ليبيا... «دليل للمبتدئين»

خلفيات الصراع وأطرافه الأساسية وموازين القوى

طائرات حربية في مطار مصراتة عام 2016: بات إسلاميو هذه المدينة يلعبون دوراً أساسياً في رسم سياسات ليبيا في مرحلة ما بعد القذافي (أ.ف.ب)
طائرات حربية في مطار مصراتة عام 2016: بات إسلاميو هذه المدينة يلعبون دوراً أساسياً في رسم سياسات ليبيا في مرحلة ما بعد القذافي (أ.ف.ب)
TT

ليبيا... «دليل للمبتدئين»

طائرات حربية في مطار مصراتة عام 2016: بات إسلاميو هذه المدينة يلعبون دوراً أساسياً في رسم سياسات ليبيا في مرحلة ما بعد القذافي (أ.ف.ب)
طائرات حربية في مطار مصراتة عام 2016: بات إسلاميو هذه المدينة يلعبون دوراً أساسياً في رسم سياسات ليبيا في مرحلة ما بعد القذافي (أ.ف.ب)

في زمن «كورونا» ورغم هيمنة تداعيات هذا الوباء على عناوين الأخبار منذ شهور، ظلّت ليبيا، ولأسباب مختلفة، محافظة على موطئ قدم لها في مقدم تطورات العالم العربي، والآن، كما يبدو، في مقدم اهتمامات الدول الكبرى... وحروبها الخفية.
فماذا يحصل في ليبيا حقيقة؟ وكيف وصلت الأمور إلى هنا؟
يسلّط هذا التقرير - وهو بمثابة «دليل للمبتدئين» - الضوء على بعض خلفيات الصراع في ليبيا، وعلى أطرافه الأساسية، وموازين القوى فيه، وأيضاً على التحالفات الإقليمية والدولية، بما في ذلك «الحرب الباردة» الدائرة حالياً على الأرض الليبية بين الأميركيين والروس.

كيف وصلت الأمور إلى هنا؟
في فبراير (شباط) من عام 2011، وفي خضم ما عُرف آنذاك بـ«الربيع العربي» الذي أطاح لتوّه بنظامي الرئيسين الراحلين زين العابدين بن علي وحسني مبارك في تونس ومصر، اندلعت «انتفاضة» ضد حكم العقيد الراحل معمر القذافي الذي رد بتهديد الثائرين ضد نظامه بملاحقتهم «زنقة زنقة» حتى القضاء عليهم. جمع القذافي جيشاً جراراً ضم متطوعين من أبرز مدن غرب البلاد وقبائلها التي ظلّت على ولائها لنظامه، وعندما وصلت هذه القوات إلى أبواب مدينة بنغازي، مهد الثورة ضده في شرق البلاد، تحركت دول غربية، على رأسها فرنسا، ونجحت في إصدار قرار من مجلس الأمن (القرار 1973) يسمح بإجراءات لـ«حماية المدنيين». تبيّن لاحقاً أن القرار كان في الواقع جزءاً من خديعة تعرضت لها روسيا، بحسب ما يقول مسؤولوها. إذ سرعان ما أصدرت فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة موقفاً مشتركاً فسّرت فيه حماية المدنيين بأنه يعني تدخلاً عسكرياً لإطاحة النظام. وهكذا كان. لم تكتفِ الطائرات الفرنسية بضرب الرتل المتقدم نحو بنغازي وتدميره، بل شارك حلف «الناتو» بأكمله في عملية تدمير القوات الحكومية الليبية أينما وجدت، والسماح لجماعات الثوار بإسقاط القذافي وقتله في مسقط رأسه، مدينة سرت، في أكتوبر (تشرين الأول) 2011.
ما بعد القذافي

اقتراع 2012: أول برلمان لليبيا بعد سقوط نظام القذافي (غيتي)

خطت ليبيا خطوة مبشّرة نحو الانتقال إلى نظام ديمقراطي يخلف «جماهيرية العقيد»، فنظّمت في يوليو (تموز) 2012 انتخابات تعددية لاختيار برلمان انتقالي (المؤتمر الوطني). حقق «تحالف القوى الوطنية»، بزعامة الراحل محمود جبريل، تقدماً واضحاً في هذه الانتخابات، لكن تكتلات عدة يهيمن عليها الإسلاميون تدخلت لحرمانه من نيل منصب رئيس الوزراء. قيل وقتها الكثير في خصوص خلفيات استهداف جبريل، وربطها كثيرون بموقف قطر منه كونه اعترض، مع آخرين، على ما اعتبره تدخلاً واضحاً منها في فرض شخصيات بعينها لتولي مناصب أساسية في الدولة الليبية في فترة ما بعد القذافي.
في عام 2014، عادت ليبيا إلى صناديق الاقتراع واختارت برلماناً جديداً (مجلس النواب). ورغم أن جميع المرشحين تقدموا بوصفهم مستقلين، فإن نتيجة الاقتراع مثّلت هزيمة مدوية للإسلاميين الذين خسروا في مواجهة تحالف من الليبرالييين والوطنيين. لكن الاقتراع تمثّل في المقابل بمشاركة متدنية جداً من المواطنين (18 في المائة فقط)، ورفض الإسلاميون القبول بنتيجته. فقد كانت الأوضاع في البلاد تسير نحو مزيد من التأزم... والانفجار.

