شخصيات إنسانية تعاني من رُعب الاختفاء

مصطفى زكي ينوع مساراتها في «مسيح باب زويلة»

شخصيات إنسانية تعاني من رُعب الاختفاء
TT

شخصيات إنسانية تعاني من رُعب الاختفاء

شخصيات إنسانية تعاني من رُعب الاختفاء

يحتشد أبطال المجموعة القصصية «مسيح باب زويلة» خلف أشباحهم، مُدججين بأسلحة يطاردون بها الخوف من تهديدات الحياة التي تأتي بشكل مباغت، أصبحوا ينتظرون هذا الخف، كأنه جنون شارد خلف الأبواب، لكن لا يمنحهم الانتظار سوى مزيد من الخوف والهلع. عبر أربع عشرة قصة قصيرة يدفع القاص المصري مصطفى زكي، أبطاله فوق مسرح مفتوح على فضاء التخييل، يُعبرّون عن وجودهم الإنساني المُهدد على الدوام، وهم يلتقطون سياقات من موروثات ثقافية وأسطورية، فأحد الأبطال يتخذ هيئة طائر يتعلق بنافذة حبيبته، يأمل لو تنظر في عينيه فتعرف هويته الحقيقية «هي لا تعلم بأنك نصف بشري تتحول في الليل لطائر لا اسم له»، فهو الذي يلتقيها في الصباح في هيئته البشرية، ويخشى بفطرة الطير أن يتعرض للصيد ذات ليلة، فيؤلم حبيبته اختفاؤه كحبيب بشري، وحبيب ليلي على هيئة طير، بعدما تعلقت بزياراته اليومية لها عبر النافذة، وألفته «ربما اختفاؤك سينسيها اختفاء الطائر، وربما اختفاء الطائر سيُنسيها اختفاءك، ربما ستربط بينكما في خيالها، أنكما قد رحلتما في ذات التوقيت، وتركتماها وحيدة، ولن تُفكر في أنك هو الطائر».
رُعب الاختفاء، وغياب الفجأة، وفراغ اللاوجود، من الثيمات الأساسية في هذه المجموعة، ففي القصة الرئيسية «مسيح باب زويلة»، ما يضاعف من مأساة البطل أنه سيتم شنقه دون ذكر اسمه، فمن يقومون بعملية الشنق، يكتفون بقراءة منطوق الحكم الذي يصفه فقط بالشقي الخارج على القانون.
يُشنق البطل المعروف بمواقفه الشجاعة على باب زويلة، في استدعاء لميراث طويل ارتبط بمشانق هذا الباب وسط القاهرة قديماً، ولكن الكاتب يضع هذا الميراث في سياق غارق في الغرائبية، فبعد الأمر بإبقائه مُعلقاً على باب زويلة أمام المارة ثلاثة أيام ليكون عبرة لهم، يختفي أثره صباح اليوم الثالث: «لقد اختفي مخفي الاسم»، لتدخل المدينة بسبب اختفائه في متاهة طاحنة وفتنة لا نهائية، يصحون كل يوم على فزع وأحدهم مُعلق على مشنقة باب زويلة، فيما يتمثل للأمهات والأطفال، طيف «مخفي الاسم» وهو يرتفع في الهواء تحت المطر لأعلى.
تتعدد الأبواب في قصص المجموعة حتى تكاد تتداخل، رغم انفصال عالم كل قصة عن الأخرى، من باب زويلة، مروراً بأبواب بيوت تتزاحم خلفها مشاعر قاطنيها، وصولاً لأبواب كهوف بامتداد جبل، كما في قصة «ما جرى في ليلة مُقمرة». وخلف الأبواب دائماً هناك حضور طاغٍ لمُفردات الطبيعة التي تقتحم بتأثيرها المُفرط تلك الأبواب التي تبدو أمامها هشة تماماً، فهي أحياناً تحمل أبطال المجموعة في خطواتهم للتسامي عن أرض الخوف التي يسكنونها، وأحياناً تُسرّي عنهم بعبور آمن من أبوابهم المُغلقة وصولاً لساحات مُبطنة بالأحلام، ففي قصة «أسانسير يأخذك للسماء» يقود مصعد العمارة التي يقطن فيها البطل وابنه إلى طابق سحري، يسكنهم الخوف في البداية، ثم سرعان ما ينقشع نور مع مُواربة باب المصعد الحديدي: «ينفتح الباب ببطء ليغمرنا ضوء شديد أعمى عيوننا لثوانٍ. أنظر له نظرة أخيرة. أبتسم ابتسامة واسعة تملأ وجهي كله قبل أن أخطو بحرص على السحاب المنثور أمامنا».
يواصل زكي في هذه المجموعة التنقل بين ضفتي الفلسفة والديستوبيا، ففي قصته «وردتان لن تأكلهما العصافير» تتبدل أحوال البطل بعد أن تخبره عرافة أنه سيسقط بعد سقوط ورداته السبع، يلتقط النبوءة حتى تُثقل موازين حياته، يُحصي الوردات في شرفته فيجدهن سبعة، يُسائل نفسه عن حقيقة الصدف، ومعنى السقوط، يتحالف ضده جنون الطقس، تتراقص الورود أمام الرياح، كرقصة موت وشيك، تتسلل العصافير وتأكل من ورداته، تتناقص الوردات، فيهرع ليشتري وردات جديدة مكان ما تلف منها، ويدخل في صراع جنوني مع الوقت، والمصير. ولعل هذا السياق «الديستوبي» الذي يسود عالم السرد في المجموعة، هو ما يمكن لاحقاً قراءته في ضوء التصدير الذي اختاره مصطفى زكي لمجموعته، وهو اقتباس للكاتب الفرنسي يريك فوتورينو «قالت لي وهي تهم بالانصراف: سأسير في أحلامك وستكون شديدة الزُرقة».
وعلى ذكر الزُرقة، يضع المؤلف عنوان واحدة من قصصه في صيغة سؤال وهو «أين يذهب الأزرق؟»، وهو سؤال يتكرر صداه عبر القصة كصراخ يُزاحم صافرات قطار، فيتفرق أصحاب التذاكر البرتقالية وأصحاب التذاكر الزرقاء، وتنفجر إحداهن في هيستيريا بعد أن يُنادى في المحطة على أصحاب التذكر البرتقالية لرصيف القطار: «انتفضت مكانها فجأة والتفتت لتتشبث بمن يجلس خلفها: إلى أين يذهب الأزرق أرجوك؟ يزيحها الرجل خلفها بعنف وهو ينظر للأمام دون أن يرد. يتعالى صوتها بشدة: ليخبرني أحد إلى أين يذهب الأزرق. كان ينظر لها ولمحاولاتها المجنونة الأخيرة دون أن يفعل شيئاً. كأنما يشاهد مشهداً من فيلم. صوتها يخرج متآكلاً عبر نشيجها المتصاعد». تقع مجموعة «مسيح باب زويلة» في 118 صفحة، وقد حصلت على جائزة ساويرس لأفضل مجموعة قصصية لهذا العام، وهي المجموعة الثالثة للكاتب مصطفى زكي بعد «مشهد من ليل القاهرة» و«تأكل الطيور من رأسه».



