مستوى الكرة الألمانية تأثر سلباً بفترة التوقف

دائماً ما تُروى الحكايات والأساطير عن كل حدث من الأحداث الرياضية الكبرى، فما إن يُسدل الستار على هذا الحدث حتى يبدأ الجميع في الحديث عن المجهود الشاق الذي بُذل أثناء البطولة وعن مشاعر الجماهير وعن الأموال التي أنفقت، وغيرها من هذه الأمور. وما زلنا جميعاً نتذكر كيف جمعتنا دورة الألعاب الأولمبية لعام 2012 في لندن كدولة منفتحة ومتعددة الثقافات تتطلع نحو مستقبل أفضل وأكثر نشاطاً؟ كما قيل لنا إن كأس العالم 2006 كان بمثابة احتفال وطني لألمانيا الجديدة. وربما كان الأمر كذلك في حقيقته!
ومع ذلك، وبعد حدث رياضي كبير يتمثل في استئناف مباريات الدوري الألماني الممتاز، يُمكن لأي شخص متابع للمباريات التي أقيمت على مدى الأسابيع الماضية أن يلحظ بسهولة أن كرة القدم الألمانية تعاني من بعض المشاكل فيما يتعلق بالضغط على الفريق المنافس. قد يكون من الصعب تصديق أنه حتى قبل 20 عاماً فقط من الآن كانت ألمانيا تتبنى ثقافة كروية تشكك في أهمية الضغط على الفريق المنافس. فعندما حاول رالف رانغنيك، المدير الفني لنادي هوفنهايم آنذاك، شرح كيفية المراقبة اللصيقة داخل منطقة الجزاء على شاشة التلفزيون، وصف بأنه شخص غريب الأطوار يبالغ في الأمر كثيراً، وأكد المحللون الكرويون الألمان من كبار السن أن لعبة كرة القدم تعتمد في المقام الأول والأخير على شخصية اللاعبين داخل الملعب.
وبعد ذلك، وعندما وصل المنتخب الألماني بقيادة يورغن كلينسمان وجوجي لوف إلى الدور نصف النهائي لكأس العالم من خلال تقديم كرة قدم حديثة وقيام المدير الفني الألماني يورغن كلوب بشرح طرق اللعب على شاشة التلفزيون، اكتشف الجميع أهمية الضغط على حامل الكرة. والآن، أصبحنا نشاهد الأندية الألمانية وهي تطبق طريقة الضغط على حامل الكرة بحماس شديد، لدرجة أن معظم النقاشات حول الخطط التكتيكية باتت تركز على توضيح الفروق بين الطرق المختلفة للضغط على حامل الكرة. وبات هناك تقبل على نطاق واسع للطريقة التي يلعب بها نادي بوروسيا دورتموند بقيادة مديره الفني لوسيان فافر.
ولم تكن المباراة التي حقق فيها بايرن ميونيخ الفوز على بوروسيا دورتموند بهدف دون رد حاسمة في الصراع على لقب الدوري الألماني الممتاز فحسب، لكنها كانت أيضاً مباراة رائعة تعكس امتلاك الفريقين كل مقومات كرة القدم الحديثة. ويبدو أن المديرين الفنيين الألمان، أو أولئك الذين لديهم خبرة في الدوري الألماني الممتاز، هم الأكثر إبداعاً وتفكيراً في النواحي الهجومية في العالم، ويأتي في مقدمتهم المدير الفني لنادي ليفربول يورغن كلوب، الذي أكد من خلال قيادته للريدز للفوز بلقب دوري أبطال أوروبا الموسم الماضي، تفوق هذا النمط من اللعب على مستوى النخبة.
