خطاب العنصرية في الرواية الخليجية... الهامش والمهمّش

نقاد ومثقفون خليجيون يتحدثون إلى «الشرق الأوسط» عن دور الأدب في رصده وكشفه (2-2)

سليمان المعمري
سليمان المعمري
TT

خطاب العنصرية في الرواية الخليجية... الهامش والمهمّش

سليمان المعمري
سليمان المعمري

نشرنا يوم أمس (الأحد) الحلقة الأولى من مساهمات عدد من النقاد والكتاب الخليجيين عن دور الأدب في رصد العنصرية بمختلف أشكالها، ومساهمة الروائيين في تفكيك الخطاب العنصري. ويرى بعض المساهمين أن الرواية كانت من أجرأ الخطابات في مناهضة أشكال التمييز والتصنيفات القبلية والمذهبية المختلفة، وهذا دور تنويري يذكر للرواية دون غيرها من الوسائل الأخرى، بينما يرى بعض آخر أن الرواية لم تعمل على تجذير وكشف هذه العنصرية بشكل عميق، بل كانت مجرد مواقف ضبابية بسيطة لا تعود إلى الجذور إلا بحدود ضيقة.
وهنا مساهمتان من باحثة وروائي من عمان:
- «العنصرية» وأخواتها... الثيمة الأبرز وضوحاً في الرواية العُمانية
- الباحثة د. منى السليمي: رواية الهامش في التجربة الخليجية
في يوليو (تموز) 2019، حصلت الباحثة الناقدة العمانية منى بنت حبراس السليمي على شهادة الدكتوراه في الأدب، مع مرتبة الشرف والتنويه والتوصية بالنشر، وذلك عن أطروحتها «روائية الهامش؛ التجربة الخليجية نموذجاً»، في جامعة محمد الخامس في الرباط بالمغرب.
وعن هذه الدراسة، تقول الدكتورة منى السليمي: في أطروحتي «روائية الهامش؛ التجربة الخليجية نموذجاً»، شُغلت بالبحث في تمثيل هامش السود في الرواية الخليجية، ضمن جملة أشكال الهامش التي درستها، كما يوحي العنوان، وأفردت فصلاً كاملاً للحديث عن «الهامش العرقي» الذي اخترت لمقاربته ثلاث روايات رئيسة، وهي: رواية «الأشياء ليست في أماكنها» للعمانية هدى حمد، ورواية «القار» للسعودي علوان السهيمي، ورواية «لأني أسود» للكويتية سعداء الدعاس، إلى جانب ست روايات مساندة غذت مباحث الدرس، وهي: «الشويرة» للعماني محمد بن سيف الرحبي، و«شارع العطايف» للسعودي عبد الله بخيت، و«سيدات القمر» للعمانية جوخة الحارثي، و«الطقاقة بخيتة» للسعودي محمد المزيني، و«تبكي الأرض يضحك زحل» للعماني عبد العزيز الفارسي، و«ذكريات ضالة» للكويتي عبد الله البصيص. وقد لفتني تباين معالجة هذه الروايات للموضوع بمستوياته المختلفة، فمنها ما اتخذته موضوعاً رئيساً في النص، كما في «لأني أسود» و«القار» و«الشويرة»، ومنها ما اتخذته موضوعاً ثانوياً، كمعظم الروايات الأخرى المختارة.
ومن جانب آخر، حضرت الشخصية المهمشة (السوداء) بصفتها شخصية رئيسة في بعض تلك الروايات، بحيث أتيح لها التعبير عن موقفها من المجتمع الذي يهمشها، لنرى بعينها إذ تبئر القضية الأساس في النص. وفي حين جاءت شخصيات روايات أخرى ثانوية، انقسمت بدروها إلى شخصيات مستسلمة، كشخصية «ظريفة» في «سيدات القمر»، وشخصيات منفعلة معبرة عن رفضها للعالم الذي يهمشها، كشخصية «أمل» في رواية «الأشياء ليست في أماكنها». هذا فضلاً عن مستويات اللغة والتفضية (البيئة الزمانية والمكانية) التي أسهمت في تمثيل الشخصية المهمشة بصفتها جزءاً من الموضوع، يكشفانه ويتبادلان معه التأثير والتأثر.
وإذا كان الموضوع المهمش يقتضي لغة غير مركزية -لغة مُهملة- لغة غير مُعترف بها من المركز الذي تمثله السلطة التي تمارس تهميشها، أياً كانت هذه السلطة (وهي هنا السلطة الاجتماعية بالدرجة الأولى)، فإن التعبير عنه يستدعي -كما نفترض- لغة تَكسِر الأوفاق التي تواضع عليها المجتمع.
وقد وجدتُ أن بعض الروايات المنتقاة اختارت التعبير عن موضوعها بجرأة، متقحّمة المحظور، مخترقة أسيجة الذوق التي نصبها المجتمع لحماية واجهته البراقة، لا سيما أن هذا الموضوع بقي لعقود من عمر الرواية في الخليج مسكوتاً عنه، حتى ظهر بوتيرة لافتة في العقدين الأخيرين، في خضم موجة حرية التعبير التي رافقت أزمات الوطن العربي، وأسهمت في طرح موضوعات حساسة كان تناولها فيما مضى مغامرة غير مأمونة، كالطرح الطائفي وغيره من الموضوعات.
ومثلما تباينت مستويات المعالجة، تباينت المستويات الفنية في الروايات المدروسة، فوقعت بعض تلك النماذج في المباشرة، وقدمت الموضوع بصفته نقيضين: شر مطلق يمثله الأبيض (المركز - السلطة - المُهمِّش)، وضحية مطلقة يمثلها الأسود، كما في رواية «لأني أسود» التي افترضت شخصياتُها الرئيسة أن كل ما يقع عليها من ظلم إنما يقع عليها لأنها شخصيات سوداء.

