«الابنة الإسبانية»... رواية فنزويلية عن مآسي مرحلة تشافيز

طُبعت في 22 عاصمة وصدرت في ترجمة عربية

«الابنة الإسبانية»... رواية فنزويلية عن مآسي مرحلة تشافيز
TT

«الابنة الإسبانية»... رواية فنزويلية عن مآسي مرحلة تشافيز

«الابنة الإسبانية»... رواية فنزويلية عن مآسي مرحلة تشافيز

تتناول رواية «الابنة الإسبانية» للكاتبة الصحافية الفنزويلية كارينا ساينز بورغو، حالة التردي والفقر التي يعيشها المجتمع الفنزويلي من بعد رفاهية نفطية، بسبب انعدام الديمقراطية، وتفشي العنف في بلادها إبان حكم هوغو تشافير. وهي العمل الأول للمؤلفة، وطُبعت في 22 عاصمة في أوروبا وأميركا الشمالية واللاتينية، بما فيها فنزويلا بلد المؤلفة الأم، وصدرت نسختها العربية حديثاً في لبنان عن «الدار العربية للعلوم ناشرون»، بترجمة جلال العطاس.
تبدأ الرواية قبل هجرة بطلتها أديلايدا فالكون، منتحلة شخصية أخرى إلى إسبانيا، منذ أكثر من 13 عاماً. راحت بورغو تصف ما يدور على لسان بطلتها أديلايدا، من خلال ما تراه من حالات متناقضة يتقلب فيها المحيطون بها، من أقارب وأصدقاء وجيران، في لغة سردية تراوحت بين البوح الهامس، والصراحة الجارحة، والغضب الذي ترك آثاراً واضحة على تعبيراتها، وهي تصف الواقع وما يدور في محيطها من أحداث.
عبر صفحاتها التي تزيد على 250 صفحة، تستعرض لنا المؤلفة حياة أديلايدا القاسية في مجتمع غاب عنه القانون، ومن آثار ذلك قيام مجموعة من النساء الخارجات على القانون باحتلال شقتها، ومنعها من الدخول.
لم تستطع أديلايدا استعادة بيتها، الذي ظلت لأكثر من خمسة وثلاثين عاماً تعيش بين جدرانه بصحبة والدتها، التي فقدتها، ودفنتها بمفردها. أسكنتها التراب بكامل أشيائها: فستانها الأزرق، وحذائها الأسود، ونظارتها الطبية، ثم صار عليها أن تواجه العالم الذي يشبه «بالوعات الصرف الصحي» بمفردها، لكنها رغم هذه الأجواء الممرضة راحت بلغة حزينة تخفف من أوجاع لحظة فقدان أمها، راحت تستحضر الأيام السعيدة في طفولتها، عندما كانت تعيش حياة طبيعية، في حضن أمها التي كانت لا تفارقها أبداً، ولا تحتاج في ظل وجودها لأحد من العالم، ولكن ذكرياتها رغم عذوبتها كانت تختلط برائحة الغاز المسيل للدموع التي تطلقها الشرطة على المتظاهرين فتخترق النوافذ، وتسبب الاختناق، وهي إشارة بالغة على انعدام الأمن والحرية في آن واحد.
لكنها حين عادت إلى البيت، فوجئت بفقد من نوع آخر، وهو السكن، فلجأت لجارتها أورورا بيرالتا، التي تشتهر بين جيرانها بابنة الإسباني، راحت تدق بابها، ولما لم تجد رداً، دلفت إلى الداخل، ووجدتها ميتة، وفوق طاولة غرفة معيشتها، رسالة تبلغها بأنها حصلت على الجنسية الإسبانية. وبين الضياع واليأس والخوف لم تجد أديلايدا من بُدٍّ سوى انتحال شخصية «بيرالتا»، والهروب من واقعها المرير بحثاً عن الأمان، فاتجهت إلى إسبانيا عبر البحر الذي يمكن النظر إليه بوصفه برزخاً بين حياتين وعالمين وشخصيتين تودّع كل واحدة الأخرى ربما إلى الأبد.
كما تحكي كارينا ساينز على لسان بطلتها أديلايدا عن أوضاع السجون وهي تستدعي شخصية سينتياغو شقيق صديقتها، الذي قبضوا عليه، وأمضى أكثر من شهر داخل سجن يمتد لخمسة طوابق تحت الأرض. كانت الأصوات مكتومة ولا توجد نوافذ ولا ضوء طبيعي ولا تهوية. تم وضع سينتياغو داخل زنزانة مساحتها مترين في ثلاثة أمتار. ولم يكن العنف في تلك الأجواء حكراً على أنصار الحكومة، لكنه جاء أيضاً من سائقي الدراجات النارية والمسلحين والخارجين على القانون من المجرمين.
وعبر تحولات السرد تحدثت بطلة «الابنة الإسبانية» عن خالتيها التوأم، وصديقتي والدتها، ماريا خيسوس وفلورنسيا، وهما معلمتان متقاعدتان كانت الأم على اتصال بهما على مر السنين. وقد أعربتا عن تعازيهما وغادرتا بسرعة بعد إلقاء نظرة على جثتها، كما تطل صديقتها «آنا» بمأساة اعتقال أخيها: «كانت بصحبة زوجها، وقد حضر ستة أشخاص في أعقاب إعلان الوفاة. آنا كانت الأولى. وصلت وهي تسحب قدميها. كان زوجها خوليو يسندها من ذراعها. بدت آنا كأنها تتحرك عبر نفق مظلم دفعها إلى العالم حيث يعيش بقيتنا، وكان بإمكاننا أن نشاهد فقط كل شيء وهو يختفي، الناس والأماكن والأصدقاء والذكريات والطعام والصفاء والسلام والعقلانية التي جعلت أبناء الثورة يتخذون موقفاً مضاداً لمصالح الناس وحياتهم».
وخلال السرد يمكن ملاحظة أن ثمة مسحة من الاستسلام تتجلى واضحة عندما تتحدث أديلايدا عن والدها الذي ذهب ولم يعد، وكانت خالتاها التوأم «كلارا» و«أميليا» تصفانه بالميت.
وقد كان غيابه أو عدم وجوده علامة على وجود ضلع ناقص في حياة البطلة، لم تشعر به أبداً، فهو «الميت» «هكذا أشاروا إلى والدي»، كان يدرس في كلية الهندسة، ولم تسمع أبداً أمها تتحدث عنه أو تذكر اسمه. أما هو فلم تَرِد منه أي كلمة بعد مغادرته، هكذا أخبرتها والدتها. وقد بدا هذا حافزاً جيداً بما يكفي لعدم التأسي على غيابه. إذا لم يكن يريد أن يسمع منا، فلماذا نتوقع منه أي شيء؟».
كانت الأم بالنسبة لأديلايدا تعني الأم. ومن هنا يمكن فهم كيف تزعزع وجودها في اللحظة التي دفنت فيها أمها في مقبرة «لا غواريتا»، وكيف فلسفت غيابها وهي تلقي نظرة أخيرة على الجثمان، وقبل ذلك الصلاة عليه في الكنيسة. لقد فهمت أخيراً أن الموت يحدث للغة أولاً.



