خطاب العنصرية في الرواية الخليجية... الهامش والمهمّش

نقاد ومثقفون خليجيون يتحدثون إلى «الشرق الأوسط» عن دور الأدب في رصده وكشفه (2-2)

سليمان المعمري
سليمان المعمري
TT

خطاب العنصرية في الرواية الخليجية... الهامش والمهمّش

سليمان المعمري
سليمان المعمري

نشرنا يوم أمس (الأحد) الحلقة الأولى من مساهمات عدد من النقاد والكتاب الخليجيين عن دور الأدب في رصد العنصرية بمختلف أشكالها، ومساهمة الروائيين في تفكيك الخطاب العنصري. ويرى بعض المساهمين أن الرواية كانت من أجرأ الخطابات في مناهضة أشكال التمييز والتصنيفات القبلية والمذهبية المختلفة، وهذا دور تنويري يذكر للرواية دون غيرها من الوسائل الأخرى، بينما يرى بعض آخر أن الرواية لم تعمل على تجذير وكشف هذه العنصرية بشكل عميق، بل كانت مجرد مواقف ضبابية بسيطة لا تعود إلى الجذور إلا بحدود ضيقة.
وهنا مساهمتان من باحثة وروائي من عمان:
- «العنصرية» وأخواتها... الثيمة الأبرز وضوحاً في الرواية العُمانية
- الباحثة د. منى السليمي: رواية الهامش في التجربة الخليجية
في يوليو (تموز) 2019، حصلت الباحثة الناقدة العمانية منى بنت حبراس السليمي على شهادة الدكتوراه في الأدب، مع مرتبة الشرف والتنويه والتوصية بالنشر، وذلك عن أطروحتها «روائية الهامش؛ التجربة الخليجية نموذجاً»، في جامعة محمد الخامس في الرباط بالمغرب.
وعن هذه الدراسة، تقول الدكتورة منى السليمي: في أطروحتي «روائية الهامش؛ التجربة الخليجية نموذجاً»، شُغلت بالبحث في تمثيل هامش السود في الرواية الخليجية، ضمن جملة أشكال الهامش التي درستها، كما يوحي العنوان، وأفردت فصلاً كاملاً للحديث عن «الهامش العرقي» الذي اخترت لمقاربته ثلاث روايات رئيسة، وهي: رواية «الأشياء ليست في أماكنها» للعمانية هدى حمد، ورواية «القار» للسعودي علوان السهيمي، ورواية «لأني أسود» للكويتية سعداء الدعاس، إلى جانب ست روايات مساندة غذت مباحث الدرس، وهي: «الشويرة» للعماني محمد بن سيف الرحبي، و«شارع العطايف» للسعودي عبد الله بخيت، و«سيدات القمر» للعمانية جوخة الحارثي، و«الطقاقة بخيتة» للسعودي محمد المزيني، و«تبكي الأرض يضحك زحل» للعماني عبد العزيز الفارسي، و«ذكريات ضالة» للكويتي عبد الله البصيص. وقد لفتني تباين معالجة هذه الروايات للموضوع بمستوياته المختلفة، فمنها ما اتخذته موضوعاً رئيساً في النص، كما في «لأني أسود» و«القار» و«الشويرة»، ومنها ما اتخذته موضوعاً ثانوياً، كمعظم الروايات الأخرى المختارة.
ومن جانب آخر، حضرت الشخصية المهمشة (السوداء) بصفتها شخصية رئيسة في بعض تلك الروايات، بحيث أتيح لها التعبير عن موقفها من المجتمع الذي يهمشها، لنرى بعينها إذ تبئر القضية الأساس في النص. وفي حين جاءت شخصيات روايات أخرى ثانوية، انقسمت بدروها إلى شخصيات مستسلمة، كشخصية «ظريفة» في «سيدات القمر»، وشخصيات منفعلة معبرة عن رفضها للعالم الذي يهمشها، كشخصية «أمل» في رواية «الأشياء ليست في أماكنها». هذا فضلاً عن مستويات اللغة والتفضية (البيئة الزمانية والمكانية) التي أسهمت في تمثيل الشخصية المهمشة بصفتها جزءاً من الموضوع، يكشفانه ويتبادلان معه التأثير والتأثر.
وإذا كان الموضوع المهمش يقتضي لغة غير مركزية -لغة مُهملة- لغة غير مُعترف بها من المركز الذي تمثله السلطة التي تمارس تهميشها، أياً كانت هذه السلطة (وهي هنا السلطة الاجتماعية بالدرجة الأولى)، فإن التعبير عنه يستدعي -كما نفترض- لغة تَكسِر الأوفاق التي تواضع عليها المجتمع.
وقد وجدتُ أن بعض الروايات المنتقاة اختارت التعبير عن موضوعها بجرأة، متقحّمة المحظور، مخترقة أسيجة الذوق التي نصبها المجتمع لحماية واجهته البراقة، لا سيما أن هذا الموضوع بقي لعقود من عمر الرواية في الخليج مسكوتاً عنه، حتى ظهر بوتيرة لافتة في العقدين الأخيرين، في خضم موجة حرية التعبير التي رافقت أزمات الوطن العربي، وأسهمت في طرح موضوعات حساسة كان تناولها فيما مضى مغامرة غير مأمونة، كالطرح الطائفي وغيره من الموضوعات.
ومثلما تباينت مستويات المعالجة، تباينت المستويات الفنية في الروايات المدروسة، فوقعت بعض تلك النماذج في المباشرة، وقدمت الموضوع بصفته نقيضين: شر مطلق يمثله الأبيض (المركز - السلطة - المُهمِّش)، وضحية مطلقة يمثلها الأسود، كما في رواية «لأني أسود» التي افترضت شخصياتُها الرئيسة أن كل ما يقع عليها من ظلم إنما يقع عليها لأنها شخصيات سوداء.