الروائي سليمان المعمري: نماذج تناول العنصرية في الأدب العُماني
هناك نقطتان جديرتان بالذكر قبل الخوض في مسألة تناول الأدب للعنصرية؛ أولاهما أن هذه الآفة الاجتماعية الإنسانية لا يكاد يخلو منها مجتمع، متحضر أو متقهقر، ما دامت نزعات «التفوق» المتوهمة متحكمة بالبشر بعضهم ضد بعض. أما الأخرى فهي أن تاريخ الأدب العالمي، منذ هوميروس إلى اليوم، ما هو إلا تاريخ مجابهة لمثل هذه النزعات التي تجعل العِرق أو الدين أو اللون أساس المفاضلة لدى البشر، ولذا فإن هذا الموضوع كان -ولا يزال- موضوعاً مفضلاً لدى الأدباء، يعبرون من خلاله عن إنسانيتهم، قبل أي شيء آخر، ويؤكدون عبر رواياتهم وقصصهم وأعمالهم الأدبية أن «ما يمنع الناس من العيش معاً هو حماقتهم، وليست اختلافاتهم»، كما قالت يوماً الروائية الفرنسية آنا جافلدا.
ولأن الخليج جزء لا يتجزأ من هذا العالم الموبوء بكثير من الأمراض الاجتماعية، وعلى رأسها العنصرية، ولأن الأدب هو مرآة الناس والمجتمع، كما يقال، فقد كان طبيعياً أن يجد هذا الموضوع مساحة في أدبنا الخليجي تتناسب وانتشاره في مجتمعاتنا.
وتبرز على الفور واحدة من أشهر الشخصيات الروائية العُمانية، وهي «ظريفة» في رواية «سيدات القمر» لجوخة الحارثي، تلك العبدة المستسلمة لعبوديتها بسبب حبها لسيدها ومالكها التاجر سليمان، بعكس ابنها «سنجر» الذي كان «التكأة الفنية» لجوخة في إدانتها لهذه العنصرية والاستعباد. توبخ ظريفة سنجر لمجرد أنه سمى ابنته اسماً مما تعدها أسماء الأحرار: «... أيش؟ ... سيقتلك التاجر سليمان؛ تسمي على اسم أهله وأولاده؟ أنت جنّيت يا ولد؟ تكبّر راسك على من ربّاك وعلّمك وزوّجك؟»، ليردّ عليها سنجر من بين أسنانه: «اسمعي يا ظريفة، التاجر سليمان رباني وعلّمني وزوّجني لمصلحته هو، من أجل أنّي أخدمه، وتخدمه امرأتي وأولادي. لكن لا يا ظريفة، التاجر سليمان ما له دخل بي، نحن أحرار بموجب القانون، أحرار يا ظريفة، افتحي عيونك، الدنيا تغيّرت، وأنت تردّدين حبابي وسيّدي، كل الناس تعلّموا وتوظّفوا، وأنت مثل ما أنت، عبدة التاجر سليمان وبسّ، هذا الشايب الخرفان، افتحي عيونك يا ظريفة، نحن أحرار».
شخصية أخرى لا تُنسى في الرواية العُمانية، وهي شخصية «خديم ولد السيل» في رواية «تبكي الأرض يضحك زحل» لعبد العزيز الفارسي (القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية 2008)، ذلك الشاب الأسود الذي ينتسبُ إلى «السيل»، أي إلى الطبيعة، فهو مجهول الأب، وقد رباه بطل الرواية «المحيان»، وعاش في كنفه. وفي ذروة الرواية، يستجيب خديم لإغراءات الفتاة الجامعية عايدة للهرب معاً خارج القرية الظالم أهلها، لكن أهل القرية طاردوهما وقتلوهما كليهما. ولأنه ابن السيل، فقد غضب الأب (الطبيعة) فهبط من علٍ وجرف جميع من شاركوا في قتل خديم وعايدة إلى حيث لا يُعثر لهم على أثر. وتنتهي الرواية بعثور الأهالي الذين كانوا يبحثون عن ناجين من السيل على طفل أسود جديد في طشت نحاسي، كان على ما يبدو تعويضاً من الطبيعة لمحيان عن خديم الذي مات.
وإذا كانت ظريفة وخديم قد عانيا من كونهما عبدَيْن مؤكدَين في نظر عنصرية المجتمع، فإن ثمة من يعاني أكثر منهما بسبب طرده من جنة الأحرار من جهة، وجحيم العبيد من جهة ثانية، إنهم أولئك الذين اختار لهم مجتمع العنصريين لفظة «البيسر» أو «البياسر» للدلالة على هذا النبذ من المنزلتين. وخير من عبر عن هؤلاء في الأدب العُماني رواية «الأشياء ليست في أماكنها» للروائية هدى حمد، من خلال شخصية «أمل»، بطلة الرواية التي تقول لها أمها: «لست عبدة يا أمل، ولست حرة بالكامل أيضاً». أمل التي تنجح في التمرد على واقعها بالقراءة، تسأل خالتها: «ماذا سيحدث حين أقرأ كثيراً يا خالتي؟»، فتجيب الخالة: «ستعثرين على نفسك». وهذا ما حدث بالفعل، لقد عثرت أمل على نفسها بالقراءة والوعي والثقافة.
ومن شخصيات الأدب العُماني الشهيرة التي عانت من العنصرية، وناضلت في سبيل البحث عن حريتها، شخصية «زهرة» في رواية «الطواف حيث الجمر» لبدرية الشحي. وهذه فقط أمثلة للتمثيل لا الحصر، فلا يكاد أديب عُماني إلا وتناول هذا الموضوع في نص واحد على الأقل من نصوصه القصصية أو الروائية.