تنامي قوة الجماعات الإسلامية

مؤيدون وأعضاء في جماعة «أنصار الشريعة» في بنغازي عام 2012 (غيتي)

شهدت ليبيا، في السنوات التي تلت قلب نظام القذافي، تنامياً كبيراً في نشاط الجماعات الإسلامية التي كانت مقموعة ومحظورة على مدى عقود. فإلى جانب جماعة «الإخوان» التي أسست حزباً سياسياً (العدالة والبناء)، ظهر على الساحة تنظيم «أنصار الشريعة» الذي ضم متشددين أنشأوا لاحقاً فروعاً لتنظيم «القاعدة»، ومن بعده وريثه ومنافسه تنظيم «داعش». وقد انعكس خلاف «القاعدة» و«داعش» في سوريا على علاقة أنصارهما في ليبيا.
سيطر أنصار «القاعدة» على مدينة درنة التي عُرفت سابقاً بسيل المتطوعين الانتحاريين الذين شكلوا مدداً لا ينقطع لزعيم فرع «القاعدة» في العراق، أبي مصعب الزرقاوي، في الأعوام 2004 و2005 و2006. في المقابل، سيطر أنصار «داعش» على أجزاء من مدينة بنغازي، عاصمة شرق البلاد، قبل أن يقيموا «إمارة» في مدينة سرت، مسقط رأس القذافي. نفّذ «داعش» بعضاً من أبشع جرائمه خلال سيطرته على سرت (بما في ذلك قطع رؤوس أقباط مصريين وإثيوبيين كانوا يحاولون الهجرة إلى أوروبا)، لكنه لم يكن لوحده. فقد حصلت جرائم أخرى عديدة يُشتبه في أن متشددين قاموا بها - سواء قتل السفير الأميركي كريس ستيفنز في بنغازي عام 2012، أو اغتيال عشرات الضباط والعسكريين الذين كانوا يُقتلون واحداً تلو الآخر بدم بارد في شرق البلاد تحديداً.
ظهور حفتر

أسهمت تلك الاغتيالات في تنامي التأييد للمشير خليفة حفتر في محاولته إعادة تجميع ما تبقى من الجيش الليبي السابق الذي تفكك بعد سقوط نظام القذافي. كان الإسلاميون منذ البداية معارضين لأي دور لحفتر في مستقبل ليبيا. فهو ينتمي، في نظرهم، إلى حقبة القذافي. كان ضابطاً سابقاً في جيشه، وشارك في الحرب مع تشاد في ثمانينات القرن الماضي، وأسر، ثم انضم إلى المعارضة (جبهة الإنقاذ)، لكنه اختلف مع قادتها، وظل يعيش بالمنفى في الولايات المتحدة حتى اندلاع الثورة ضد القذافي فحزم حقائبه وعاد إلى ليبيا، حيث شارك في القتال ضد قوات الزعيم الليبي.
لكن دوره في تلك الحرب ظل هامشياً، وزاده تهميشاً تكتل الإسلاميين ضده في حقبة ما بعد العقيد. لكن كثيراً من الذين اعتبروا أنفسهم جزءاً من النظام السابق فضّلوا تجاهل دوره في الحرب لإطاحة العقيد عام 2011 والانخراط في جهده لإعادة تجميع القوات المسلحة باعتبارها جزءاً أساسياً من أي محاولة حقيقية هدفها وقف انحدار البلاد نحو مزيد من الفوضى والتفكك وسقوطها في أيدي الجماعات المتشددة.
لكن ذلك لم يعنِ بالطبع التحاق جميع أنصار النظام السابق بحفتر. فشريحة لا بأس بها من هؤلاء يبدو أنها ما زالت تراهن على دور ما لنجل القذافي، سيف الإسلام، الذي أفرج عنه في عام 2017 بعد احتجازه منذ عام 2011 في مدينة الزنتان (الجبل الغربي). ولم يظهر سيف علناً منذ إعلان الإفراج عنه، ما فتح باب التكهنات حول مكان وجوده (هو ما زال مطلوباً من المحكمة الجنائية الدولية لدوره في محاولة قمع الثورة ضد والده). وترددت معلومات أنه انتقل من الزنتان إلى جنوب ليبيا حيث ما زال هناك مؤيدون له، قبل أن ينتقل إلى مدينة بني وليد جنوب شرقي طرابلس. ومعروف أن هذه المدينة، وقبيلتها الورفلة، وقفت إلى جانب سيف الإسلام وحمته بعد فراره من طرابلس في صيف عام 2011. وفي هذه المدينة فقد سيف أصابع يده وأصيب بجروح شديدة بقصف لطائرات «الناتو»، ما اضطره إلى الفرار جنوباً حيث أسره ثوار قرب مدينة أوباري ونقلوه إلى الزنتان. وليس واضحاً اليوم كيف يمكن أن تكون العلاقة بين حفتر وسيف إذا كان عليهما التعايش في المنطقة ذاتها.