الروائي سليمان المعمري: نماذج تناول العنصرية في الأدب العُماني
هناك نقطتان جديرتان بالذكر قبل الخوض في مسألة تناول الأدب للعنصرية؛ أولاهما أن هذه الآفة الاجتماعية الإنسانية لا يكاد يخلو منها مجتمع، متحضر أو متقهقر، ما دامت نزعات «التفوق» المتوهمة متحكمة بالبشر بعضهم ضد بعض. أما الأخرى فهي أن تاريخ الأدب العالمي، منذ هوميروس إلى اليوم، ما هو إلا تاريخ مجابهة لمثل هذه النزعات التي تجعل العِرق أو الدين أو اللون أساس المفاضلة لدى البشر، ولذا فإن هذا الموضوع كان -ولا يزال- موضوعاً مفضلاً لدى الأدباء، يعبرون من خلاله عن إنسانيتهم، قبل أي شيء آخر، ويؤكدون عبر رواياتهم وقصصهم وأعمالهم الأدبية أن «ما يمنع الناس من العيش معاً هو حماقتهم، وليست اختلافاتهم»، كما قالت يوماً الروائية الفرنسية آنا جافلدا.
ولأن الخليج جزء لا يتجزأ من هذا العالم الموبوء بكثير من الأمراض الاجتماعية، وعلى رأسها العنصرية، ولأن الأدب هو مرآة الناس والمجتمع، كما يقال، فقد كان طبيعياً أن يجد هذا الموضوع مساحة في أدبنا الخليجي تتناسب وانتشاره في مجتمعاتنا.
وتبرز على الفور واحدة من أشهر الشخصيات الروائية العُمانية، وهي «ظريفة» في رواية «سيدات القمر» لجوخة الحارثي، تلك العبدة المستسلمة لعبوديتها بسبب حبها لسيدها ومالكها التاجر سليمان، بعكس ابنها «سنجر» الذي كان «التكأة الفنية» لجوخة في إدانتها لهذه العنصرية والاستعباد. توبخ ظريفة سنجر لمجرد أنه سمى ابنته اسماً مما تعدها أسماء الأحرار: «... أيش؟ ... سيقتلك التاجر سليمان؛ تسمي على اسم أهله وأولاده؟ أنت جنّيت يا ولد؟ تكبّر راسك على من ربّاك وعلّمك وزوّجك؟»، ليردّ عليها سنجر من بين أسنانه: «اسمعي يا ظريفة، التاجر سليمان رباني وعلّمني وزوّجني لمصلحته هو، من أجل أنّي أخدمه، وتخدمه امرأتي وأولادي. لكن لا يا ظريفة، التاجر سليمان ما له دخل بي، نحن أحرار بموجب القانون، أحرار يا ظريفة، افتحي عيونك، الدنيا تغيّرت، وأنت تردّدين حبابي وسيّدي، كل الناس تعلّموا وتوظّفوا، وأنت مثل ما أنت، عبدة التاجر سليمان وبسّ، هذا الشايب الخرفان، افتحي عيونك يا ظريفة، نحن أحرار».
شخصية أخرى لا تُنسى في الرواية العُمانية، وهي شخصية «خديم ولد السيل» في رواية «تبكي الأرض يضحك زحل» لعبد العزيز الفارسي (القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية 2008)، ذلك الشاب الأسود الذي ينتسبُ إلى «السيل»، أي إلى الطبيعة، فهو مجهول الأب، وقد رباه بطل الرواية «المحيان»، وعاش في كنفه. وفي ذروة الرواية، يستجيب خديم لإغراءات الفتاة الجامعية عايدة للهرب معاً خارج القرية الظالم أهلها، لكن أهل القرية طاردوهما وقتلوهما كليهما. ولأنه ابن السيل، فقد غضب الأب (الطبيعة) فهبط من علٍ وجرف جميع من شاركوا في قتل خديم وعايدة إلى حيث لا يُعثر لهم على أثر. وتنتهي الرواية بعثور الأهالي الذين كانوا يبحثون عن ناجين من السيل على طفل أسود جديد في طشت نحاسي، كان على ما يبدو تعويضاً من الطبيعة لمحيان عن خديم الذي مات.
وإذا كانت ظريفة وخديم قد عانيا من كونهما عبدَيْن مؤكدَين في نظر عنصرية المجتمع، فإن ثمة من يعاني أكثر منهما بسبب طرده من جنة الأحرار من جهة، وجحيم العبيد من جهة ثانية، إنهم أولئك الذين اختار لهم مجتمع العنصريين لفظة «البيسر» أو «البياسر» للدلالة على هذا النبذ من المنزلتين. وخير من عبر عن هؤلاء في الأدب العُماني رواية «الأشياء ليست في أماكنها» للروائية هدى حمد، من خلال شخصية «أمل»، بطلة الرواية التي تقول لها أمها: «لست عبدة يا أمل، ولست حرة بالكامل أيضاً». أمل التي تنجح في التمرد على واقعها بالقراءة، تسأل خالتها: «ماذا سيحدث حين أقرأ كثيراً يا خالتي؟»، فتجيب الخالة: «ستعثرين على نفسك». وهذا ما حدث بالفعل، لقد عثرت أمل على نفسها بالقراءة والوعي والثقافة.
ومن شخصيات الأدب العُماني الشهيرة التي عانت من العنصرية، وناضلت في سبيل البحث عن حريتها، شخصية «زهرة» في رواية «الطواف حيث الجمر» لبدرية الشحي. وهذه فقط أمثلة للتمثيل لا الحصر، فلا يكاد أديب عُماني إلا وتناول هذا الموضوع في نص واحد على الأقل من نصوصه القصصية أو الروائية.

