خمسة أفلام ذات اتجاهات أسلوبية وسياسية مختلفة

قراءة لمسابقة أوسكار الفيلم الأجنبي

«عمر»
«عمر»
TT

خمسة أفلام ذات اتجاهات أسلوبية وسياسية مختلفة

«عمر»
«عمر»

من بين المخرجين الخمسة المرشـحين لأوسكار أفضل فيلم أجنبي، وحده هاني أبو أسعد رشـح مرتين: مرة عن فيلمه «الجنة الآن»، ومرة أخرى عن فيلمه الجديد «عمر». الباقون يطأون أرض الأوسكار لأول مرة حتى ولو كان بعضهم أطول باعا من المخرج الفلسطيني بالنسبة لعدد الأفلام التي حققها.
إنهم مجموعة غير متجانسة من المخرجين، حققوا أفلاما استحوذت إعجاب أعضاء أكاديمية علوم وفنون السينما، موزعة الأوسكار، فرشـحوها لتنتهي إلى قائمة رسمية سيجري اختيار واحد منها للإعلان عن فوزه.. «الرابح هو...» ويأتي الصوت - المفاجأة وسيصعد صاحب الاسم ليتسلم التمثال المذهب وفي باله كلمات شكر عليه إلقاؤها في ثلاث دقائق.
هوليوود تتابع الترشيحات الأجنبية، كونها جزءا من حفلة الأوسكار التي تستمر لنحو ثلاث ساعات وتشتمل على كل باب وقسم من حقول صنع الأفلام. لكن اهتمام هوليوود بهذه الجائزة يختلف تبعا لاختلاف موقع المهتم وصلته. غالبية السينمائيين يعدونها صفحة في وسط الحفل ويمضون. قد يشكل الفيلم الفائز مناسبة للتصفيق وإظهار الفضول بما سيقوله هذا السينمائي غير الأميركي حول هوليوود والأوسكار والفرصة السماوية التي أتاحت له تحقيق هذا الفيلم والفوز به، لكن الاهتمام الأكبر سيبقى منصبـا على الأقسام الأميركية ذاتها: الممثلون والممثلات والمخرجون، و- بالطبع - الأفلام الأميركية التي سيجري انتخاب واحد منها للفوز بتلك الجائزة.

* عروض عمل
هذه الأقسام (التي سنخصص لكل منها بحثا منفصلا) أحيانا ما تلهم حماس المخرج الأجنبي للعودة إلى هذا الحفل بفيلم آخر... هوليوودي. كثيرون ممن فازوا بأوسكار أفضل فيلم أجنبي سنحت لهم فرص تحقيق أفلام أميركية، أو، على الأقل، تواصلوا مع منتجين وضعوا قدرا من الاستعداد لتمويل فيلم أميركي إعجابا بأسلوب المخرج وطريقته في سرد القصـة، و- لا ننسى - توظيفا لاسمه اللامع اليوم الذي قد لا يبقى لامعا في الغد. الإسباني بدرو ألمادوفار تسلم عروضا للبقاء في هوليوود وإنجاز بضعة أفلام، وذلك عندما فاز فيلمه «كل شيء عن أمي» بالأوسكار. في مذكراته، كتب الهنغاري استفان شابو أنه جلس عام 1981 مع بعض منتجي شركة «يونايتد آرتستس» بعد يومين من فوزه بالأوسكار عن فيلمه «مفيستو». والفرنسي برتران بلاييه عاد من هوليوود إلى باريس ومعه سيناريو دسـه له منتج أعجب بفيلمه «أخرجوا محارمكم» بعدما فاز بالجائزة عام 1978.
بالنسبة لهاني أبو أسعد، جاء ترشيحه للأوسكار عن «الجنة الآن» عام 2006 مناسبة لكي يبقى في هوليوود يعاين فيها عروضا تسلمها بالفعل. شركات التوزيع الأميركية عادة ما تكون الأكثر حماسا بين كل قطاعات هوليوود للأفلام الأجنبية الواصلة إلى خط النهاية ومخرجيها، وأبو أسعد وجد أن شركة «وورنر إندبندنت بيكتشرز» (وهي شركة إنتمت لوورنر وعاشت بضع سنوات قبل أن تقفل دكانها) مستعدة لإبقائه في هوليوود على حسابها للبحث في عدد من المشاريع التي بحوزتها. خلال ذلك، تقدمت منه شركتا «فوكاس» و«فوكس» بمشاريع أخرى. بعد بضعة أشهر وفي مقهى بشرقي ويلشير بوليفارد، قال لهذا الناقد: «هي مشاريع جيدة، مكتوبة جيدا، لكنها نمطية. لأن فيلمي («الجنـة الآن») يتحدث عن انتحاري بقنبلة مربوطة إلى وسطه، غالبية المشاريع المعروضة علي تدور حول قصص مشابهة، وأنا لا أريد أن أنمـط».
نتيجة رفضه أن حقق بعد ذلك الفيلم عملين: واحد تركي («لا تنسيني يا إسطنبول»)، والآخر أميركي («الحمـال»)، لكنه لا يدعوك لمشاهدتهما. «عمر»، هو الفيلم الذي هو فخور به والذي يتمنى له أن يفوز في السباق لأفضل جائزة أجنبية.

