رضوى عاشور.. جسر من عطاء إبداعي بين المتخيل والواقعي

صاحبة «ثلاثية غرناطة» التي انتصرت لقيم الجمال والعدل والحرية تغادر مقعد الحكي

الراحلة رضوى عاشور   -   رضوى إلى جانب الشاعرين ولدها تميم وزوجها مريد
الراحلة رضوى عاشور - رضوى إلى جانب الشاعرين ولدها تميم وزوجها مريد
TT

رضوى عاشور.. جسر من عطاء إبداعي بين المتخيل والواقعي

الراحلة رضوى عاشور   -   رضوى إلى جانب الشاعرين ولدها تميم وزوجها مريد
الراحلة رضوى عاشور - رضوى إلى جانب الشاعرين ولدها تميم وزوجها مريد

في المسافة بين الواقعي والمتخيل، تشكلت ملامح الكاتبة المصرية رضوى عاشور، بكل أبعادها الإنسانية والفكرية: كاتبة مبدعة متميزة، وإنسانة مناضلة تتفجر نبلا وعطاء، وأستاذة جامعية تبلورت في عباءتها المعرفية الخصبة ملامح حياة ثقافية انتصرت دائما لقيم الجمال والعدل والحرية.
بالأمس، اختصرت رضوى عاشور هذه المسافة ورحلت عن عالمنا عن عمر يناهز 68 عاما، وبعد صراع طويل مع المرض، تاركة للمكتبة العربية إرثا أدبيا متنوعا، ما بين القصة والرواية والترجمة والنقد الأدبي والثقافي.
انعكست هذه الثنائية بكل تجلياتها الفلسفية والفنية على مسيرة رضوى عاشور، وشكلت محورا أساسيا في إدارة مناورات السرد وصراعات الشخوص، وتقاطعات الأزمنة والأمكنة في أعمالها الأدبية، حيث تبادل المتخيل والواقعي الأدوار والأقنعة والرموز، والعلامات في الكثير من هذه الأعمال.
برز هذا على نحو لافت في عملها الروائي الأشهر «ثلاثية غرناطة»، التي استطاعت خلالها معايشة المتخيل، عبر جسر التاريخ، وبنظرة خاصة في طبقاته وطواياه، والتقليب في هوامشه المسكوت عنها ومتونه التقليدية الراسخة فتحت مظلة؛ فبقوة المتخيل استطاعت أن تصور هذه الرواية بفصولها الـ3 واقعا للحياة اليومية للمسلمين في الأندلس قبيل سقوط غرناطة بفترة زمنية قصيرة، وتسرد من خلال أحداثها أنماط أحوالهم في آخر معاقلهم إلى أن تم إقصاؤهم بالكامل عن الأندلس.
ولا تتوقف الرواية عبر فصولها عند حدود المرئي المتخيل من عباءة الماضي، وإنما تجعله حيا، يومض في غبار اللحظة الراهنة، ويشتبك معها بحيوية، أو كما قال عنها الناقد الرحل علي الراعي: «تجعل حقائق التاريخ تنتفض أمامنا حارّة دافقة». كما تعكس الرواية سلاسة لغوية جعلت السرد يتجاوز أنساقه التقليدية، ويصبح بمثابة مقوم بصري، يكشف بشفافية مصائر شخوص الرواية، وصراعاتهم المتنوعة مع واقعهم في تلك الفترة. فالرواية رغم بعدها الرمزي الأنثوي تقدم صورة تبدو شديدة الواقعية لهذه الشخصيات، وتغوص في أدق تفاصيل الحياة اليومية للبشر في تلك الفترة. واستطاعت عاشور أن تخلق من السرد حالة حميمية، بحيث يداعب بتعرجاته وإيقاعاته في مدارات صعودها وهبوطها، حواس وخيال القاري، فيشم روائح الطعام، وأنواع الزي، والعادات والتقاليد، وطقوس الحياة المتبعة في تلك الفترة، حتى كأنك تعاشرهم وتخالطهم، تتناول معهم المأكل والشراب، وهموما تعكس مدى العمق الذي استفادته عاشور من رحلاتها وإقامتها لفترات من حياتها ما بين إسبانيا وأميركا ودول أوروبية.
ساهم ولع رضوى عاشور بالترحال في خلق هذه السبيكة الروائية الفريدة في نوعها، حتى لكأنك تعرف تلك المرأة الغريبة العارية التي رآها أبو جعفر في منامه (في ثلاثية غرناطة)، وهي تنقل خطواتها على الورق في مستهل الرواية، وتظل مشدودا بها وهي تنحدر في اتجاهه من أعلى الشارع، وهو يغطيها بحرامه الصوفي الأبيض، بينما هي ماضية في طريقها من دون أن تأبه لأسئلته المتلاحقة لها عن هويتها وأسمها ومن تكون وأين دارها، إلى أن تذوب في الطريق المنحدر. وهو ما يجعل الكتابة في هذه الثلاثية الروائية أشبه برحلة سفر دائم بين المتخيل والواقعي، ونحت في الجغرافيا والتاريخ.