روايات وعنصريات: نماذج خليجية
> رواية «أنثى تشطر القبيلة» لإبراهيم شحبي (السعودية): يواجه «شاهر»، والد «تغريد» الذي قرر أن يزوجها لفرد من خارج القبيلة، الإقصاء ومقاطعة القبيلة.
> رواية «بنات الرياض» لرجاء الصانع (السعودية): يفشل «فيصل» بعد أن وقع في حب «ميشيل» أو «مشاعل» في إقناع أمه بالزواج منها لأسباب قبلية.
> رواية «القارورة» ليوسف المحيميد (السعودية): تناقش أزمة التمييز العنصري حيث تثير التمييز المناطقي: «ما بقي إلا أتزوج حساوية».
> رواية «ستر» لرجاء عالم (السعودية): تثير زواج «فهد» ابن الشيوخ من «طفول» الجداوية لأسباب اقتصادية ومستويات معيشة.
> رواية «أبو شلاخ البرمائي» لغازي القصيبي: رواية ساخرة تضج بتسمية العنصريات المحلية عبر التقابلات التي تنهض عليها العنصرية: القبلي يقابله الخضيري، والسني يقابله الشيعي، والنجدي يقابله الحجازي. وبسخرية حارقة، يتعمد «أبو شلاخ» أن يختم نسبه الطويل بابن خضير. عندها، يصرخ والد «وضحا» التي جاءها خاطباً: «خضيري وجاي تخطب بنتي؛ قم ما أنت من مواخيذنا».
> رواية «جاهلية» لليلى الجهني (السعودية): تثير الرواية إشكالية التمييز على أساس اللون: الأسود في مقابل الأبيض، حيث تقف الفتاة «لين» بلونها الأبيض متسائلة: «هل أخطأت عندما أحببت رجلاً أسود».
> رواية «صمت الفراشات» ليلى العثمان (الكويت): ذكورية الرجل واضطهاد المرأة.
> رواية «لأني أسود» لسعداء الدعاس (الكويت): تناقش التمييز العنصري على أساس لون البشرة.
> رواية «الأشياء ليست في أماكنها» لهدى حمد (عمان): تناقش التمييز ضد المرأة.
> رواية «القار» لعلوان السهيمي (السعودية): تناقش التمييز العنصري ضد السود: «سكتت، فربما شعرت بأنني أقصدها لأنها في نهاية المطاف امرأة بيضاء، لكنني لا أستطيع أن أغفر لكل هؤلاء البيض الذين يشعرون بأنهم مثل الآلهة، فهل لأنني رجل أسود أستحق كل هذه القسوة».
> رواية «تبكي الأرض يضحك زحل» لعبد العزيز الفارسي (عمان): العنصرية تجاه السود.
> رواية «الطواف حيث الجمر» لبدرية الشحي (عمان): تتتبع قصة هروب فتاة عمانية (زهرة) هربت من موطنها (نزوى) إلى جزيرة زنجبار (الرواية تتناول مرحلة الاحتلال العماني لأجزاء من أفريقيا، وبينها زنجبار). وكانت زهرة مغرمة بمواطنها سالم الذي تركها ليتزوج من شابة زنجبارية. والرواية تتحدث عن العمانيين من أصل أفريقي، والتمييز الذي يلاقونه، حيث تزوج سالم «السوداء بأنفها الأفطس».
> رواية «المشراف» عبيد السهيمي (السعودية): التمييز المناطقي (صفر سبعة)، في إشارة لمواطني جنوب البلاد... والتمييز العصري (العبد قربان الخرافات).