* صورة تاريخية
هذا لن يكون هيـنا. الفيلم الذي ربح هذه الجائزة عام 2006 هو «تسوتسي»، المنتج من قبل شركات جنوب أفريقية، الذي أخرجه الأميركي مواطنها كـفن هود (لاحقا ما أنجز مشاريع أميركية آخرها «لعبة إندر» في العام الماضي). بين حكاية شابـين يترددان في تنفيذ مهمـة انتحارية وحكاية صبي يرأس عصابة أشقياء في مدينة جوهانسبورغ، وربما تبعا لبعض الملامح الفنية الخاصة، نال الفيلم الأفريقي الجائزة لا عنوة عن الفيلم الفلسطيني فقط، بل عن أفلام أوروبية، إذ توزعت الترشيحات الأخرى بين الفيلم الإيطالي «لا تبح» لكريستينا كومنشيني، والفيلم الفرنسي «نوول المرح» لكريستيان كاريو، والفيلم الألماني «صوفي شول» لمارك روثموند.
هذه المرة المشاركون مختلفون، وكما ذكرت، هاني أبو أسعد هو الوحيد الذي جرى ترشيحه من قبل. هذه الميزة قد تفيده بمعدل محدود قد لا يزيد على 10 في المائة من أصحاب الأصوات الذين منحوه أساسا فرصة الترشيح هذه والذين قد يرون أنه يستحق هذه المرة الوصول إلى المنصـة ولو من باب التعويض عن المرة السابقة. لكن، إذا ما كان هذا الفيلم سينال الأوسكار فعلا، فإن الأمر سيعود للمشكلة التي ما زالت قابعة على المجالس السياسية والاجتماعية باحثة عن حل.
على أن هذه المشكلة ليست الوحيدة المطروحة على أنظار ستـة آلاف عضو. هناك «الصورة المفقودة»، الذي يتحدث عن التاريخ العنيف لدولة كمبوديا حينما استولت عصبة «خمير روج» على السلطة وأودت بحياة مئات الألوف بمن فيهم أقارب المخرج ريثي بانه. الاختلاف بين «عمر» و«الصورة المفقودة»، هو أن الأول لا يزال عاكسا لوضع حاضر، بينما ينقل الفيلم الكمبودي من الأمس صورا انتهى مفعولها الحدثي. إلى ذلك، لا ينتمي الفيلم تماما إلى السينما الروائية، بل هو معالجة مع تعليق صوتي، يقربانه من صنف الأفلام التسجيلية، ويستخدم الدمى عوض الممثلين، مما يجعله ينتمي إلى فن الرسوم (ولو غير المتحركة لأن الدمى جامدة).
الأفلام الأخرى هي: «انهيار الحلقة المكسورة»، وهو فيلم بلجيكي لمخرج طموح اسمه فيلكس فان غروننجن، سبق أن حاول قبل أربع سنوات ترويج فيلم فوضوي الشكل بعنوان «غير المحظوظين»، لكن فيلمه الجديد أكثر انضباطا (جرى عرضه على الـ«غولدن غلوب» ولم يحظ بالاهتمام الكافي). يدور حول قصـة حب وما يتبعها من مشاكل بين مغن ومغنية في فرقة موسيقية واحدة. ربما خرج بالأوسكار لنواح عاطفية أكثر منها تقديرا لإجادته الفنية.
الفيلم الرابع «جمال عظيم» للإيطالي باولو سورنتينو، هو الأجدر بالفوز من «الصورة المفقودة» و«انهيار الحلقة المكسورة»، ويتعامل مع موضوع أوسع نطاقا من «عمر»، إذ يطرح مسائل ذهنية وتاريخية وثقافية منع الموضوع السياسي مخرج «عمر» الوصول إليها.
الفيلم الخامس هو من شغل الدنمارك «الصيد» لتوماس فينربيرغ صاحب ثمانية عشر عملا مختلفا؛ من بينها «الاحتفال» (1998)، و«كله عن الحب» (2003)، و«سامبارينو» (2011)، وكلها مرت من تحت رادار الأكاديمية فلم يجر ترشيح أي منها. «الصيد» معضلة فرد حيال المجتمع (كما حال «جمال عظيم») تحمل في طيـاتها نقدا للرأي السائد والاتهام الجاهز، مما يدمر حياة بطله. فقط، نهايته هي التي تربك العمل من أساسه، لكنه فيلم قد ينأي بنفسه عن باقي المواضيع المثارة ويفوز.

