دور ملموس في نشر هذا الفن بين الناس».
ويبدي علاف تفاؤله الكبير بإمكانية تطويع التقنية في خدمة فن الخط العربي، رغم اعترافه المسبق بأن التقنية كان لها يد في سلب روح الخط العربي، مشيرا إلى أن هناك إقبالا كبيرا حدث أخيرا من قبل الشبان السعوديين على تعلم مهارات الخط العربي، مرجعا ذلك للدور الذي يقوم به الخطاطون السعوديون من جيل الرواد، من خلال العمل على إخراج الخط العربي من دائرة «النخبوية» إلى صورة الفن الشعبي، بهدف إنعاش روحه من جديد بين الأوساط الشابة في السعودية.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.