دينا مندور: هجرة الكُتاب العرب شكّلت معالم الكتابة «ما بعد الاستشراقية»

دينا مندور
دينا مندور
TT

دينا مندور: هجرة الكُتاب العرب شكّلت معالم الكتابة «ما بعد الاستشراقية»

دينا مندور
دينا مندور

تُعد المترجمة المصرية، دينا مندور، أحد أبرز مترجمي الأدب الفرنسي إلى العربية، حصلت على درجة الدكتوراه من جامعة «السوربون» الفرنسية حول «الترجمة العربية للرواية الفرنسية ما بعد الاستشراقية»، ومن أبرز أعمالها المترجمة: «الفلاسفة والحب»، «صرخة النورس»، «مملكة الموضة زوال متجدد» و«حقيقة قضية هاري كيبر» الحاصلة على جائزة الأكاديمية الفرنسية، وشاركت في عدد من المنح التدريبية بوزارة الثقافة الفرنسية، وهي عضو في «جمعية مترجمي الآداب» بفرنسا... هنا حوار معها حول إشكاليات الترجمة وهمومها الأدبية والأكاديمية...

* طرحتِ تعبير «الرواية ما بعد الاستشراقية» في رسالتكِ للدكتوراه من جامعة السوربون ، حدثينا عن ماهية هذا الاصطلاح.

- عنوان الرسالة هو «الترجمة العربية للرواية الفرنسية ما بعد الاستشراقية»، وهو عنوان أول مرة يتم صكّه في رسالة بحث علمي، شملت الفترة من 1991 حتى يومنا هذا، أي على مدار نحو 30 عاماً. ويشير مصطلح «الكتابة ما بعد الاستشراقية» إلى الفترة التي أعقبت صدور كتاب «الاستشراق» (1978) لإدوارد سعيد. الكتاب الذي شكّل صدمة للغرب بالطبع، وأثار موجة من الجدل والهجوم العنيف على الاستشراق الكلاسيكي. ومن المعروف أن الارتباط الجزئي الذي تم بين الاستشراق الأدبي والعلمي من جهة، والاستعمار السياسي والعسكري من جهة أخرى، قد أدى لوصم الاستشراق بالتبعية المغرضة والمساعدة في تنفيذ أجندات سياسية تضرّ بالشعوب المُستعمرة أو التي تذكر في الكتابات الاستشراقية.