روايات وعنصريات: نماذج خليجية
> رواية «أنثى تشطر القبيلة» لإبراهيم شحبي (السعودية): يواجه «شاهر»، والد «تغريد» الذي قرر أن يزوجها لفرد من خارج القبيلة، الإقصاء ومقاطعة القبيلة.
> رواية «بنات الرياض» لرجاء الصانع (السعودية): يفشل «فيصل» بعد أن وقع في حب «ميشيل» أو «مشاعل» في إقناع أمه بالزواج منها لأسباب قبلية.
> رواية «القارورة» ليوسف المحيميد (السعودية): تناقش أزمة التمييز العنصري حيث تثير التمييز المناطقي: «ما بقي إلا أتزوج حساوية».
> رواية «ستر» لرجاء عالم (السعودية): تثير زواج «فهد» ابن الشيوخ من «طفول» الجداوية لأسباب اقتصادية ومستويات معيشة.
> رواية «أبو شلاخ البرمائي» لغازي القصيبي: رواية ساخرة تضج بتسمية العنصريات المحلية عبر التقابلات التي تنهض عليها العنصرية: القبلي يقابله الخضيري، والسني يقابله الشيعي، والنجدي يقابله الحجازي. وبسخرية حارقة، يتعمد «أبو شلاخ» أن يختم نسبه الطويل بابن خضير. عندها، يصرخ والد «وضحا» التي جاءها خاطباً: «خضيري وجاي تخطب بنتي؛ قم ما أنت من مواخيذنا».
> رواية «جاهلية» لليلى الجهني (السعودية): تثير الرواية إشكالية التمييز على أساس اللون: الأسود في مقابل الأبيض، حيث تقف الفتاة «لين» بلونها الأبيض متسائلة: «هل أخطأت عندما أحببت رجلاً أسود».
> رواية «صمت الفراشات» ليلى العثمان (الكويت): ذكورية الرجل واضطهاد المرأة.
> رواية «لأني أسود» لسعداء الدعاس (الكويت): تناقش التمييز العنصري على أساس لون البشرة.
> رواية «الأشياء ليست في أماكنها» لهدى حمد (عمان): تناقش التمييز ضد المرأة.
> رواية «القار» لعلوان السهيمي (السعودية): تناقش التمييز العنصري ضد السود: «سكتت، فربما شعرت بأنني أقصدها لأنها في نهاية المطاف امرأة بيضاء، لكنني لا أستطيع أن أغفر لكل هؤلاء البيض الذين يشعرون بأنهم مثل الآلهة، فهل لأنني رجل أسود أستحق كل هذه القسوة».
> رواية «تبكي الأرض يضحك زحل» لعبد العزيز الفارسي (عمان): العنصرية تجاه السود.
> رواية «الطواف حيث الجمر» لبدرية الشحي (عمان): تتتبع قصة هروب فتاة عمانية (زهرة) هربت من موطنها (نزوى) إلى جزيرة زنجبار (الرواية تتناول مرحلة الاحتلال العماني لأجزاء من أفريقيا، وبينها زنجبار). وكانت زهرة مغرمة بمواطنها سالم الذي تركها ليتزوج من شابة زنجبارية. والرواية تتحدث عن العمانيين من أصل أفريقي، والتمييز الذي يلاقونه، حيث تزوج سالم «السوداء بأنفها الأفطس».
> رواية «المشراف» عبيد السهيمي (السعودية): التمييز المناطقي (صفر سبعة)، في إشارة لمواطني جنوب البلاد... والتمييز العصري (العبد قربان الخرافات).