* العلاقة الكانيـة
أربعة من الأفلام المنافسة في جائزة أفضل فيلم أجنبي شاركت في مهرجان «كان» السنة الماضية. واحد منها فقط فاز بجائزة أساسية وهو «عمر» (جائزة لجنة التحكيم الخاصة بتظاهرة «نظرة ما»). الأفلام الثلاثة الأخرى هي: «الصيد»، و«جمال عظيم»، و«الصورة المفقودة».
في أوسكار العام السابق، جاء الفيلم الفائز بأوسكار أفضل فيلم أجنبي من نصيب «حب» لميشيل هنيكه الذي كان فاز كذلك بسعفة مهرجان «كان».



«صوت هند رجب»... من المهرجانات العالمية إلى السينما السعودية

الممثل معتز ملحيس وأمامه صورة الطفلة هند رجب في مشهد من الفيلم (أ.م.د.ب)
الممثل معتز ملحيس وأمامه صورة الطفلة هند رجب في مشهد من الفيلم (أ.م.د.ب)
TT

«صوت هند رجب»... من المهرجانات العالمية إلى السينما السعودية

الممثل معتز ملحيس وأمامه صورة الطفلة هند رجب في مشهد من الفيلم (أ.م.د.ب)
الممثل معتز ملحيس وأمامه صورة الطفلة هند رجب في مشهد من الفيلم (أ.م.د.ب)

منذ عرضه الأول في مهرجان البندقية السينمائي، وصولاً إلى عرضه الخاص في مهرجان البحر الأحمر السينمائي بجدة الأسبوع الماضي، أثار فيلم «صوت هند رجب» نقاشاً واسعاً؛ لاعتماده على الصوت بوصفه مركز التجربة السينمائية، وهو عمل توقفت عنده منصات سينمائية عالمية لكونه فيلماً يختبر قدرة مكالمة هاتفية على حمل مأساة كاملة، عبر السرد السمعي وحده.