لذلك، فأدب ما بعد الاستشراق معنيّ بالفصل بين الكتابة في آخر 40 سنة عن الشرق، والاستشراق الكلاسيكي بداية من كتابات أنور عبد الملك في الستينات ومقاله البارز «هل مات الاستشراق؟» الذي طرح أسئلة شائكة قبل صدور كتاب إدوارد سعيد بأكثر من 10 سنوات، وانتقاد متخصصين فرنسيين لهذا الاستشراق الذي عاون الاستعمار. ثم سكت الكلام عن الكتابة عن الشرق الأوسط تحديداً، وشمال أفريقيا، وبدأت موجة كتابة جديدة من الكتابة أخذت تتكثف وتنتشر وتبرز في فرنسا، التي رصدتها الرسالة باعتبارها «ما بعد استشراقية»، وبيّنت اختلافاتها السياقية والأدبية عن الاستشراق الكلاسيكي القديم.

* كيف قمتِ بمعالجة هذه المرحلة من الكتابة بحثياً؟

- امتد البحث عبر 3 فصول، الأول اخترتُ فيه كُتاباً ذاع صيتهم في هذا الكادر الزمني، وفي أعمالهم سمات أساسية حول الكتابة عن الشرق، فتمركزت عينة البحث حول رواية «ليون الأفريقي» لأمين معلوف، ورواية «بوصلة» لماتياس إينار، ورواية «المصرية» لجيلبرت سينويه. أما الفصل الثاني فتطرق لعلم اجتماع الترجمة، الذي يتناول المرحلة التي يقطعها الكتاب الأصلي وصولاً لترجمته، بما في ذلك حيثيات عملية النشر في فرنسا والعالم العربي، وتحديداً الأسباب التي تجعلنا نُترجم أدباً يتحدث عنا بالأساس ولكن بلغة أجنبية، وأسباب حماس الناشر العربي لترجمة هذا النوع من الأدب، وسط تساؤلات طرحها البحث حول ما إذا كان لدينا فضول لرؤية أنفسنا في عين الآخر، وهل دعم المؤسسات الأجنبية لترجمة أصوات غربية تتحدث عن الشرق من الاتجاهات التي تحدد النشر؟ إضافة إلى لقاءات مع مكتبات رصدت بالإحصاءات نسب مبيعات هذا اللون من الكتابة، وحوارات مع عينة من المترجمين الذين ترجموا روايات فرنسية يدور عالمها في الشرق، كما تطرق الحديث عن مترجمين لا يُفضلون ترجمة هذا اللون من الروايات وأسبابهم في ذلك.

علم اجتماع الترجمة هو بحث في العلاقة بين الكُتاب والناشرين بوصفهم بشراً في الأساس لديهم مشاعرهم وأفكارهم، التي تحمل تأثيراتها على عملية الترجمة، ومدى حساسية مترجم في ترجمة نص يتحدث عن مجتمعه العربي، مكتوب بلغة أجنبية، فهل يتدخل لاشعورياً، فرغم الاحتراف يكون النص بيد إنسان، حيث هناك عامل التعليم وعلاقته باللغة، فنحن نفكر باللغة، والتكوين الفكري يؤثر في الاختيارات اللغوية للمترجم مقارنة بالنص الأصلي، وحساسيته في التعامل مع بعض الألفاظ، وهذا ما تناولته بتفصيل أكبر في الفصل الأخير من الرسالة حول إشكاليات الترجمة.