عمليتا «الكرامة» و«فجر ليبيا»

قوات «فجر ليبيا» عام 2014 (غيتي)

أطلق حفتر محاولته الأولى للإمساك بزمام الأمور في ليبيا في بدايات عام 2014، إذ أعلن في فبراير (شباط) حل المؤتمر الوطني العام الذي أراد التمديد لنفسه بعد انتهاء ولايته، ثم أطلق في مايو (أيار) حملة عسكرية ضد الجماعات الإسلامية (أنصار الشريعة) التي سيطرت على بنغازي. أطلق حفتر على هجومه «عملية الكرامة».
في المقابل وفي الوقت ذاته، أطلقت جماعات إسلامية، بعضها من طرابلس نفسها وبعضها من مدينة مصراتة، عملية «فجر ليبيا» لطرد جماعات منافسة لها من العاصمة ومحيطها، لا سيما الجماعات التي جاءت من الجبل الغربي (الزنتان تحديداً). ونجحت قوات «فجر ليبيا» في الواقع في طرد مقاتلي الزنتان من مواقعهم جنوب طرابلس، رغم أن ذلك أدى إلى تدمير مطار طرابلس الدولي بالطائرات الموجودة فيه.

اتفاق الصخيرات

في محاولة لإنقاذ ليبيا من الغرق في مزيد من الفوضى، نجحت الأمم المتحدة في جمع شريحة واسعة من الفرقاء الليبيين في الصخيرات (المغرب) حيث تم توقيع اتفاق، في ديسمبر (كانون الأول) 2015، نتج عنه قيام حكومة وفاق وطني برئاسة فائز السراج (في مارس/ آذار 2016). انتزعت هذه الحكومة تمثيل ليبيا أمام الأمم المتحدة، لكن معارضيها ظلوا يشككون في شرعيتها بحكم أنها لم تنل ثقة مجلس النواب الليبي الذي اتخذ من طبرق مقراً له في شرق البلاد بعد سيطرة الجماعات التي يهيمن عليها الإسلاميون على طرابلس (في أعقاب «فجر ليبيا»).
وهكذا اتسع الشرخ السياسي في ليبيا في أعقاب اتفاق الصخيرات عوض أن يتم جسره. سيطرت الجماعات المؤيدة للإسلاميين إلى حد كبير على مقاليد الأمور في طرابلس، ما أعطى الانطباع بأن السراج خاضع لها. في المقابل، نجح معارضو الإسلاميين بقيادة حفتر، وبتأييد من مجلس النواب، في فرض نفوذهم في شرق البلاد، ما جلب لهم دعماً من أطراف عربية ترى في الإسلاميين مصدراً للفوضى في العالم العربي.
القضاء على الجماعات المتشددة

سرت مدمرة بعد سيطرة القوات الموالية لـ«الوفاق» عليها عام 2016 (غيتي)