وفي هذا الأسبوع، يصل الفيلم إلى صالات السينما السعودية ومجموعة من الدول العربية، حاملاً معه ذلك الصدى العالمي، ومطروحاً أمام جمهور جديد يترقّب عرضه يوم الخميس 18 ديسمبر (كانون الأول). الفيلم من كتابة وإخراج كوثر بن هنية، المرشحة مرتين لجوائز الأوسكار، وقد فاز بـ«جائزة الأسد الفضي» وهي الجائزة الكبرى للجنة التحكيم في مهرجان البندقية السينمائي. كما نال تكريمات في مهرجان سان سيباستيان، محققاً أعلى تقييم في تاريخ المهرجان، إلى جانب مشاركته في مهرجان شيكاغو السينمائي، مما أسهم في ترسيخ حضور الفيلم بوصفه أحد أكثر الأفلام غير الإنجليزية تداولاً خلال العام.

المكالمة الهاتفية... نقطة البداية

ينطلق «صوت هند رجب» من واقعة حقيقية شهدها قطاع غزة في يناير (كانون الثاني) 2024، حين حوصرت الطفلة الفلسطينية هند رجب، ذات الأعوام الستة، داخل سيارة تعرّضت لإطلاق نار في أثناء محاولتها الخروج من المدينة برفقة أفراد من عائلتها. ومع تعقّد المشهد الميداني، تتواصل الطفلة عبر الهاتف مع متطوعي الهلال الأحمر، فيما تتتابع محاولات التنسيق للوصول إليها. من هذه اللحظة، يتشكّل البناء السردي للفيلم، حيث يصبح الصوت مساحة الحكاية الوحيدة، ويتحوّل الانتظار إلى عنصر درامي قائم بذاته.

تختار المخرجة التونسية، كوثر بن هنية، أن تضع الهاتف في قلب التجربة السينمائية، وأن تمنح الصوت وظيفة تتجاوز كونه وسيطاً تقنياً إلى كونه حاملاً للزمن والقلق والمعنى. الكاميرا تتابع محيط الحدث، وحركة المسعفين، ومسارات التنسيق المتشابكة، فيما يبقى مركز الثقل معلقاً عند الطرف الآخر من الخط. هذا البناء يفرض على المشاهد حالة إصغاء مستمرة، ويضعه في موقع المشاركة الشعورية، حيث تتقدّم الدقائق بثقلها وتتراكم الأسئلة مع كل محاولة وصول مؤجلة.

يركز الفيلم على عجز المسعفين على إنقاذ الطفلة التي تستنجد بهم (أ.م.د.ب)

اختبار العجز الإنساني

في مقاربته الحدث، يختار «صوت هند رجب» مساراً إنسانياً يركّز على الفعل ذاته: الاستغاثة، والمحاولة، والسعي للوصول. هذا التركيز يمنح الفيلم بعداً إنسانياً، ويجعله مفتوحاً على تلقي جمهور واسع يرى في القصة اختباراً أخلاقياً لمعنى الإنقاذ حين تتشابك الظروف وتتأخر الاستجابة. هنا، تتحول السينما إلى مساحة تأمل في حدود الفعل الإنساني، وفي المسافة بين النداء والاستجابة.

كوثر بن هنية، التي راكمت حضوراً بارزاً في المشهد السينمائي الدولي خلال السنوات الماضية، تواصل في هذا العمل مشروعها الفني القائم على مساءلة العلاقة بين الواقع والتمثيل، وذلك بعد أفلام لاقت اهتماماً عالمياً مثل «الرجل الذي باع ظهره» و«بنات ألفة»، حيث تأتي هذه التجربة لتؤكد انشغالها بتحويل الوقائع المعاصرة إلى بناء سينمائي متزن، يعتمد على الشكل بوصفه مدخلاً للفكرة. ففي هذا العمل يظهر هذا الوعي في الاختزال السردي، وفي الثقة بقدرة الصوت على حمل الثقل الدرامي.