أيضا تواترت ثنائية المتخيل في روايتها «الطنطورية»، التي تروي فيها سيرة امرأة فلسطينية من عرب الشتات، من لحظة خروجها من المكان ورحيلها عنه. كما خيم ظل هذه الثنائية أيضا على حياتها الاجتماعية، زوجة للشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي وأمّا لابن وحيد هو الشاعر تميم البرغوثي، فعاشت الهم المصري والفلسطيني خطوتين تتصارعان معا، من أجل حرية واحدة توحد المتخيل بالواقعي في خطوة واحدة. لكن في الكتاب الذي حمل سيرتها الذاتية «أثقل من رضوى» صالحت بين المتخيل والواقعي بأمومة الكتابة، وأبوة اللغة، في علاقة مسافر وصل إلى محطة لم يكن يحسب أنها الأخيرة.
ولدت رضوى عاشور في القاهرة عام 1946. وتخرجت في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة القاهرة عام 1967. وحصلت على الماجستير في الأدب المقارن عام 1972 من الجامعة نفسها، ثم حصلت على الدكتوراه في الأدب الأفريقي الأميركي من جامعة ماساتشوستس بالولايات المتحدة عام 1975. وكانت قبل وفاتها تشغل وظيفة أستاذ بكلية الآداب جامعة عين شمس، وانتخبت من زملائها مقررة اللجنة العلمية الدائمة لترقية أساتذة اللغة الإنجليزية وآدابها في أقسام اللغة الإنجليزية وآدابها في الجامعات المصرية من عام 2001 إلى 2008. أشرفت على عشرات الرسائل الجامعية المقدمة لنيل الماجستير والدكتوراه، وقيَّمت عشرات الأبحاث المقدمة للحصول على درجة الأستاذية.
شاركت رضوى عاشور في الحياة الثقافية العربية عبر كتبها ومقالاتها ومحاضراتها، وعبر انتمائها إلى لجنة الدفاع عن الثقافة القومية، واللجنة الوطنية لمقاومة الصهيونية في الجامعات المصرية، ومجموعة 9 مارس لاستقلال الجامعات، وغيرها من الحركات المعارضة.
حصلت على جائزة النقد العالمي في الدورة الثامنة لجائزة «تاركينيا كارداريللي 2009» بإيطاليا، وجاء فوز عاشور حسب لجنة التحكيم لأنها «وجه ثقافي مركب وآسر»، مشيرة إلى إنتاجها في مجال الرواية والقصة القصيرة والنقد الأدبي والعمل الأكاديمي، وإلى مواقفها من قضية فلسطين وقضايا الحريات العامة وقضية المرأة، وإلى انحيازها لجميع القضايا العادلة، فضلا عن أنها واحدة من الشخصيات الفكرية المهمة في مصر.
وحول رحلتها الأدبية ودورها في الحياة الثقافية، قالت الكاتبة سلوى بكر لـ«الشرق الأوسط»: «فقدنا اليوم كاتبة مرموقة وشديدة الاحترام ونكنّ لها جميعا كل المحبة، الراحلة كانت من الكاتبات المصريات اللواتي ينتمين إلى مدرسة تلتزم بترجمة هموم الناس إلى واقع بين سطورها، تحافظ على هوية الشعب المصري بل والعربي أيضا».
وأضافت بكر قائلة إنها «كانت واحدة ممن سعوا إلى تذكير الذاكرة العربية دائما بكل ما يتعلق بالهوية الفلسطينية، ويتضح هذا جليا في روايتها (الطنطورية)، كما أنها سعت من خلال ثلاثيتها لتأريخ سقوط غرناطة، وتذكير العرب بما حدث في الأندلس، وذلك نابع من شغفها الدائم بتناول القضايا الكبرى الموجودة في عالمها المحيط».
وأشارت إلى أن الكاتبة رضوى عاشور صاحبة نظرية حرة، وهي سقوط السرديات الكبرى، وعن عملها الأخير «أثقل من رضوى» تقول بكر إن «الراحلة لديها تجربة حياتية ثرية تستحق التسجيل، وقد أحسنت صنعا حين كتبتها، فهي تنتمي إلى جيل لم يغب عن الساحة لحظة، حتى وهي مريضة تدون همومها الذاتية، وتضفرها، وتمزجها مع هموم الوطن والآخرين».
ويري الناقد د. مدحت الجيار أن الراحلة رضوى عاشور وهبت حياتها من أجل مصر، سواء بالعمل السياسي أو العمل العام ثم بالعمل الأدبي من خلال الرواية والقصة والترجمة بديلا عن العمل العام والسياسي، بعد أن ضعفت صحتها، ولكنها تبقى صاحبة إبداعات روائية أثّرت كثيرا في الأجيال التي تلتها من كاتبات الرواية والقصة القصيرة، كما تبنت مشروع تأريخ مهما، وهو تأريخ أحداث المنطقة العربية، وأخرجت مجموعة روايات مسلسلة عن غرناطة بالإضافة إلى روايات مفردة تبنت أفكارا تقدمية وفكرة التغيير في الواقع والتغيير في الفن والإبداع، وهذا ما جعلها صاحبة لغة مميزة، وأكثر ما كان يثير الدهشة أثناء متابعة أعمال الراحلة كيف تقوم بكل ما تقوم به؟! كيف تبدع وسط كل هذا المرض والألم والوجع؟!



وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان

وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان
TT

وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان

وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان

يحتلّ موقع سمهرم مكانة مميزة في خريطة «طريق اللبان» العُمانية التي دخلت عام 2000 في قائمة اليونيسكو الخاصة بمواقع التراث العالمي، وهي طريق البخور التي شكّلت في الماضي معبراً تجارياً دولياً ازدهر على مدى قرون من الزمن. بدأ استكشاف هذا الموقع في مطلع الخمسينات، وأدت أعمال التنقيب المتواصلة فيه إلى العثور على مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية، منها بضعة أنصاب حجرية مسطّحة تحمل نقشاً غائراً يمثّل وجهاً آدمياً مختزلاً، تقتصر ملامحه على عينين واسعتين وأنف مستطيل.

يضمّ موقع سمهرم مستوطنة أثرية تجاور خوراً من أخوار ساحل محافظة ظفار يقع في الجهة الشرقية من ولاية طاقة، يُعرف محليّاً باسم «خور روري». يعود الفضل في اكتشاف هذا الموقع إلى بعثة أميركية، أسّسها عام 1949 في واشنطن عالم الآثار وينديل فيليبس الذي لُقّب بـ«لورنس العرب الأميركي». شرعت هذه البعثة في إجراء أول حفريّة في «خور روري» خلال عام 1950، وواصلت عملها على مدى 3 سنوات، وكشفت عن مدينة لعبت دور ميناء دولي، عُرفت باسم سمهرم، كما تؤكد النقوش الكتابية المدونة بخط المُسنَد العربي الجنوبي. من بين أطلال هذه المدينة المندثرة، خرجت مجموعة من اللقى المتنوعة، منها 3 أنصاب حجرية مسطّحة زُيّن كلٌّ منها بنقش تصويري غائر طفيف يمثّل وجهاً آدمياً ذكورياً، كما يؤكّد الكشف العلمي الخاص بهذه البعثة.