شكل ظهور الجماعات المتشددة في ليبيا بعد إسقاط نظام القذافي مصدر قلق للدول الغربية، خصوصاً في ضوء إقامة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» موطئ قدم لهما على الضفة الجنوبية للبحر المتوسط، الأمر الذي يسهّل لهما تنفيذ عمليات إرهابية على الأراضي الأوروبية.
تُرجم هذا القلق على صعيدين.
تمثل الأول في دعم الولايات المتحدة وبريطانيا ودول أوروبية أخرى عملية ضخمة لطرد «داعش» من «إمارة سرت». راهنت هذه الدول في تنفيذ هذه العملية على قوات تابعة لحكومة «الوفاق» جاءت تحديداً من مدينة مصراتة، غرب سرت. وبعد قصف جوي عنيف استمر لشهور، نجحت قوات مصراتة (عملية البنيان المرصوص)، في ديسمبر (كانون الأول) 2016، في دخول سرت التي تحوّلت إلى أنقاض بعدما قاتل عناصر «داعش» فيها حتى الموت. قُتل مئات المقاتلين من شبان مصراتة في معارك سرت. لكن هذا الدم الباهظ رسّخ موقع المدينة في تركيبة السلطة الجديدة في طرابلس، وعزز، في المقابل، الشكاوى من دورها المتنامي في الهيمنة على مقاليد الأمور في البلاد منذ سقوط القذافي. ومعروف أن هذه المدينة عرضت على عامة الناس جثمان القذافي وابنه المعتصم بعد قتلهما عام 2011 ثم دفنتهما في مكان لا يعرفه أحد.
ورغم مغادرة القوات الغربية التي ساندت مصراتة ونسقت القصف الجوي ضد «داعش» في سرت، فإن إيطاليا أبقت على قوة عسكرية لتأمين حماية مستشفى أقامته في مصراتة. وفُسّرت تلك الخطوة من قبل معارضيها بأنها تعني دعماً إيطالياً لمصراتة في مواجهة خصومها.
في المقابل، برز المشير حفتر بدوره نتيجة قتاله الجماعات المتشددة في بنغازي ومناطق واسعة من شرق البلاد (ولاحقاً غربها). فرغم انطلاقه بعدد محدود من الجنود الذين كانوا محاصرين لوقت طويل ويتعرضون لهجوم تلو الآخر من الإسلاميين على مطار بنينا قرب بنغازي، فإن حفتر تمكن، ببطء، من استعادة زمام المبادرة ونجح في نهاية المطاف بطرد أنصار «داعش» و«القاعدة» من بنغازي، ثم من درنة، وبقية مدن شرق البلاد.
تم هذا الإنجاز بعد كثير من الدماء والتضحيات، ونتج عنه كم هائل من الدمار حوّل أجزاء من بنغازي إلى أنقاض. في الواقع، كان حفتر يحظى في تلك الفترة بدعم سري من فرنسا التي أرسلت جنوداً من قواتها الخاصة لمساندته. لكن سرعان ما انفضح الدور الفرنسي عندما سقطت مروحية فرنسية قرب مطار بنينا (في يوليو 2016) وقُتل فيها جنديان، فاضطرت فرنسا إلى الاعتراف بوجود لها في ليبيا. وعندما وسع حفتر هجومه ليشمل مشارف العاصمة الليبية في بدايات عام 2019، انكشف مجدداً أن فرنسا تلعب، على الأرجح، دوراً سرياً في دعمه، إذ عثرت القوات الموالية لـ«الوفاق» عندما استعادت السيطرة على مدينة غريان على صواريخ متطورة كانت في حوزة قوات فرنسية.
وليس واضحاً إذا كان حفتر قد شعر بأن الفرنسيين لا يقدمون له الدعم الكافي لـ«طرد الميليشيات» من طرابلس، بحسب وصفه. إلا أن الظاهر أنه لجأ إلى مصدر دعم آخر تمثّل بروسيا التي زارها المشير حفتر أكثر من مرة. ورغم النفي الروسي الرسمي لتقديم دعم لقواته، فإن الواضح - والموثّق وفق تقارير الأمم المتحدة - أنه يحظى بالفعل بدعم من «مرتزقة» جنّدتهم مجموعة «فاغنر» الروسية. يُقدّر عدد هؤلاء بنحو 1500 عنصر، وقد ساندوا، كما يبدو، تقدم قوات حفتر حتى أبواب طرابلس. لكن الإعلام الرسمي للجيش الوطني الذي يقوده حفتر، يصر على نفي وجود «مرتزقة روس».

التدخل التركي

التدخل التركي في ليبيا أوقف زحف قوات المشير حفتر على طرابلس (رويترز)

كانت هيمنة الجماعات المرتبطة بـ«الإخوان» على حكومة السراج مصدراً أساسياً للخلاف مع حفتر. ومع تقدم قوات الأخير نحو طرابلس العام الماضي ظهر إلى العلن مدى اعتماد حكومة السراج على دعم «الإخوان». إذ وقّع السراج، في نهايات 2019، اتفاقات أمنية وعسكرية مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الداعم الرئيسي لـ«الإخوان» في العالم العربي. أرسل الرئيس التركي كميات ضخمة من السلاح إلى طرابلس ومصراتة ومدن أخرى في غرب البلاد، وتم ذلك علناً في بواخر حملت مئات العربات العسكرية وبجسر جوي نقل آلافاً من «المرتزقة السوريين» الذين جندتهم تركيا من الفصائل التابعة لها في سوريا (حكومة «الوفاق» هي من يدفع مرتباتهم من خزينة الدولة الليبية). وأتبع إردوغان كل ذلك بإرسال بعض من أحدث تقنيات جيشه العضو الأساسي في حلف «الناتو»: طائرات درون مسيّرة (بيرقدار)، وبوارج حربية، وأجهزة تشويش متطورة، وربما أيضاً منظومات صاروخية للدفاع الجوي (هوك) لحماية غرف عمليات القوات التركية في غرب ليبيا. أسهم هذا الدعم التركي الضخم في قلب موازين المعركة ضد حفتر. فقد نجحت الطائرات التركية في تدمير منظومات الدفاع الجوي (بانتسير) التي كانت تحمي قوات حفتر والقوات التي تقاتل إلى جانبه («مرتزقة فاغنر»). كما تمكنت الطائرات التركية من خنق قوات حفتر اقتصادياً. فقد كانت هذه القوات بحاجة إلى إمدادات، وبما أن ليبيا بلد صحراوي فإن صهاريج النفط وشاحنات نقل الغذاء كان عليها أن تقطع مسافات طويلة وهي مكشوفة للطيران التركي قبل الوصول إلى وجهتها جنوب طرابلس.