يشارك في بطولة الفيلم مجموعة من الممثلين، من بينهم سجا كيلاني، ومعتز ملحيس، وكلارا خوري، وعامر حليحل، في أدوار تتوزع بين محيط الحدث ومسارات التواصل ومحاولات التنسيق، وكل ذلك يحدث في مكان واحد، على مدى ساعة ونصف هي مدة الفيلم، حيث تتحرك الشخصيات ضمن سياق جماعي، تتكشف ملامحه عبر الأصوات وردود الفعل أكثر من الأداء القائم على الصورة.

الصوت في الصدارة

يبرز الصوت في الفيلم بوصفه الشخصية الأهم: صوت الطفلة، وأصوات المسعفين، وأصوات المتطوعين، جميعها تتحول إلى مكوّنات درامية تحمل الخوف والارتباك والأمل المؤجل... ومع امتداد التجربة من دون ذروة تقليدية، يبقى المشاهد داخل حالة توتر مستمرة تعكس طبيعة الحدث، وتمنح العمل ثقله الأخلاقي.

وخلال عرضه الخاص ضمن الدورة الخامسة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، حظي الفيلم بتفاعل لافت داخل القاعة الرئيسية. فالعرض، الذي اقتصر على مناسبة واحدة فقط، نفدت تذاكره سريعاً، واختُتم بوصلة تصفيق امتدت لنحو 4 دقائق، في مشهد عبّر عن حجم الأثر الذي تركته التجربة لدى الجمهور، وسط تفاعل عاطفي عكس ثقل الموضوع وطبيعة المعالجة التي يفرضها الفيلم على مشاهديه.

في سباق الأوسكار

يمثّل الفيلم الترشيح الرسمي لتونس في فئة أفضل فيلم دولي ضمن سباق جوائز الأوسكار لعام 2026، في منافسة تضم أعمالاً من 86 دولة، وهذا السياق يضع العمل ضمن مسار شديد التنافس، تتقاطع فيه القيمة الفنية مع طبيعة الموضوع ونمط التلقي، مدعوماً بخبرة مخرجته والأصداء التي رافقت عروضه الأولى.

في المحصلة، يقدّم «صوت هند رجب» تجربة سينمائية تنتمي إلى سينما الذاكرة والتوثيق الإنساني، حيث يتحول الصوت إلى أداة لحفظ الأثر، وتصبح المكالمة الهاتفية سجلاً زمنياً للحظة كاملة. ومع وصوله إلى صالات السينما السعودية، يفتح الفيلم مساحة جديدة للنقاش حول دور السينما في مقاربة المآسي المعاصرة، عبر الإصغاء، والتأمل، وتثبيت الذاكرة بوصفها فعلاً ثقافياً وإنسانياً.


السينما في 2025... عام مفصلي لتطور تقنيات الإبهار

«سريع وغاضب» واللامعقول (يوينڤرسال)
«سريع وغاضب» واللامعقول (يوينڤرسال)
TT

السينما في 2025... عام مفصلي لتطور تقنيات الإبهار

«سريع وغاضب» واللامعقول (يوينڤرسال)
«سريع وغاضب» واللامعقول (يوينڤرسال)

في مجمله، كان عام 2025 نقطةً مفصلية في مسار السينما على أكثر من صعيد. بدقّة عالية يمكن تحديد العام الحالي على أساس نقطة تفصل بين ما قبله وما بعده، تماماً كما حدث عندما داهم وباء «كورونا» العالم قبل 5 سنوات، فوجدت السينما، كغيرها من القطاعات، نفسها في موقع التحدي والمواجهة.

لكنّ ما يحدث هذه المرّة يختلف؛ فالسينما تدخل عصراً جديداً تبلورت ملامحه في الأعوام السابقة، ثم تجسّد عام 2025 بوصفه واقعاً ثابتاً وقوة مؤثرة في مختلف عناصر الصناعة. الإحاطة بهذه التطورات تكشف حجم تأثير دخول التقنيات إلى عمق البنية الصناعية للسينما.