«سيرة الفيض العبثية»... الرواية بوصفها تأريخاً اجتماعياً

«سيرة الفيض العبثية»... الرواية بوصفها تأريخاً اجتماعياً
TT

«سيرة الفيض العبثية»... الرواية بوصفها تأريخاً اجتماعياً

«سيرة الفيض العبثية»... الرواية بوصفها تأريخاً اجتماعياً

في روايته الأحدث «سيرة الفيض العبثية»، الصادرة عن دار «الفرجاني» في القاهرة، يسعى الروائي الليبي صالح السنوسي لتأريخ مرحلة تاريخية ممتدة في سيرة منطقة «الفيض»، التي تقع بالقرب من مدينة بنغازي الليبية، متتبعاً سيرة هذه المنطقة الصحراوية وأهلها من «الفيضيين» الذين كانوا يعيشون على الرعي، في مجتمع فطري مترابط، له قوانينه الصارمة، بمعزل تماماً عن فكرة الدولة. كان الفيض بالنسبة لهم هو العالم بأسره، لا يرنون إلى مكان خارجه، بل إن مدينة بنغازي، أقرب المدن الليبية الكبيرة إليهم، كانت بالنسبة للكثيرين منهم عالماً مجهولاً، وكانوا يسمونها «البلاد»، ولم يسبق للكثيرين منهم زيارتها، خاصة من النساء اللائي كن يعشن ويمتن داخل حدود الفيض.