انسحاب قوات «فاغنر»

أرغمت الضربات التركية «مرتزقة فاغنر» على الانسحاب من معركة طرابلس، بحسب ما أكدت حكومة «الوفاق» التي قالت إن هذه القوات شوهدت وهي تنسحب بآلياتها باتجاه مدينة بني وليد ومنها إلى وجهة غير معروفة (جواً وبراً). وبما أن المنسحبين لم يتعرضوا لقصف تركي، فقد سرت تكهنات بأن خطوتهم تم التوافق عليها سراً بين الأتراك والروس. لكن تطوراً مفاجئاً أعاد خلط الأوراق. ففي وقت كانت فيه قوات «فاغنر» تنسحب من مدينة بني وليد، بحسب ما قالت حكومة «الوفاق»، وصل سرب من الطائرات الروسية الحديثة (ميغ 29 وسوخوي 24) إلى شرق ليبيا. حطت في طبرق في البداية، ثم انتقلت إلى قاعدة الجفرة بوسط البلاد. وبحسب القيادة الأميركية في أفريقيا (أفريكوم)، قاد الطائرات طيارون من القوات المسلحة الروسية. طاروا من روسيا مباشرة. توقفوا في سوريا، حيث أعيد طلاء طائراتهم لتمويه مصدرها، ومنها إلى ليبيا لمساندة «المرتزقة الروس» وقوات حفتر، بحسب ما أكد الأميركيون. لكن لم يُسجل حتى اليوم أي دور لهذه الطائرات في المعارك الجارية جنوب طرابلس حيث تعرضت قوات «الجيش الوطني الليبي» لنكسات متتالية هددت بخسارة كل مكاسبها في غرب ليبيا. وليس واضحاً تماماً إذا كان إرسال هذه الطائرات هدفه توجيه رسالة لتركيا وحلفائها لوقف تقدمهم نحو الشرق والجنوب، أم لضمان احتفاظ قوات حفتر بموطئ قدم جنوب طرابلس. ويرجح أن تتوضح هذه الصورة وفق التطورات التي ستحصل في الأيام المقبلة.
وإذا نجح الأتراك فعلاً في طرد قوات حفتر من غرب البلاد، فإن خطوتهم المقبلة قد تكون جنوب ليبيا أو وسطها. لكن المنطقة عبارة عن صحراء مترامية الأطراف من الصعب الحفاظ على السيطرة عليها في ظل غياب الدعم الجوي.

الموقف الأميركي

أميركا اتهمت روسيا بنشر طائرات حربية في مطار الجفرة بليبيا (أفريكوم)

كان واضحاً أن الأميركيين، في مواقفهم الأخيرة، أخذوا صف حكومة السراج في نزاعها مع حفتر. ولعل بيان «أفريكوم» الأخير في خصوص الطائرات الروسية كان الأكثر وضوحاً في المواقف الأميركية. إذ اعتبر أن إنشاء الروس قاعدة لهم في ليبيا سيشكل خطراً على أمن أوروبا، علماً بأن للروس قاعدة أخرى على سواحل المتوسط في طرطوس السورية. وبهذا يتضح أن الأميركيين يعتبرون الوجود الروسي في ليبيا أكثر خطراً، استراتيجياً، من الوجود التركي (العثماني بحسب إردوغان). واعتمد الأميركيون نفس هذه السياسة في سوريا، إذ وقفوا إلى جانب الأتراك لمنع روسيا وقوات النظام السوري من السيطرة على إدلب، رغم أنها معقل للإسلاميين بما في ذلك الجماعات المرتبطة بـ«القاعدة». وإضافة إلى هذه الجماعات، تنشط في إدلب جماعات عدة تنتمي إلى تيارات «إخوانية» وتعمل تحت إشراف تركي مباشر.
ويقول منتقدون للدور التركي إن سماح الأميركيين لإردوغان بإنشاء موطئ قدم له على سواحل ليبيا يمكن أن يشكل تهديداً لأوروبا ربما لا يصل إلى مستوى التهديد العسكري الروسي، لكنه يمكن أن يوازيه من نواحٍ أخرى. ويستحضر هؤلاء مواقف إردوغان الأخيرة، خلال عملية إدلب، عندما أعلن فتح أبواب بلاده أمام ملايين المهاجرين للعبور نحو أوروبا، وهو ما يمكن أن يكرره الرئيس التركي مع الأوروبيين عندما يريد أن يبتزهم فيهددهم بفتح سواحل ليبيا أمام المهاجرين الآتين من دول أفريقيا ما وراء الصحراء. لكن هذا الخطر لا يبدو أنه يُقلق الأميركيين - أو {الدولة العميقة} التي تخشى {الدب الروسي} في وزارتي الخارجية والدفاع - بقدر ما يقلقهم وجود «فاغنر» والروس في ليبيا.