تأخذ أحلامي شكل الوطن الذي حُرمت منه

هيثم حسين
هيثم حسين
TT

تأخذ أحلامي شكل الوطن الذي حُرمت منه

هيثم حسين
هيثم حسين

أحلم بسوريا جديدة تُعاد صياغتها على أسس المواطنة الحقيقيّة، حيث ينتمي الفرد إلى الوطن لا إلى طائفة أو عرق أو حزب... أتوق إلى وطنٍ لا يُجرّم فيه الحلم، ولا يُقمع فيه الاختلاف، وطنٍ يكفل لكلّ فرد حقّه في التعلم بلغته الأم، وفي التعبير عن هويّته وثقافته من دون خوف أو وصاية أو إنكار.

أحلم بسوريا تصان فيها الحريات العامّة، حيث يصبح احترام حرّية الرأي والتعبير قانوناً لا شعاراً أجوفَ، وحيث يُحمى المواطن لا أن يُساق إلى السجون أو المنافي لمجرّد مطالبته بحقوقه. سوريا التي أتمنّاها هي التي يتساوى فيها الجميع أمام القانون، حيث لا تفضيلات ولا محسوبيات، لا فساد ينهش موارد البلاد ولا استبداد يدمّر مستقبلها.

أحلم ببلد يُدار بقوانين عادلة مستمدّة من حقوق الإنسان والمواثيق الدولية، لا بقرارات فردية تُصادر الحياة برمّتها؛ حيث سيكون لكلّ فرد حقّه في التعلم والعمل والتعبير عن رأيه، وستُحترم لغات السوريّين وثقافاتهم كما تُحترم حياتهم. لن يُضطهد الكرديّ بسبب لغته، ولا أيّاً كان بسبب اختلافه أو رأيه أو معتقده، ولن يُنظر إلى الأقلّيات وكأنّها مُلاحقةٌ في وطنها، لن يكون هناك من فرق بين سوريّ وآخر. سوريا التي أنشدها ستُعيد الاعتبار إلى حقوق الجميع من دون تمييز، بحيث تُعتبر الحقوق واجبات تضمنها الدولة وتحميها.

أحلم أن تكون سوريا ما بعد الاستبداد دولة القانون والمؤسّسات، لا الفوضى والاستئثار بالسلطة. دولة تكفل لمواطنيها حرّية الاختيار وحرّية النقد، وتتيح لهم المشاركة الفاعلة في صنع مستقبلهم. لا أريد أن تُستبدل ديكتاتورية بأخرى، ولا أن يُعاد إنتاج التهميش تحت مسمّيات جديدة. أريد لوطني أن يتخلّص من إرث الديكتاتوريّة والعنف، وأن ينطلق نحو حياة كريمة يعلو فيها صوت الإنسان فوق أصوات السلاح والتناحر.