زمنياً، تتبع الرواية سيرة تلك المنطقة منذ نهايات القرن التاسع عشر، وحتى نهاية ستينات القرن العشرين، راصدة ما دار طوال هذه العقود من أحداث داخل حدود الفيض، الذي كان يتكون من أربعة نجوع. وفي الوقت ذاته، يشتبك تاريخ هذه المنطقة المعزولة عن العالم، بما يدور حولها من صراعات سياسية دولية ومحلية، وحروب عالمية طاحنة، حيث تلقي هذه الحوادث والكوارث السياسية الكبرى بظلالها القاتمة على حياة «الفيضيين»، الذين يبدون مسلوبي الإرادة تجاه التحولات السياسية الدولية، ولا يد لهم فيها، فنشوب الحروب وانتهاؤها ليس بيدهم، لكنهم يتحولون إلى وقود هذه المعارك. وعندما تهدأ نيران الحروب والصراعات السياسية، سرعان ما يعانون من آثار غضب الطبيعة وتقلباتها العنيفة، التي تصيب حياتهم في مقتل، بين أوبئة تنتشر بينهم، أو عواصف عاتية تسمم عليهم حياتهم وتقتل أغنامهم وتقتلع خيامهم البسيطة، أو مجاعات قاتلة تحصد منهم الكثيرين.

ثمة راوٍ عليم يمسك بزمام السرد من بدايته إلى نهايته، ويبدأ الحكاية من نهايتها، بعد أن تحول الفيض إلى مكان مقفر خال من الحياة، وبعد أن تشتت أهله، ومات منهم من مات، معلناً منذ المقطع الأول أن هذه الحيوات قد انقضت تماماً، ثم يبدأ في استعادتها عبر الاسترجاع، منذ بداية هذا الجيل الأخير الذي عاصر النهايات، وما مر بهم على مدار أكثر من نصف قرن، بادئاً بالتعريف بالفيض، وسبب تسمية هذه الأرض بهذا الاسم، حين كانت المياه تفيض إلى سهولها من الوديان المحيطة، وعارضاً للروايات المختلفة لنشأة الفيض وبداية الحياة فيه، وأول من بدأ تعمير هذه البقعة بالاستقرار فيها.

رغم أن الرواية تُعنى - بالأساس - بالتأريخ لهذه الجماعة البشرية، مآثر أفرادها، وأفراحهم وأتراحهم، زيجاتهم وعلاقاتهم الاجتماعية، تنافسهم وصراعهم، فنونهم وأساطيرهم، فإنها في الوقت ذاته لا تغفل التأريخ لتحولات النظام العالمي على مدار أكثر من ستين عاماً، وما عانته ليبيا من آثار الاحتلال الإيطالي، وكذا آثار الحرب العالمية الثانية، وانتهاء عصر الإمبراطورية البريطانية، وتشكل عالم ما بعد الحرب العالمية بقيادة القوتين العظمَيين: الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية.

وتؤرخ الرواية كذلك لما شهدته دول الجوار من أحداث سياسية وعسكرية، مثل العدوان الثلاثي على مصر، والثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي، فضلاً عن هزيمة السابع والستين، وانعكاس كل هذه التحولات والأحداث العالمية الكبرى على راعٍ بسيط يخرج بقطيع ماشيته باحثاً عن الكلأ في الوديان، أو على حياة امرأة عجوز مثل «سليمة الحضرية» التي فقدت شقيقيها في الحرب ضد الاستعمار الإيطالي، أو حياة «إمبارك الغجمة» الذي جنده الإيطاليون عنوة، ثم تحول إلى صفوف الإنجليز والحلفاء ليخوض معهم حربهم ضد دول المحور. وبعد انتهاء الحرب، ونجاته منها، عمل مع شركة بترول أميركية في التنقيب عن البترول في صحراء ليبيا، ليلقى حتفه في ميتة عبثية تحت أحد الحفارات في حادث في أثناء التنقيب.

لم تكن ميتة «إمبارك» وحده العبثية، بل سيرة الفيض كلها عبر هذه العقود، وهو ما بدا واضحاً منذ عنوان الرواية. ويتعمق هذا المعنى بعبثية سيرة الفيض وأهله مع توالي الأحداث، فهذه البقعة كانت بمثابة جنة لأهلها، يعيشون فيها على خيرات الطبيعة، خالقين عالماً يخصهم وحدهم، لهم أشعارهم وشعراؤهم، تاريخهم ومؤرخوهم، فنهم وغناؤهم وعازفوهم، ومصادر غذائهم، ونظامهم الاقتصادي البسيط القائم على المقايضة، وتراتبهم الطبقي والاجتماعي، وعائلاتهم وأنسابهم الاجتماعية، وقوانينهم وأعرافهم. كل هذا ينتهي إلى الزوال، فمع تدهور الحياة في الفيض، وجدب الحياة وقلة الأمطار، بدأت «سنوات النزوح الكبير»، وبحث الجميع عن أماكن أخرى للانتقال إليها ليتمكن من مواصلة الحياة، ومات الجميع غرباء في عزب الصفيح، وفي أكواخ على أطراف المدن المحيطة، وخاصة مدينة بنغازي، واستحال الفيض إلى أطلال خربة، وتحول «الفيضيون» إلى غرباء مشردين في الأحياء الفقيرة للمدن القريبة، وذابوا فيها، حتى انتهت الأجيال القديمة، وحلت محلها أجيال أحدث، تنتمي لهذه المدن، ولا تعرف شيئاً يذكر عن «الفيض» الذي كان، ولا عما كان فيه من حياة.