وماذا عن دور دول الإقليم؟

كانت مصر من أوائل الداعمين لحفتر، إذ إن حدودها الغربية كانت مصدر قلق لها على مدى سنوات، حيث كان أعضاء في جماعات مسلحة يتسللون من ليبيا لتنفيذ هجمات وتهريب السلاح ثم يعودون إليها. وتأكدت مخاوف المصريين فعلاً عندما نجحت قوات حفتر في اعتقال أحد أبرز المطلوبين المصريين الضابط السابق المتطرف هشام عشماوي الذي كان يختبئ في مدينة درنة في أكتوبر 2018. سُلّم عشماوي إلى مصر حيث أُعدم. ولا تكشف مصر نوعية الدعم الذي تقدمه للجيش الوطني الليبي، لكن حكومة «الوفاق» دأبت على اتهامها، مع الإمارات والأردن على وجه الخصوص، بمساعدة حفتر.
وتتركز مزاعم «الوفاق» على قاعدتي الجفرة والخادم، حيث توجد طائرات مسيرة صينية الصنع (لونغ وينغ) يشغلها خبراء أجانب. لكن ليس كل ما تقول حكومة «الوفاق» يتبين أنه صحيح في هذا المجال، فقد روّجت وسائل إعلام مرتبطة بها لوجود قوات مصرية في قاعدة الوطية (عقبة بن نافع) بغرب ليبيا، لكن عندما سقطت القاعدة في أيدي {الوفاق} قبل أسابيع لم يظهر أي وجود لقوات مصرية فيها، بل تبيّن أن المدافعين عنها كانوا من أبناء المدن القريبة منها وتحديداً في الجبل الغربي. ولا تنفي الإمارات، من جهتها، معارضتها للميليشيات في ليبيا وتقول إنها تدعم الحل السياسي. وتولى الأردن، من جهته، تدريب قوات ليبية في إطار عملية بناء مؤسسات الدولة في مرحلة ما بعد القذافي. أما تونس والجزائر فتقولان إنهما لا تتدخلان في الشؤون الليبية، لكن رئيس البرلمان التونسي زعيم حركة «النهضة» راشد الغنوشي أثار جدلاً في بلاده بتهنئته «الوفاق» على استعادة قاعدة الوطية. وتقول الجزائر، من جهتها، إنها مستعدة لاستضافة حوار ليبي - ليبي لإنهاء النزاع في البلاد.



مستقبل إردوغان والحزب الحاكم... سؤال تركيا الكبير

عبد الله غل (يمين) يصفق وهو يجلس بجوار إردوغان (يسار) في البرلمان التركي أغسطس 2007 (غيتي)
عبد الله غل (يمين) يصفق وهو يجلس بجوار إردوغان (يسار) في البرلمان التركي أغسطس 2007 (غيتي)
TT

مستقبل إردوغان والحزب الحاكم... سؤال تركيا الكبير

عبد الله غل (يمين) يصفق وهو يجلس بجوار إردوغان (يسار) في البرلمان التركي أغسطس 2007 (غيتي)
عبد الله غل (يمين) يصفق وهو يجلس بجوار إردوغان (يسار) في البرلمان التركي أغسطس 2007 (غيتي)

أمضت تركيا أكثر من 22 عاماً تحت حكم حزب «العدالة والتنمية» الذي شهدت مسيرته محطات حرجة وتحديات سياسية واقتصادية، بين صعود وهبوط، وانعكست على السياسة الخارجية على وجه الخصوص.

الحزب ذو الجذور الإسلامية الذي أسسه الرئيس رجب طيب إردوغان ومجموعة من رفاقه أبرزهم الرئيس السابق عبد الله غل، والسياسي المخضرم بولنت أرينتش، ظهر في 14 أغسطس (آب) 2001، وفاز منفرداً بحكم تركيا في أول انتخابات تشريعية خاضها في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2002، وبقي في الحكم حتى الآن.

وخاض الحزب في البداية صدامات مع النخبة العلمانية والجيش والقضاء وصلت ذروتها عند ترشيح عبد الله غل، الذي كان وزيراً للخارجية، للرئاسة عام 2007 خلفاً للرئيس الأسبق أحمد نجدت سيزر.

أزمات ومعارك

أحدث ترشيح غل أزمة كبيرة في تركيا التي شهدت تجمعات مليونية في أنقرة وإسطنبول رفضاً له. وأفلت الحزب أيضاً من الحل في دعوى أقيمت ضده أمام المحكمة الدستورية التي قضت بالغرامة المالية دون الإغلاق في عام 2008، بسبب انتهاكه «مبادئ العلمانية».

ومنذ عام 2010، بدأ الحزب حملة تغييرات واسعة، عبر تعديل الدستور، بعدما استفاد من المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي التي انطلقت رسمياً عام 2005 في إرساء العديد من حزم الإصلاحات في النظام القضائي والقوانين.

وخاص الحزب العديد من المعارك، كما نزع فتيل محاولات استهدفته على غرار قضايا «أرجنكون» و«المطرقة» و«القفص» التي حاول فيها عسكريون الإطاحة بحكومة إردوغان.

وعد إردوغان، الرجل القوي الذي لا يزال قابضاً بقوة على السلطة في تركيا، أن احتجاجات «غيزي بارك» في مايو (أيار) 2013، وما أعقبها من تحقيقات «الفساد والرشوة» التي جرت في 17 و25 ديسمبر (كانون الأول) من العام ذاته، كانت محاولات للإطاحة بحكومته.

ونُسبت تحقيقات في تهم فساد ورشوة طالت أبناء وزراء في حكومة إردوغان ورجال أعمال مقربين منه، وامتدت إلى أفراد عائلته، إلى حركة «الخدمة» التي تزعمها حليفه الوثيق السابق، فتح الله غولن، الذي توفي منذ أشهر.