«بوليت» المطاردة تبدو واقعية لليوم (وورنر)

استبدال شامل

حتى سنوات قليلة مضت، ظلّ إنتاج الأفلام يجري بالطريقة التقليدية: الموافقة على المشروع، ومن ثَم تطويع كل الإمكانات الفنية والتقنية لخدمته وفق موضوعه ونوعه. وكان من المعتاد اللجوء إلى تقنيات الكمبيوتر غرافيكس لإتمام ما يصعب تحقيقه واقعياً، مثل مشاهد مطاردات السيارات في أفلام مثل «بولِت» (Bullitt) 1968، و«ذَ فرنش كونكشن» (The French Connection) 1971، و«رونَن» (Ronin) 1998، التي كانت تُنجز بجهود بشرية شاقة وبمخاطر حقيقية.

اليوم تغيّر القاموس التنفيذي بالكامل. بات في الإمكان تصوير ممثل يركض في «شوارع باريس»، وهو في الحقيقة واقف داخل ستوديوهات «يونيڤرسال»، أمام شاشة خضراء. ويكفي عقد مقارنة بين تلك الأفلام الكلاسيكية وأي فيلم من سلسلة «Fast and Furious» للتأكد من حجم التحوّل.

لكن المدّ لا يتوقف هنا. فالاعتماد على الذكاء الاصطناعي شهد هذا العام قفزة جديدة. صار من الممكن، تنفيذ الفيلم من السيناريو إلى الشاشة عبر منظومة غير بشرية بالكامل: كتابة، إخراج، تصوير، مونتاج، بل وحتى أداء الممثلين.

دافع رئيس

قبل أسبوعين، اعتلى المخرج غييرمو دل تورو منصّة «أميركان فيلم إنستتيوت» لتسلُّم جائزته عن فيلمه الجديد «فرانكنستين»، ونال تصفيقاً حاراً حين أعلن: «فيلمي فني في كل لقطة. خالٍ بنسبة 100 في المائة من الذكاء الاصطناعي».

وعلى الرغم من هذه المواقف، يبقى الدافع الأساسي لاعتماد التقنية واضحاً: تقليص الميزانيات الضخمة للأفلام التجارية. فالذكاء الاصطناعي قادر على خفض التكاليف إلى النصف تقريباً، بحيث تبقى الرواتب هي العبء الأكبر وحدها.

وهذا يتقاطع مع استعداد جمهور واسع لقبول كل ما يقدّم له ما دام يحتوي على جرعات عالية من الأكشن والخيال، دون الاكتراث بما إذا كان الفيلم «بشرياً» أم مُنتجاً آلياً.

«فرانكنستين» 100 في المائة سينما (نتفليكس)

تفكير بالنيابة

يرى المدافعون عن الذكاء الاصطناعي (AI) أنّه يطوّر بصريات الفيلم ويجوّد مؤثراته، لكن هذا صحيح بقدر محدود. فالسينما بلغت قممها على أيدي فنانين أكفّاء صنعوا روائع مثل «ووترلو»، أو «بوني وكلايد»، أو «لورنس العرب»، أو «صنست بوليڤارد»، أو «القيامة الآن».

ما يطلبه الذكاء الاصطناعي ببساطة هو: «لا تفكّر... سأفكّر نيابةً عنك».

وهو ما يشبه ما حدث مع الهواتف الذكية وخرائط «غوغل»: استبدال الجهد الذهني بالاعتماد التام على التقنية.

ولا يعمل الذكاء الاصطناعي وحده في هذا المسار. فعام 2025 هو الامتداد الأكثر شراسة لما بدأ قبل سنوات مع المنصّات المنزلية، التي توفّر عليك مهمّة الانتقال إلى صالات السينما. غايتها ليست راحتك ولا حتى مساعدتك على الحد من النفقات (لم ترتفع أسعار التذاكر إلى المستوى الحالي إلا كرد فعل على انخفاض الإقبال) بل مد أصابعها إلى محفظتك كل شهر. أنت بالتالي، وعلى عكس روعة الحضور الفعلي لصالة السينما، لست أكثر من رقم محفوظ ومصمم لكي تُفيد جهة لن تقوم مطلقاً بتوفير أفلام فنية أو تعالج موضوعات جادّة بفاعلية طالما إنها ليست مطلب الجمهور.