«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل
TT

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

في كتابه «هوامش على دفتر الثقافة» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يستعرض الشاعر عزمي عبد الوهاب العديد من قضايا الإبداع والأدب، لكنه يفرد مساحة مميزة لمسألة «الحزن»، وتفاعل الشعراء معها في سياق جمالي إنساني رهيف. ويشير المؤلف إلى أن ظاهرة الحزن لم تعد ترتبط بأسباب عرضية، أو بحدث يهم الشاعر، ويدفعه إلى الحزن كما كان الحال في الشعر العربي القديم.

ومن بين بواعث الحزن ومظاهره في الشعر قديماً، أن يفقد الشاعر أخاً أو حبيبة، فيدعوه هذا إلى رثاء الفقيد بقصائد تمتلئ بالفقد والأسى، مثل الخنساء في رثاء شقيقها، وأبي ذؤيب الهذلي في رثاء أبنائه، وجرير في رثاء زوجته، وهناك من يشعر بقرب الموت فيرثي نفسه، كما فعل مالك بن الريب، وقد يعاني الشاعر مرضاً، فيعبر عن ألمه.

أما في الشعر الحديث، فيعد الحزن ظاهرة معنوية تدخل في بنية العديد من القصائد، وقد استفاضت نغمتها، حتى صارت تلفت النظر، بل يمكن أن يقال إنها صارت محوراً أساسياً في معظم ما يكتبه الشعراء المعاصرون حتى حاول بعض النقاد البحث في أسباب تعمق تلك الظاهرة في الشعر العربي. ومن أبرزهم دكتور عز الدين إسماعيل الذي يعزو أسباب الظاهرة إلى تنامي الشعور بالذات الفردية بدلاً من الجماعية، وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن «اغتراب» الإنسان المبدع؛ إذ يأخذ أشكالاً متعددة، ولعل أقسى أشكال ذلك الاغتراب ما عبر عنه أبو حيان التوحيدي بقوله: «أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه».

ذكر إسماعيل عدة أسباب للحزن منها تأثر الشاعر العربي الحديث بأحزان الشاعر الأوروبي وبالفنين الروائي والمسرحي، وقد توصل إلى أن أحزان الشاعر مصدرها المعرفة، وكأن شاعرنا الحديث تنقصه أسباب للحزن وبالتالي يعمد إلى استيرادها أوروبياً من شعراء الغرب.