من المؤكد أن الأمر أكثر تعقيداً من ذلك، خصوصاً في ظل قدرة أندية مثل ليفربول أو بايرن ميونيخ أو بوروسيا دورتموند أو لايبزيغ، على الاستحواذ على الكرة لفترات طويلة عندما يتطلب الأمر ذلك. ودائماً ما نرى الأندية التي يتولى المدير الفني الإسباني غوسيب غوارديولا تدريبها وهي تعتمد على الضغط المتواصل على حامل الكرة، لكن غوارديولا نفسه تبنى أسلوباً مباشراً بصورة أكبر خلال السنوات العشر الأخيرة. ومع ذلك، يتم الحفاظ على الشكل الأساسي كما هو: فلن نرى كلوب يتحدث أبداً - على عكس غوارديولا - عن حاجة فريقه إلى 15 تمريرة على الأقل لضمان تقدمه بالكامل ككتلة واحدة نحو مناطق الفريق المنافس من أجل إجباره على العودة للدفاع.
وهكذا، فقد أثيرت حالة من الجدل مرة أخرى بشأن التطور الخططي والتكتيكي لكثير من الأمور مثل كيفية الهجوم ضد الدفاع، واللعب الفردي ضد التنظيم الجماعي، والاستحواذ على الكرة في مقابل التمركز الصحيح داخل الملعب، واللياقة البدنية في مقابل التنظيم الخططي والتكتيكي. وإلا كيف يمكن التغلب على اللمسات السحرية والتمريرات الدقيقة والتحركات الواعية من خلال ابتكار طريقة لعب جديدة تعتمد على اللعب بشكل أقوى وأسرع (وأذكى) من أجل استعادة الكرة من الفريق المنافس؟
لكن يجب أن ندرك أن تطبيق طريقة الضغط العالي على حامل الكرة بالطريقة التي تطبقها أندية مثل ليفربول أو لايبزيغ أو بوروسيا دورتموند أو بوروسيا مونشنغلادباخ، هو أمر صعب للغاية، إن لم يكن مستحيلاً، من دون التدريب المنتظم والمستمر على تطبيق هذه الطريقة. وكان من الملاحظ للجميع منذ استئناف مباريات الدوري الألماني الممتاز أن الأندية الألمانية تعاني كثيراً في النواحي الدفاعية، كما لو كان توقف النشاط الكروي بسبب تفشي فيروس كورونا والابتعاد عن التدريبات قد أثرا بالسلب على تماسك الخطوط الدفاعية للأندية الألمانية، التي بات يتعين عليها إعادة تنظيم صفوفها.
وعلاوة على ذلك، لا تجد المنتخبات دائماً الوقت الكافي لاكتساب تلك المستويات من التفاهم المتبادل بين اللاعبين، وهذا هو السبب في وجود فروق كبيرة بين مباريات الأندية والمنتخبات. وربما يفسر ذلك الأسباب التي جعلت منتخب البرتغال يفوز بكأس الأمم الأوروبية ومنتخب فرنسا يفوز بكأس العالم دون الاعتماد على طريقة الضغط العالي على المنافس، ودون الاعتماد على نمط معقد بشكل خاص من اللعب الهجومي.
يقول المدرب الفرنسي جيرارد هولييه في كتاب خبير كرة القدم الفرنسي مات سبيرو الجديد الذي يحمل عنوان «القلب الأزرق»: «كرة القدم تتطور باستمرار. لقد اعتمدت إسبانيا على فلسفة ساعدتها في تحقيق النجاح في السابق. وفي عام 2014، نجحت ألمانيا في تطبيق أفضل ما في طريقة اللعب الإسبانية التي تعتمد على الاستحواذ على الكرة، وأضافت إليها عنصر القوة البدنية الذي تتمتع به. أما فرنسا فقد أضافت عنصر السرعة. وعندما هيمنت إسبانيا على عالم كرة القدم في السابق، كنا نعتقد أن أي فريق بحاجة للاستحواذ على الكرة بنسبة تصل إلى 70 في المائة من عمر المباراة حتى يمكنه تحقيق الفوز، لكن فرنسا أثبتت أنه يمكنك أن تستحوذ على الكرة بنسبة 30 في المائة فقط وتشكل خطورة هائلة على مرمى الفريق المنافس».