وفي هذا السياق جاء هجوم «نتفليكس» الأخير لشراء «وورنر»، في خطوة توسّع رقعة هيمنة المنصّات. بينما جاء دخول «باراماونت» على خط الاستحواذ لعرقلة هذا التفرّد وإعادة بعض التوازن إلى المنافسة.

لكن السينما المناوئة لم تُهزم بعد وتجد في المهرجانات الفنية مساحة كبيرة للمقاومة كما في مواقف مخرجين يدركون جيّداً أن عليهم الصمود في وجه هذه التيارات.


شاشة الناقد: ثلاثة أفلام من مهرجان «البحر الأحمر» تكسر المعتاد

«العميل السري» (مهرجان البحر الأحمر)
«العميل السري» (مهرجان البحر الأحمر)
TT

شاشة الناقد: ثلاثة أفلام من مهرجان «البحر الأحمر» تكسر المعتاد

«العميل السري» (مهرجان البحر الأحمر)
«العميل السري» (مهرجان البحر الأحمر)

THE SECRET AGENT ★★★★

إخراج: ‪ كلايبر مندوزا فيلو‬

البرازيل | تشويق سياسي

عروض 2025: مهرجان «البحر الأحمر»

يتألّف هذا الفيلم الذي شهد عرضه الأول في مهرجان «ڤينيسيا» هذا العام واستُقبل جيداً في مهرجان البحر الأحمر قبل أيام من 3 أقسام، كل منها بعنوان مختلف، لكن ليس بغرض سرد 3 حكايات مختلفة، بل لربط أحداث كل فصل وشخصياته بخيط واحد يتناول، بالإيحاء غالباً، الجريمة السياسية في البرازيل سنة 1977. وسواء تحدّث القسم الأول عن جرائم قتل ارتكبها نظام تلك الفترة ضد المواطنين، أو رغبة بطل الفيلم مارسيلو (واغنر مورا) في البحث في أرشيف الدولة عن تاريخ عائلته (القسم الثاني)، أو لجوئه للتخفي بعيداً عن أعين مطارديه في محاولته لإعادة فهم وتقييم الواقع المُعاش (عموم الأقسام الثلاثة)، فإنه يوفّر من خلال شخصية بطله نظرة جامعة لأثر الاضطهاد السياسي على حياته فرداً وحياة الآخرين مجموعةً. وهو يفعل ذلك بدراية كاملة وبحرية فنية تجعل الفيلم أكثر إشباعاً لمحبي السينما وتمنح المُشاهد معالجة تبدو كما لو كانت مستقاة من خطوط أحداث لا نراها، بل نعايشها كما نعايش الماثل أمامنا. هذا كان شغل فيلو منذ فيلمه الأول «أصوات مجاورة» (Neighboring Sounds) وما زال شغله الآن، حيث ما نراه وما لا نراه يتساويان في الإيحاء والأهمية.

يستخدم فيلو السينما مرآة تعكس ذاكرة تقض المضاجع. مارسيلو يعيش في ماضيه كما في واقعه الحالي. يلجأ إلى بلدة تعيش طقوساً احتفالية لا يأبه لها كثيراً، إذ إن غايته إعادة الوصل بينه وبين ابنه الذي يعيش في الخيال. كل هذا والشعور بأن السلطة والعاملين فيها أو متعاملين معها موجودون عن قرب، حتى وإن لم نرَ لهم حضوراً فعلياً.

يتحرك الفيلم بحرية بين موضوعاته وأقسامه، غير مرتبط بمنهج سرد معيّن، ولكثرة مشاغله وما يود البحث فيه هناك تطويل يطغى، لكنه يبقى قادراً على جذب الاهتمام طوال الوقت. ما يتبلور على الشاشة هو عمل يجمع بين سيرة شبه شخصية لرجل يرفض نسيان الأمس وبين حب السينما كلغة تعبير، وثقة المخرج بالكيفية التي ينجز فيها مفرداته هذه.