وفي كتابه «حياتي في الشعر» يواجه صلاح عبد الصبور مقولات النقاد حول أنه شاعر حزين، موضحاً أن هؤلاء يصدرون عن وجهة نظر غير فنية، لا تستحق عناء الاهتمام مثل آراء محترفي السياسة أو دعاة الإصلاح الأخلاقي التقليديين. وانبرى عبد الصبور لتفنيد النظريات التي يأتي بها هؤلاء النقاد لمحاكمة الشعر والشاعر قائلاً: «لست شاعراً حزيناً لكني شاعر متألم، وذلك لأن الكون لا يعجبني ولأني أحمل بين جوانحي، كما قال شيللي، شهوة لإصلاح العالم، وهي القوة الدافعة في حياة الفيلسوف والنبي والشاعر، لأن كلاً منهم يرى النقص فلا يحاول أن يخدع نفسه، بل يجهد في أن يرى وسيلة لإصلاحه».

يتحدث الشاعر أيضاً عن قضيتين أثارهما بعض النقاد عن شعره، أولاهما أن حزن هذا الجيل الجديد من الشعراء المعاصرين حزن مقتبس عن الحزن الأوروبي، وبخاصة أحزان اليوميات. وكذلك قولهم إن الشعراء يتحدثون عن مشكلات لم يعانوها على أرض الواقع كمشكلة «غياب التواصل الإنساني» من خلال اللغة، كما تتضح عند يوجين يونيسكو أو «الجدب والانتظار» عند صمويل بيكيت وإليوت، أو «المشكلات الوجودية» عند جان بول سارتر وكامو، وبخاصة «مشكلة الموت والوعي».

وشرح عبد الصبور كيف أن الحزن بالنسبة إليه ليس حالة عارضة، لكنه مزاج عام، قد يعجزه أن يقول إنه حزن لكذا ولكذا، فحياته الخاصة ساذجة، ليست أسوأ ولا أفضل من حياة غيره، لكنه يعتقد عموماً أن الإنسان «حيوان مفكر حزين».

ويضيف عبد الصبور: «الحزن ثمرة التأمل، وهو غير اليأس، بل لعله نقيضه، فاليأس ساكن فاتر، أما الحزن فمتقد، وهو ليس ذلك الضرب من الأنين الفج، إنه وقود عميق وإنساني».

لكن ما سبب الحزن بشكل أكثر تحديداً عن الشاعر صلاح عبد الصبور؟ يؤكد أنه هو نفسه لا يستطيع الإجابة ويقول: «أن أرد هذا الحزن إلى حاجة لم أقضها، أو إلى فقد شخص قريب، أو شقاء طفولة، فذلك ما لا أستطيعه».

ومن أشهر قصائد صلاح عبد الصبور في هذا السياق قصيدة تحمل عنوان «الحزن» يقول في مطلعها:

«يا صاحبي إني حزين

طلع الصباح فما ابتسمت

ولم ينر وجهي الصباح»

لقد حاول التحرر فيها من اللغة الشعرية التقليدية عبر لغة يراها أكثر مواءمة للمشهد، لكن كثيرين اعترضوا على تلك اللغة، في حين أنه كان يريد أن يقدم صورة لحياة بائسة ملؤها التكرار والرتابة. ويؤكد الناقد د. جابر عصفور أن السخرية والحزن كلاهما ركيزتان أساسيتان في شعر عبد الصبور، وهو ما جعل عصفور يسأل الأخير في لقاء جمعهما: «لماذا كل هذا الحزن في شعرك؟» فنظر إليه عبد الصبور نظرة بدت كما لو كانت تنطوي على نوع من الرفق به ثم سأله: «وما الذي يفرح في هذا الكون؟».

وتحت عنوان «ظاهرة الحزن في الشعر العربي الحديث»، يوضح الباحث والناقد د. أحمد سيف الدين أن الحزن يشكل ظاهرة لها حضورها وامتدادها في معظم التجارب الشعرية الحديثة، خلافاً لما كان عليه الحال في الشعر العربي القديم. ويميز سيف الدين بين حزن الإنسان العادي وحزن المبدع الذي يتسم بحساسية خاصة، حيث يستطيع أن يحول حزنه وألمه إلى مادة إبداعية.

ويلفت الكتاب إلى أن هناك أسباباً متنوعة للحزن، منها أسباب ذاتية يتعرض لها الشاعر في حياته كالمرض أو الفقر أو الاغتراب. أيضاً هناك أسباب موضوعية تتصل بالواقع العربي، وما فيه من أزمات ومشكلات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية. ومن ثم، فالحزن ليس فقط وعاء الشعر، إنما هو أحد أوعية المعرفة الإنسانية في شمولها وعمقها الضارب في التاريخ.