حشد من الأتراك يحتفلون وسط إسطنبول فوق دبابة هجرها ضباط من الجيش بعد محاولة انقلاب فاشلة في 16 يوليو 2016 (غيتي)

مواجهة أخيرة

كانت محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو (تموز) 2016، التي نفذتها مجموعة من الجيش، نُسب إليها الانتماء إلى حركة غولن، هي آخر المواجهات التي مكنت إردوغان من إخضاع المؤسسة الحامية للعلمانية في البلاد (الجيش) بعدما تمكن من السيطرة على أجهزة الأمن والقضاء عقب تحقيقات الفساد والرشوة، وقام بتطهيرها من أنصار غولن، الذي كان حليفاً لحزب «العدالة والتنمية» منذ ظهوره.

ووسط هذه المعارك التي مكنت إردوغان وحزبه من السيطرة على جميع مفاصل الدولة وإزالة مشكلة حظر الحجاب من أجندة تركيا، كان الحزب يخوض مسار صعود اقتصادي أزال أثر الأزمة الحادة التي عاشتها البلاد في 2001، وكانت العامل الأساسي في فوزه الكاسح بأول انتخابات يخوضها.

صعود اقتصادي وتقلبات سياسية

استمر الصعود الاقتصادي، وساعد في ذلك اعتماد حزب «العدالة والتنمية» سياسة «صفر مشاكل» مع دول الجوار التي أسس لها وزير الخارجية الأسبق أحمد داود أوغلو، الذي تولى لاحقاً رئاسة الحكومة، التي كان لها الفضل في إذابة الجليد في علاقات تركيا مع محيطها في الشرق الأوسط والعالم العربي، فضلاً عن توسيع علاقات تركيا بالشرق والغرب.

ولم تخف توجهات السياسة التركية في هذه الفترة اعتمادها على نظرية «العثمانية الجديدة»، واستعادة مناطق النفوذ، التي انطلقت من نظرية «العمق الاستراتيجي» لـ«داود أوغلو»، وبعدما بدأت تركيا التمدد من الدول العربية إلى أفريقيا اعتماداً على أدوات الدبلوماسية الناعمة والمساعدات الإنسانية وعامل الدين والتاريخ المشترك، جاء ما عرف بـ«الربيع العربي» ليقلب سياسة تركيا إلى التدخل المباشر والخشن عبر أدوار عسكرية امتدت من سوريا وليبيا إلى القرن الأفريقي، وفتحت لها باب التوسع بإقامة القواعد العسكرية في الخارج.

وتسبب انحياز تركيا إلى جماعة «الإخوان المسلمين» وجماعات متشددة، ودعمها في تونس ومصر وسوريا وليبيا، في حصارها في المنطقة، وهو ما حاول سياسيوها تبريره بشعار «العزلة القيمة».

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان... ربع قرن عاصف بالتحولات (غيتي)

بين الكرد والقوميين

جاءت محاولة الانقلاب الفاشلة في عام 2016 لتضيف مزيداً من التوتر إلى علاقات تركيا مع حلفائها الغربيين بسبب ما عدّته أوروبا وأميركا، استغلالاً لها في سحق معارضي إردوغان على اختلاف انتماءاتهم وليس أنصار غولن فقط، والتوسع في انتهاكات حقوق الإنسان وحرية التعبير عبر الاعتقالات الواسعة، وإغلاق المنصات الإعلامية، وهو ما أدى إلى «دفن» مفاوضات تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، التي كانت مجمدة بالفعل منذ عام 2012.

الحال، أن الانسداد في العلاقات مع أوروبا كان قد تأجج في فترة الانتخابات البرلمانية في تركيا عام 2015 التي شهدت مصادمات مع الكرد، وخسر فيها حزب «العدالة والتنمية» الأغلبية للمرة الأولى في الانتخابات التي أجريت في 7 يونيو (حزيران) من ذلك العام للمرة الأولى في مسيرته، قبل أن يلجأ إردوغان إلى الانتخابات المبكرة في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) من العام ذاته، ليفوز بها حزبه.

وفي هذه الفترة كان «العدالة والتنمية» أطلق في عام 2013 مبادرة للسلام الداخلي وحل المشكلة الكردية، قبل أن يعلن إردوغان إنهاءها في 2015 قائلاً إنه لا توجد مشكلة كردية في تركيا.

وأثبتت القضية الكردية أنها الورقة التي يلجأ إليها إردوغان في لحظات الضعف التي يمر بها حزبه وتتراجع شعبيته، فقد عاد الحديث في الأسابيع الماضية عن مبادرة جديدة للحل، أطلقها رئيس حزب «الحركة القومية»، الحليف لإردوغان، دولت بهشلي، ودعا من خلالها إلى حوار مباشر مع زعيم حزب «العمال الكردستاني» المحكوم بالسجن مدى الحياة في تركيا، عبد الله أوجلان، بل دعوته للحديث في البرلمان، والنظر في العفو عنه.