BLACK RABBIT‪,‬ WHITE RABBIT ★★★

إخراج: شهرام مقري

طاجيكستان/ الإمارات العربية

المتحدة | دراما

عروض 2025: مهرجان «البحر الأحمر»

هذا فيلم غريب يُقدّر لحريّة المخرج في معالجته المبنية، بوضوح، على الخروج من شروط السرد المعتمد عادةً إلى آخر يتطلّب من المُشاهد التحرك بالاتجاه نفسه، متجاوزاً بدوره ما اعتاد عليه.

«أرنب أسود، أرنب أبيض» (مهرجان البحر الأحمر)

يدور في أرض تعود إلى استوديو حيث يُصوَّر فيلمان معاً في رقعة واحدة. رغبة المخرج مقري تعتمد على الإكثار من استخدام حريّته في رصف الفيلم الذي يريد كما يريده. هذا يخلق وضعاً تتكرر فيه المشاهد والحوارات، كما الحال عادةً خلال صنع الأفلام. نرى المشهد نفسه مع تغيير طفيف أكثر من مرة، تبعاً لرؤية مخرج يهوى التجريب ويراه مدخلاً مناسباً لسينماه. امرأتان ورجل ومسدس قديم هم محور ما يدور، لكن في وسط ما يبدو تكراراً، حضور لطبقات جديدة تتوالى الظهور.

من حسنات الفيلم التصوير (لمرتضى غايدي)، الذي يؤسس لنظام عمل متكامل يتواكب مع رغبة المخرج في تشغيل مخيلة المُشاهد وتعزيز أسلوبه. في أحيان كثيرة، يؤدي ذلك، ولو بالقصد، إلى الخلط بين الحدث الذي يقع في الفيلم الذي نراه، وذلك الحدث الآخر الذي ينطوي عليه الفيلم داخل الفيلم.

LOST LAND ★★★

إخراج: أكيو فوجيموتو

اليابان/ ماليزيا/ فرنسا

دراما عن الهجرة

عروض 2025: مهرجان «البحر الأحمر»

لا بد أن الشعور الإنساني في صميمه هو ما يدفع مخرجاً يابانياً للانتقال إلى بنغلاديش لتصوير موضوع محلي الحدث مع شخصيات محلية بدورها.

«أرض مفقودة» (مهرجان البحر الأحمر)

في «أرض مفقودة» متابعة لمصير صبي في الرابعة من العمر وشقيقته ابنة التاسعة، وقد قررا الاشتراك في رحلة تبدأ في حافلة تقل عشرات الأشخاص وتنتهي بهما بعد أيام من المشاق، وقد أصبحا وحيدين. مما يتبدى أن غاية المخرج فوجيموتو هي الحديث عن الهجرة غير الشرعية عموماً، مع تمهيد للشخصيتين قبل التحوّل عنهما لتصوير آخرين يؤمّون الهدف نفسه ويعيشون مصاعبه. سيعود المخرج للصبي شافي وأخته سميرة لاحقاً بعد أن يؤسس صورة عامة.

رغبة هذين الولدين هي ترك بنغلاديش في محاولة للقاء والديهما اللذين كانا قد هاجرا إلى ماليزيا. ليس هناك كثيراً لتداوله حول ظروف ما قبل قرارهما بالهجرة، لكن الحكاية تنتهي بهما وقد وجدا نفسيهما في تايلاند. على ذلك، يلتقي هذا المنهج مع حقيقة أن الشخصيات المحيطة تهاجر من دون القدرة على اتخاذ قرارات صائبة. في عموم الفيلم، هم آملون بمستقبل أفضل في عالم لا أمل فيه بالنسبة إليهم على الأقل.

★ ضعيف | ★★: وسط| ★★★: جيد | ★★★★ جيد جداً | ★★★★★: ممتاز