وفي عام 2010، لعب المنتخب الإسباني - الذي كان قوامه الأساسي من لاعبي برشلونة - بنفس طريقة غوارديولا التي تعتمد على الاستحواذ على الكرة لإرهاق الفريق المنافس. وفي عام 2014، لم تكن ألمانيا - التي كان قوامها الأساسي من لاعبي بايرن ميونيخ - تقدم نفس الأداء الجيد الذي كانت تقدمه قبل أربع سنوات عندما ودعت نهائيات كأس العالم من الدور قبل النهائي أمام إسبانيا، لكنها كانت خطيرة للغاية في الهجمات المرتدة (كان المدير الفني لمنتخب ألمانيا يواخيم لوف يبدو تقليدياً وينتمي إلى المدرسة القديمة في علم التدريب، وفقاً للمعايير الألمانية الحديثة). أما المنتخب الفرنسي فقد نجح في الفوز بلقب كأس العالم 2018 بفضل تماسكه الدفاعي (على الرغم من حالة الفوضى التي عانى منها في المباراة التي فاز فيها على الأرجنتين بأربعة أهداف مقابل ثلاثة، وعلى كرواتيا في المباراة النهائية بأربعة أهداف مقابل هدفين)، وبفضل أيضاً السرعة الهائلة لنجمه الشاب كيليان مبابي.
ولم يكن القوام الأساسي للمنتخب الفرنسي من نادٍ واحد - كما كان الحال مع منتخبي إسبانيا وألمانيا - ولم يكن يعتمد بأي شكل من الأشكال على طريقة خططية موجودة مسبقاً في كرة القدم الدولية. وبالتالي، كان الإنجاز الذي حققه المدير الفني للديوك الفرنسية، ديدييه ديشامب، كما أوضح كتاب سبيرو، يتمثل في إعادة بناء الفريق وتعزيز روح التماسك والتعاون بعد فضحية تمرد اللاعبين في عام 2010.
ويعود هذا النجاح، ولو بصورة جزئية، إلى استبعاد كثير من اللاعبين الذين كانوا يثيرون المشاكل، رغم موهبتهم، مثل كريم بنزيمة، وحاتم بن عرفة، وسمير نصري، وجيريمي مينيز. وقال هولييه عن ذلك: «لقد استخدمنا كثيراً من الأساليب المختلفة معهم. وكنا بحاجة لتعديل طرق التدريب لدينا، لكي تكون أقرب إلى طرق التدريب الإسبانية من خلال التركيز بشكل أكبر على تمرينات التدريب الجماعي واللعب الجماعي».
وربما يكون هذا هو التغيير الأفضل على مدى السنوات العشر أو الخمس عشرة الماضية. لقد أصبحت كرة القدم أكثر اعتماداً على اللعب الجماعي، سواء في النواحي الهجومية أو الدفاعية. وهذا هو جوهر العمل الذي يقوم به غوارديولا فيما يتعلق بتمركز اللاعبين داخل الملعب، أو ما يقوم به كلوب فيما يتعلق بخطط الضغط على الفريق المنافس. لكن في المقابل، كان ديشامب يعتمد على الهجمات المرتدة السريعة، وهي الخطة التي نجح من خلالها في الحصول على لقب كأس العالم.
في الحقيقة، لا توجد مدرسة فرنسية واضحة في عالم التدريب، وبالتالي لم يكن من الغريب أن يكون هناك مدير فني فرنسي واحد في أكبر 4 دوريات في أوروبا، وهو المدير الفني لنادي ريال مدريد، زين الدين زيدان. ربما تكون ألمانيا قد ودعت كأس العالم الأخيرة من دور المجموعات، لكن الدوري الألماني الممتاز يأتي في صدارة الدوريات الأوروبية من حيث الخطط التكتيكية وامتلاك كل مقومات كرة القدم الحديثة.