عُثر على حجرين من هذه الحجارة على مقربة من أرضية مبنى من معالم سمهرم، وعُثر على ثالث على مقربة من المعبد الخاص بهذه المستوطنة، ممّا يوحي بأنه شكّل في الأصل جزءاً من أثاث هذا المعبد على الأرجح، كما رأى العالِم فرانك فيدياس أولبرايت في تقرير نُشر في عام 1953. استمرّت أعمال المسح والتنقيب في سمهرم، وتولّتها منذ عام 1997 بعثة إيطالية تابعة لجامعة بيزا، ومع هذه الأعمال، تمّ الكشف عن مجموعة أخرى من اللقى المتنوعة، منها 3 أنصاب حجرية مسطّحة مشابهة لتلك التي عثرت عليها البعثة الأميركية.

يتكرّر النقش التصويري على هذه الأنصاب التي احتار أهل الاختصاص في تحديد وظيفتها، ويتمثّل بوجه آدمي مجرّد هندسياً إلى أقصى حد. اختُزلت ملامح هذا الوجه بعينين لوزيّتين واسعتين، وأنف مستطيل رفيع. خلت هاتان العينان الفارغتان من حدقتيهما، كما غابت عنهما الرموش والحواجب، فظهرتا على شكل مساحتين بيضاويتين حُدّدتا بخط ناتئ رفيع وبسيط في وضعية المواجهة. كذلك، ظهر الأنف على شكل مثلّث عمودي طويل يحدّده خط مماثل. يعود هذا الوجه ويظهر على واجهة مجمّرة مخصّصة لحرق البخور، عثرت عليها البعثة الإيطالية خلال عام 2014، إلى جانب مجمّرتين تتبعان الطراز المألوف المجرّد من النقوش. ويتميّز هذا الوجه بظهور حاجبين مقوّسين يمتدان ويلتصقان عند أعلى مساحة الأنف المستطيلة.

خرجت من موقع سمهرم مجموعة كبيرة من المجامر والمباخر، غير أن هذا الوجه المجرّد لا يظهر على أي منها، كما أنه لا يظهر على أي من عشرات المجامر التي عُثر عليها في نواحٍ عدة من جزيرة العرب الشاسعة. في الواقع، يتبع هذا الوجه طرازاً ارتبط على نحوٍ واسع بشواهد القبور، وعُرف باسم «المسلّة ذات العينين». خرج العدد الأكبر من هذه المسلّات من محافظة الجوف التي تقع في الجزء الشمالي الشرقي من صنعاء، وخرج عدد آخر منها من وادي بهيان في محافظة حضرموت. تجاوز هذا الطراز حدود جنوب الجزيرة العربية، وبلغ شمالها حيث ظهر في واحة تيماء في منطقة تبوك، وقرية الفاو في الجنوب الغربي من الرياض، كما تؤكّد شواهده التي كشفت أعمال التنقيب عنها خلال العقود الماضية.

حمل هذا الطراز طابعاً جنائزياً لا لبس فيه، وتمثّلت خصوصيّته بهذا الوجه التجريدي الهندسي الذي ظهر على شواهد قبور فردية، كما تشير الكتابات المنقوشة التي تسمّي أصحاب تلك القبور. يصعب تأريخ هذه المسلّات بدقة، نظراً إلى غياب أي إشارة إلى تاريخها في الكتابات المرفقة، والأكيد أن هذا الطراز الجنائزي ظهر في القرن الثامن قبل الميلاد، وشاع على مدى 5 قرون. يحضر هذا الوجه في سمهرم، ويشهد هذا الحضور لدخوله إقليم عُمان في مرحلة تلت فترة انتشاره في جنوب الجزيرة وفي شمالها، فالدراسات المعاصرة تؤكد أن ميناء سمهرم شُيّد في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، وارتبط بمملكة حضرموت في زمن نشوء التجارة البحرية وازدهارها في المحيط الهندي، وظلّ ناشطاً حتى القرن الخامس للميلاد، حيث تضاءل دوره وتلاشى تدريجياً نتيجة اندحار مملكة حضرموت.

حضر هذا الوجه التجريدي في سمهرم حيث ظهر على عدد من المسلّات، وانطبع بشكل استثنائي على مجمرة تبدو نتيجة لذلك فريدة من نوعها إلى يومنا هذا. خرج هذا الوجه في هذا الموقع العُماني عن السياق الجنائزي الذي شكّل أساساً في جنوب جزيرة العرب، وحمل هُويّة وظائفية جديدة، وتحديد هذه الهوية بشكل جليّ لا يزال يمثّل لغزاً وتحدّياً للباحثين في ميدان الآثار العُمانية.