أحلم بسوريا تتجاوز «ثأراتها» التاريخية، سوريا التي تتصالح مع ماضيها بدل أن تعيد إنتاجه، فلا يكون فيها مَن يتسلّط على قومية أو لغة أو مذهب، سوريا التي تُبنى بالشراكة لا بالإقصاء.

سوريا التي أنشدها هي تلك التي لا تُعامل فيها لغة على أنّها تهديد للدولة، ولا يُعتبر فيها الكردي أو الأرمني أو الآشوري أو أي أحد آخر ضيفاً في أرضه.

لقد حُرمنا لعقود طويلة من التعلّم بلغتنا الكردية، ومن كتابة أحلامنا وهواجسنا بتلك اللغة التي نحملها بصفتها جزءاً من كينونتنا. لا أريد أن يُحرم طفل سوري - أياً كان انتماؤه - من لغته، لا أريد أن يُضطرّ أحد إلى الانكماش على ذاته خوفاً من رقابة السلطة أو وصاية المجتمع.

لا أريد أن تُلغى الذاكرة الكردية أو تُهمّش، بل أن تُعاد إليها قيمتها من دون مِنّةٍ أو مساومة، أن تُعاد اللغة إلى أصحابها الحقيقيِّين، أن تُدرَّس الكردية والعربية والآشورية وغيرها من اللغات في سوريا، وأن تكون كلّ لغة جسراً للمحبّة لا سلاحاً للتمييز.

أحلم بوطن تُرفع فيه المظالم عن كواهل السوريّين، فلا أرى مشرَّدين بين الأنقاض، ولا أسمع أنين أمّهات يبحثن عن جثامين أبنائهنّ المفقودين في كلّ مكان.

أحلم بوطن يتنفّس أبناؤه جميعاً بحرّيَّة، وطن يضمّد جراحه التي خلّفتها أنظمة الاستبداد، ويُفسح مكاناً للكرامة والحرية لتكونا أساسَين صلبَين لعقد اجتماعيّ جديد.

آمل أن تكون سوريا الناهضة من ركام نظام الأسد - الذي أعتبره تنظيماً مافيوياً لا غير - فضاءً يتّسع لاختلافنا. أن نستطيع العيش بوصفنا مواطنين كاملين، لا غرباء في أرضنا.

ولا يخفى على أحد أنّه لا يمكن بناء سوريا جديدة دون مواجهة الماضي بشجاعة وشفافية. العدالة الانتقالية ستكون الخطوة الأولى نحو تضميد جراح السوريين، لا بدّ من محاسبة عادلة لكلّ من ارتكب انتهاكات في حقّ الإنسان والوطن.

في سوريا التي أحلم بها، ستكون الثقافة حرّةً ومستقلة، مسرحاً للحوار والاختلاف، وفسحة لتجسيد التنوع السوريّ بجماله وثرائه. أحلم بروايات ومسلسلات تُحكى بكلّ لغات سوريا، ومعارض فنية تعبّر عن هموم السوريين وأحلامهم، ومسرح يضيء بصدق على المآسي والأمل معاً. الثقافة ستصبح أداة بناءٍ لا هدم، وحافزاً لإعادة اكتشاف الهوية المشتركة.

أحلم بوطن يحترم يحترم المرأة كإنسان وكشريك فعّال في بناء الحاضر والمستقبل، حيث تكون القوانين الضامنة لحقوقها جزءاً أصيلاً من بنية الدولة الجديدة. المرأة السورية التي واجهت الحرب بصبرها وشجاعتها تستحقّ أن تكون في مقدمة صفوف التغيير والنهضة.

أحلم بدولة تُوظّف مواردها لخدمة المواطنين، وتعتمد على طاقات الشباب والكفاءات السورية لتحقيق تنمية اقتصادية حقيقية تعيد الأمل وتكفل حياة كريمة للجميع. أحلم بوطن يعيد احتضان أبنائه المهاجرين المتناثرين في الشتات، ويفتح لهم أبواب المشاركة الفاعلة في إعادة البناء.

سوريا التي أحلم بها هي وطن يليق بتضحيات شعبها، وطن تتجلّى فيه القيم الإنسانية العليا، ويُعاد فيه الاعتبار إلى العدل والحرية والسلام.

كروائيّ تأخذ أحلامي شكل الوطن الذي حُرمت منه، وحُرم معي ملايين من السوريين من أبسط حقوقهم في الوجود، من حرية اللغة، والهوية، والانتماء الذي لم يكن يوماً خياراً، بل قيداً مفروضاً.

قد تبدو أحلامي رومانسيّة وبعيدة المنال، لكنّ الأحلام هي بذور المستقبل، وهي الأسس التي سنبني عليها غدنا المنشود.

هل سيظلّ هذا كلّه حلماً مؤجّلاً؟ ربّما. لكن، على الأقلّ، صار بإمكاننا كسوريّين أن نحلم!

* روائي سوري