* ما السياقات الأبرز للكتابة ما بعد الاستشراقية التي قمتِ برصدها؟

- الحديث عن كل ما هو استشراق ظل شائكاً في فرنسا، أقرب لتابو. ومن أهم عناصر تشكيل معالم الكتابة «ما بعد الاستشراقية» هجرة الكتاب العرب للغرب، حتى صارت كتاباتهم عن العالم العربي مرتبطة بنسيج الكتابة في فرنسا، بداية من أمين معلوف، وسينويه، وطاهر بن جلون، وآسيا جبار، وروبير سوليه. كل تلك الأسماء من أصول عربية تعيش في فرنسا، فتشكيلهم وخلفيتهم الشرق أوسطية العربية برزت في الكتابة الفرنسية، وظل سؤال الهُوية مطروحاً في أعمالهم. وكانت هي الشغل الشاغل لأمين معلوف، صاحب العبارة الشهيرة «هُوية واحدة وانتماءات عدة»، وعندما كتب الفرنسي ماتياس إينار عن الشرق لم يذهب إليه بأحكام مُسبقة، بل اندمج تماماً في المجتمع اللبناني والسوري بشكل وثيق، وليس بشكل فانتازي. فقد ابتعدت الكتابة هنا عن الأسلوب المُعلّب الفانتازي المشغول برصد الشرق من هذه الزاوية، كما فرضت موضوعات مثل الربيع العربي والهجرات الشرعية وغير الشرعية نفسها على الأدب كقضايا معاصرة، مع ملاحظة أن المجتمع العربي بشكل عام لم يعد بعيداً بسبب الهجرة، ولم تعد صورة العربي محفوفة بالتغريب الذي كان أحد أبرز عناصر الجذب في الكتابة الاستشراقية. كتابات أمين معلوف، على سبيل المثال، وسّعت الكتابة لإطار إنساني أكبر، من خلال تخليط شخصيات غربية وعربية في متن واحد، فالحدود تم تمييعها من خلال الهجرات بشكل كبير، وهذا انعكس على الأدب.

ولأن الموضوع جديد في مجالات البحث العلمي، فقد انعكس ذلك على قلة المراجع، فهناك أبحاث أكاديمية فرنسية كثيرة، مثلاً عن أدب أمين معلوف، لكن دون الحديث عن ترجمة أعماله إلى العربية، وهو ما تناولته في البحث. كما لم تتوفر أبحاث تخص اعتبار أعماله «ما بعد استشراقية»، لذلك لجأت لتفكيك الاستشراق الكلاسيكي كمدخل تاريخي لما بعد الاستشراق في الأدب المترجم للعربية.

* في مشروعكِ للترجمة ثمة خيط أدبي يتفاعل مع موضوعات تخص المرأة. حدثينا عن هذا الاختيار؟

- يبدو أن ذائقتي تميل للموضوعات التي تتفاعل مع كيان المرأة، فأول عمل قمت بترجمته كان رواية «فاديت الصغيرة» للكاتبة جورج صاند، وكانت تتحدث عن فتاة مراهقة في مجتمع مُغلق تبحث عن الحرية، والمفارقة أن مؤلفة الرواية نفسها اختارت اسم رجل حتى تستطيع النشر، وهناك رواية «صرخة النورس» وهي من أهم الأعمال التي قمت بترجمتها، وهي سيرة ذاتية للممثلة الصمّاء الفرنسية إيمانويل لابوري، التي طالبت منذ سنوات مراهقتها الاعتراف بحقوق الصُم في فرنسا، وهي من أسست المسرح المرئي العالمي، وهو أول مسرح يدمج الناطقين والصم، وكتبت هذه السيرة وهي في العشرين من عمرها.

وأتوقف كذلك عند كتاب «المرأة الثالثة... ديمومة الأنثوي وثورته» للفيلسوف الفرنسي المعاصر جيل ليبوفيتسكي، الذي قسّم تاريخ المرأة من وجهة نظره إلى 3 مراحل: الأولى مرحلة «المرأة المُأبلسة»، ثم مرحلة الاحتفاء بظهورها وتمجيد جمالها كما تجلى في عصر النهضة، وكان الرجل في المرحلتين هو من يحدد قيمتها، أما المرحلة الثالثة فهي المرأة التي تجد طريقها في كل شيء، ويطرح تساؤلات كثيرة من خلال ربطه بين المراحل الثلاث.

* كانت لديك محطة أخرى في ترجمة جيل ليبوفيتسكي، من خلال كتاب «مملكة الموضة - زوال متجدد»، الذي يطرح فيه تأملات فيما يسميها بـ«الحداثة المفرطة».