وجاءت هذه الخطوة، كما يرى مراقبون، محاولة من إردوغان لجذب كتلة أصوات الكرد بعد الهزيمة التي تلقاها حزبه في الانتخابات المحلية التي أجريت في 31 مارس (آذار) الماضي، بعدما فاز بصعوبة بالغة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في مايو 2023، والحصول على دعم نواب حزب «الديمقراطية المساواة للشعوب»، المؤيد للكرد لفتح الطريق أمام إردوغان للترشح للرئاسة للمرة الرابعة في انتخابات مبكرة تُجرى قبل عام 2028 بطلب من 360 نائباً، وهو ما لا يملكه «تحالف الشعب»، الذي تأسس مع تحول البلاد إلى النظام الرئاسي عام 2018، ليضم حزب «العدالة والتنمية» و«الحركة القومية»، وأحزاب قومية وإسلامية أخرى صغيرة مثل «الوحدة الكبرى»، و«هدى بار».

وتسبب التحالف مع القوميين في انتقال «العدالة والتنمية» من حزب وسطي إصلاحي يخدم الشعب بلا تمييز ويعمل على دفع الاقتصاد والانضمام للاتحاد الأوروبي، إلى حزب يرفع شعارات الفكر القومي والأمة، ويبشر بالعثمانية الجديدة و«الوطن الأزرق» في ظل نظام يصفه معارضوه في الداخل وحلفاؤه في الغرب بأنه يكرس الديكتاتورية وحكم الفرد منذ إقرار النظام الرئاسي من خلال تعديلات دستورية تم الاستفتاء عليها عام 2017.

إردوغان (يمين) ورئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني في ديار بكر جنوب تركيا نوفمبر 2013 (غيتي)

ألغاز السياسة الخارجية

ربما تكون السياسة الخارجية لتركيا تحت حكم إردوغان و«العدالة والتنمية» هي أكبر الألغاز المحيرة، فبعدما أريد لها الانفتاح وتصفير المشاكل، انتقلت منذ 2011 إلى التدخل في أزمات المنطقة، ثم رفعت شعار «العزلة القيمة»، بعدما حدثت شروخ عميقة في العلاقات مع محيط تركيا الإقليمي من مصر إلى دول الخليج إلى سوريا والعراق، في مرحلة ما، ثم محاولة العودة بعد 10 سنوات ضائعة إلى مسعى «تصفير المشاكل» مرة أخرى.

وهكذا عملت تركيا على إصلاح العلاقات مع دول الخليج ومصر، وعدم التمادي في تدمير العلاقات مع إسرائيل، على الرغم من إدانتها الصارخة لحربها في غزة ولبنان وهجماتها في سوريا، وصولاً إلى الحوار الإيجابي مع اليونان وأرمينيا.

واتسمت هذه السياسة أيضاً بتبديل غير مستقر للمحاور بين الشرق والغرب، عبر محاولة توظيف ورقة العلاقات مع روسيا والصين وإيران، وتقديم طلب عضوية في مجموعة «بريكس»، والحضور في قمة منظمة شنغهاي للتعاون على المستوى الرئاسي، للضغط من أجل تحريك مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وكسر فتور العلاقات مع أميركا.

وشكل التذبذب في العلاقات بين تركيا وروسيا ملمحاً مميزاً، وكذلك مع إيران، لكن بصورة أقل علانية، إلى أن دخلت العلاقات معهما منعطفاً حاداً بسبب التطورات الأخيرة التي أطاحت بحكم بشار الأسد في سوريا، فضلاً عن عدم الرضا من جانب روسيا عن نهج تركيا في التعامل مع الأزمة الروسية الأوكرانية.

الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب إردوغان على هامش قمة منظمة شنغهاي في سمرقند سبتمبر 2022 (أ.ف.ب)

هواجس المستقبل

الآن، وبعد نحو ربع قرن ساد فيها حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا، يبدو أن إردوغان يجد صعوبة كبيرة في تنفيذ وعده لناخبيه عقب فوزه بالرئاسة في مايو 2023 بتأسيس «قرن تركيا».

يواجه إردوغان الآن معارضة عرفت طريقها إلى الشارع بعد أكثر من 22 عاماً من التشتت، وركاماً اقتصادياً أجهض ما تحقق من مكاسب في الحقبة الذهبية لحزبه، الذي أتى بالاقتصاد، والذي قد يرحل بسببه، بعدما بدأ رحلة تراجع منذ تطبيق النظام الرئاسي في 2018، مع صعوبة التغلب على المشاكل الهيكلية، وكسر حلقة التضخم الجامح وغلاء الأسعار وتآكل الدخل.

كما يدخل الحزب عام 2025 مع سؤال كبير وملحّ: «هل يضعف (العدالة والتنمية) أو يتلاشى إذا غابت عنه قيادة إردوغان القوية؟»، ومع هذا السؤال يبدو أن سيناريوهات مقبلة في الطريق لإبقاء الرجل على رأس الحزب والسلطة في تركيا.