رحيل محسن إبراهيم آخر الشهود الكبار على الحرب اللبنانية

رحل الأمين العام لـ«منظمة العمل الشيوعي» محسن إبراهيم في غير زمانه. شعر بأن التغيرات أصبحت أقوى من أن يجاريها، فبدأ بالانسحاب منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي، وقد أخذت السطوة السورية على لبنان تكبر.
ومع انتهاء الحرب الأهلية في مطلع تسعينات القرن الماضي، وبعد «اتفاق الطائف»، انكبّ على مراجعات عامة، ونقد تجربته الشخصية، ومسار «الحركة الوطنية اللبنانية» التي كان أحد أبرز رجالاتها الكبار، عادّاً أنها حمّلت لبنان أكثر مما في مقدوره أن يحتمل، وهو الذي كان أميناً عاماً لها.
شغل أيضاً منصب أمين عام «منظمة العمل الشيوعي» في لبنان حتى وفاته عن 85 عاماً. قائد لبناني، يساري، قومي، عروبي، فلسطيني الهوى، وحْدوي النزعة، لا بل هو أبرز القادة اليساريين اللبنانيين في السبعينات والثمانينات. كان من ذاك الجيل الذي حمل القضية الفلسطينية في قلبه، وكل معارك التحرير العربية من الاستعمار على كتفيه، وكذلك، كما أبناء جيله من العروبيين، كان ناصرياً، لكنه كان فلسطينياً بالدرجة الأولى؛ بمعنى التصاقه بهذه القضية التي جعلها ميزاناً في علاقاته مع الآخرين، فابتعد عن النظام السوري بسببها، واقترب من ياسر عرفات، كما تباعد عن «حزب الله» عندما بدأ الأخير باعتقال مقاتليه الذين كانوا يحاولون القيام بعمليات ضد الإسرائيليين في جنوب لبنان في نهاية الثمانينات.
كان إبراهيم «صمام أمان» للجبهة الوطنية التي ضمت أحزاب اليسار اللبناني، وكان مسؤولاً عن ضبط أوضاعها بعد اغتيال شريكه فيها كمال جنبلاط، كما كان ساعي خير في العلاقات بين أطراف منظمة التحرير الفلسطينية، وبقي وفياً لها بعد وفاة شريكه الآخر ياسر عرفات، الذي يقال إن إبراهيم هو أول من رتّب لقاء بينه وبين جمال عبد الناصر.
ولد عام 1935 في قرية أنصار، جنوب لبنان، وانخرط في مرحلة مبكرة بتأسيس «حركة القوميين العرب»، ثم أسس «منظمة الاشتراكيين اللبنانيين» سنة 1968، ليصبح هذا التنظيم مع «لبنان الاشتراكي» نواة «منظمة العمل الشيوعي». أحد مؤسسي تحالف «الجبهة الوطنية اللبنانية» إلى جانب ياسر عرفات، وتنظيمات يسارية وقومية أخرى. هذا التحالف الذي سيصبح طرفاً رئيسياً في الحرب الأهلية اللبنانية ضد الأحزاب اليمينية، وسيخوض معارك ضارية ويقوم بعمليات أثناء الحربين الإسرائيليتين على لبنان، عام 1978 و1982. بقي على علاقة وثيقة مع ياسر عرفات حتى وفاته.
علاقته لم تنقطع أيضاً مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي منحه عام 2017 وسام الاستحقاق والتميز «الذهبي»، ونعاه عند وفاته، معلناً تنكيس الأعلام الفلسطينية حداداً عليه.
أجرى إبراهيم مراجعة فكرية كبيرة لدور اليسار في الحرب الأهلية، وتجرأ في أربعين رفيق دربه جورج حاوي بكلام أثار كثيراً من الجدل حول ما آل إليه فكر محسن إبراهيم حيث عدّ أنه «في معرض دعمها نضال الشعب الفلسطيني؛ ذهبت (الحركة الوطنية اللبنانية) بعيداً في تحميل لبنان الأعباء المسلحة للقضية الفلسطينية. وكان هذا فوق ما يحتمل؛ طاقةً وعدالةً وإنصافاً». وعدّ محسن إبراهيم أن الخطأ الثاني «هو استسهالنا ركوب سفينة الحرب الأهلية تحت وهم اختصار الطريق إلى التغيير الديمقراطي».
ومع أنه كان قد بدأ هذه المراجعات قبل ذلك بسنوات، فإن هذه العبارات لم تمنع الوطنيين واليساريين والقوميين من نعيه، والاعتراف بدوره الاستثنائي الذي تجاوز لبنان، إلى مصر والجزائر واليمن، وكل بلد عانى من ضيم الاستعمار. وبوفاته تطوى مرحلة لعله آخر شهودها الكبار.