- تطرق ليبوفيتسكي لموضوع الموضة بعيداً عن الطرح التقليدي والسطحي له، والتفت إلى الشبكة الاجتماعية لتكوينها، واعتبارها مظهراً من مظاهر المنافسة الاجتماعية، وهو ما أطلق عليها «مملكة الزائل» بمعنى المملكة التي تزول وتعود من جديد، لذلك فالزوال المُتجدد إحدى سمات الموضة، سواء في الأزياء أو العمارة والأثاث حتى الموسيقى، فالحداثة المفرطة من موضوعات ليبوفيتسكي التي يتأملها في أعماله، وأعتقد أنه أحد أبرز المفكرين في فرنسا، وأفخر أنني أول من قدمته إلى العربية، وأبدأ قريباً في ترجمة أحد أعماله الجديدة، التي تسعى إلى تفكيك الظواهر التي تبدو هامشية، ولكنها كاشفة عن أعمق مشكلات المجتمع.

- هل تعدّين أن حصول عمل أدبي على جائزة أدبية حيثية كافية لترجمته إلى العربية؟

- ليس معياراً كافياً أبداً، وقد طالعت كثيراً من الأعمال التي حازت جوائز أدبية فرنسية ولكنني شعرت بأنها غير موائمة لذائقة القارئ العربي، وهناك معيار آخر هو أنني لا بد أن أحب العمل الذي سأختار ترجمته لأنني أمضي وقتاً طويلاً معه، وفي الترجمة الصادرة حديثاً لي لرواية «حقيقة قضية هاري كبير» لجويل ديكر، لم يكن حصولها فقط على جائزة الأكاديمية الفرنسية 2012 هو المعيار الوحيد الذي دفعني لترجمتها، ولكن تميز الرواية رغم كبر حجمها.

طالعت كثيراً من الأعمال التي حازت جوائز أدبية فرنسية ولكنني شعرت أنها غير موائمة لذائقة القارئ العربي

* إلى جانب الأسماء المعاصرة، ترجمت لأسماء كلاسيكية في الأدب الفرنسي، أشهرهم مارسيل بروست. حدثينا عن تجربتك في ذلك، قياساً بترجمتك لأعمال كتاب معاصرين.

- أعتقد أن العامل الرئيسي هنا هو الحفاظ على الرسالة والأسلوب الأدبي، فالكتابة الروائية هي أسلوب بالأساس، فلا يمكن أن يشعر القارئ أن جويل كيبر وإيمانويل لابوري وبروست يحملون نفس الأسلوب حين يترجمهم نفس المترجم، فعليه أن يحرص على تقديم أسلوبية الكاتب، وألا يترك أسلوبه الخاص يطغى، فيلغي الأسلوب المتفرد لكل كاتب أصلي. ويعد هذا من أهم إشكاليات الترجمة، فمارسيل بروست على سبيل المثال ذهني جداً في كتابته، ولديه ارتباط كبير بالصور التي يستخدمها بكثرة في تعبيراته، فيكون حفاظ الترجمة على أهمية هذه الصور لديه أمراً ضرورياً، حتى لو اضطررنا للجوء للهوامش في أقل الحدود. وأحياناً ما يكون من مفارقات الاحترافية أن يلجأ المترجم لبعض «الخيانة» للنص الأصلي وإجراء ما يلزم من تغييرات شكليّة كي يراعي شفرات اللغتين (لغة المصدر، ولغة الاستقبال).

* توليتِ مناصب مهمة بهيئة الكتاب المصرية والمجلس الأعلى للثقافة، برأيك ما أبرز مشكلات الكتاب المُترجم في مصر؟

- أعتقد أن المشكلات الأساسية تظل في تكوين المترجم من جهة، والميزانيات المرصودة، سواء لشراء الحقوق الأدبية أو إعادة طباعة عناوين مطلوبة من القراء، ولكن يتم التوقف عن إعادة طباعتها، وهناك كذلك مشكلة في خريطة التوزيع، فلا أفهم مثلاً لماذا لا يقوم «المركز القومي للترجمة» بتوزيع إصداراته في المكتبات المختلفة، وقصرها على منافذ المركز وبعض المنافذ في الجامعات ومعارض الكتاب بالطبع؟ جهد ممتاز، لكنه غير كافٍ في ظل المتغيرات الحديثة التي تطرأ على حياة البشر.