تبدو منطقة الفيض نموذجاً لعالم كامل تغرب شمسه، ونظام حياة تراجع لصالح أنظمة حياتية واقتصادية واجتماعية أزاحته إلى المجهول، فبدا كأن لم يكن، وكأنه لا أحد مر من هنا، لذا يبدو الراوي العليم - وربما من خلفه المؤلف نفسه، المولود في منطقة الفيض في عام 1949 - مسكوناً بفكرة استعادة المكان روائياً، واستعادة شخوصه، وتوثيق تلك الحياة التي كانت، جاعلاً من شخوص تلك البقعة المكانية، على بساطتهم الظاهرية، أبطالاً روائيين، مؤرخاً لهم ولحيواتهم، بما فيها من خرافات ومعتقدات وأهازيج وأمثال وحتى عديد. جعل كل ذلك الملمح الأنثروبولوجي واضح الحضور في المتن الروائي، فالرواية هنا ليست محض حكاية تُروى عن قوم كانوا يعيشون في منطقة ما من العالم، ودهستهم عجلة الحداثة، لكنها أقرب إلى التوثيق الأنثروبولوجي والتأريخ الاجتماعي لتلك الحياة الغابرة، التي كانت مفعمة بالحيوية.

وفق هذا التوجه الأنثروبولوجي الذي يهيمن على السرد، نتعرف على ثقافة سكان الفيض، التي اندثرت بنزوحهم وتشتتهم، ويعرف القارئ تاريخهم، كما يعرف ثقافتهم. مثلاً، رغم أمّيتهم، كان «تاريخ الفيضيين مليئاً بأسماء الشعراء الفحول في مختلف عصورهم، فهم يقتاتون على الشعر أكثر مما يقتاتون على الطعام»، ورغم ما يشاع عن انغلاق المجتمعات القبلية البدوية، كانت النساء في الفيض يتجولن بكامل الحرية، على عكس نساء المدن «المحبوسات في الحيشان ولا يخرجن منها»، كما كان للنساء في هذا المجتمع ما يشبه الحصانة الخاصة، فقد كان بيت «سليمة الحضرية» بمثابة الحرم الذي يأمن كل من يدخله، كما كان شعر الغزل مباحاً داخل الفيض.

وتُبرز الرواية تجليات الثقافة الشفاهية في هذا المجتمع القبلي، التي كانت جلية حتى في التقويم؛ إذ كانوا يؤرخون لحياتهم بكبار الحوادث التي عايشوها، مثل «عام الكرنتينا» أو «عام الطاعون»، وهي سمة شفاهية بامتياز. كما توثق الرواية بعض العادات الاجتماعية لتلك الجماعة البشرية، مثل «فك القيد» للأطفال، أو «التحجير» التي كانت سلطة مطلقة لابن العم، حين ترفض ابنة عمه الزواج منه، فيحكم عليها بالتحجير؛ أي يكون محظوراً عليها الزواج من أي شخص آخر إلا بإذن منه، فهو لا يتزوجها عنوة، ولكنه أيضاً يمنعها من الزواج من آخر، وهو حق مطلق له، لا ينازعه فيه أحد، حتى والد الفتاة.

«سيرة الفيض العبثية»، رواية مشغولة بحكي سيرة المكان، وسيرة شخوصه، مستفيدة من تقنية الحكاية الشعبية، لكنها أيضاً، في الوقت نفسه، مهمومة بالتوثيق والتأريخ الاجتماعي لهذه الجماعة البشرية، ومخزنها الثقافي والأنثروبولوجي.