المشترك بين سيرتي سحر خليفة وبنسالم حميش

قراءة في «روايتي لروايتي» و«الذات بين الوجود والإيجاد»

المشترك بين سيرتي سحر خليفة وبنسالم حميش
TT

المشترك بين سيرتي سحر خليفة وبنسالم حميش

المشترك بين سيرتي سحر خليفة وبنسالم حميش

تطور فن السيرة الذاتية كثيراً، وتنوعت أساليب كتابة وتدوين تجارب الذات، وقد تداخل هذا الشكل الفني مع الأجناس الأدبية الأخرى. ولعل ذلك التفاعل أكثر وضوحاً في تمظهرات السيرة داخل السرد الروائي، وهذا ما يفسرُ إسقاط ما يأتي في السياق الروائي على المؤلف. وعندما يكشفُ المبدعون جانباً من كواليس مؤلفاتهم الروائية تتضحُ صحة القراءة الإسقاطية ولو نسبياً؛ بمعنى أنَّ النص الروائي لا يتمُ طبخه بعيداً عن تجارب حياتية عاشها المؤلف، أياً يكن مستوى حضور الذات في العمل الروائي، فإنَّ المؤكد هو تسرب الخبرات الشخصية إلى متون الأعمال الأدبية. والحال هذه، فإنَّ مجال المراوغة يزداد نتيجة وجود مساحات وتقنيات مشتركة بين الرواية والسيرة الذاتية، ولا يمانع بعض المبدعين في الحديث عن أوجه توظيف الخبرات في المشروع الروائي. وهذا ما تراه لدى كل من الروائي المغربي بنسالم حميش والروائية الفلسطينية سحر خليفة، فالأخيرة أوردت في إطار سيرتها المعنونة بـ«روايتي لروايتي - سيرة ذاتية أدبية» مقاطعَ من أعمالها الروائية دعماً لما تسردهُ حول معاناة شعبها، وبذلك تكون للرواية وظيفة توثيقية، إذ قد يتعمقُ النص في مسارب معتمة كاشفاً الموجهات غير المرئية في الالتفاف حول بعض القيم السائدة، ناهيك من مشاكسة الرواية لخطوط حمراء، ما يفتحُ باب الجحيم على النص وصاحبه. وبدوره، يتناولُ بنسالم حمِّيش في سيرته الموسومة «الذات بين الوجود والإيجاد» حيثيات كتابة عمله الروائي الأول «مجنون الحكم»، وكانت نواته قد ولدت شعرياً، إذ نظمَ بنسالم قصيدة عن حياة أغرب خليفة شهده تاريخ العرب، والمقصود أبو علي بن المنصور، لكنه أدرك أنَّ حياة الحاكم بأمر الله يضيقُ بها النص الشعري، لذا يستعيد الكاتبُ سيرة هذه الشخصية في إطار الرواية، فيما لاحظت صاحبة «الصبار» منذ البداية أنَّ وقائع حياتها وتجارب شعبها المعقدة المُتشابكة لا تغطيها سوى الرواية، وكانت قراءاتها في الأدب الوجودي وروايات دوستويفسكي وتولستوي قد زادتها وعياً بخصائص هذا الفن.

الوعي الإبداعي
تعترف سحر خليفة بأنها كانت تخجل من الحديث عن معاناتها الشخصية وهمومها الذاتية الخاصة في الإطار الروائي، ولم تجد في ذلك ما تستحقُ اهتماماً وتأملاً، رغم ما ذاقته من المرارة في حياتها الأسرية ورحلتها إلى ليبيا، حيثُ يمعنُ الزوجُ في التنكيل بها، وهذا الواقع المختنق في الغربة يكونُ عاملاً رئيساً وراء قرار الانفصال، والبحث عن مصير مختلف. أما الرواية لدى مؤلف «جرحى الحياة» فهي، إضافة إلى كونها منصة لرصد العلاقات الإنسانية والمجتمعية، إطار يتحققُ من خلاله تشكيل الوعي بالبعد الجمالي للحياة. وبرأي بنسالم، لا يتمُ الانتقال من البداوة إلى الحضارة الفاعلة إذا غاب هذا البعد. أكثر من ذلك، يرى الكاتبُ أن تاريخ كتابة الرواية انطبع عبر فتراته المختلفة بالبنية السوسيوثقافية والآيدولوجية السائدة. وفي هذا السياق، يشيرُ بنسالم حميش إلى ضرورة التشبع بثقافة الرواية، من خلال الاهتمام بمؤلفات المبدعين الكبار. إذن، فإنَّ تأسيس المشروع الروائي يتطلبُ وعياً بتاريخ هذه الصنعة، وتواصلها مع مختلف الفنون الإبداعية. ومن هذا المنطلق، يعبرُ بنسالم عن رأيه حول وفرة الإصدارات الروائية المستقاة مادتها من سيرة مؤلفها، وشحة المعرفة بالسيرورة الثقافية والقيمية. فبنظره، من يكتفي بين الروائيين بتحويل سيرته الخاصة أو حتى المتخيلة، يقصي نفسه من سجل الأدب الروائي. ويستشهد هنا برأي إيكو صاحب «اسم الوردة» الذي يقولُ إن 90 في المائة من العمل الروائي ينجز بعرق الذات. ومما يتقاطع فيه الاشتغال الإبداعي لدى سحر خليفة وبنسالم حميش استفادة الاثنين من الخبرة الأكاديمية في كتابة العمل الروائي، إذ إن ما تراكم لدى الأخير حول حياة ابن خلدون، خلال انكبابه على أطروحة الدكتوراه في العهد الوسيط المتأخر في بلدان المغرب، كان بمثابة حجر زاوية لروايته «العلامة». كما أنَّ الانطباعات والأجواء التي تكتشفها سحر خليفة في أميركا، ومراقبتها لشكل حياة المواطنين العرب في المهجر، كل ذلك يصبح مادة لروايتها المعنونة بـ«الميراث»، وهي تكتبها كجزء من أطروحة الدكتوراه، ومن ثمَّ تقومُ بصياغتها لاحقاً في القالب الأدبي، وما قصة دنيا التي تبدأ بها الرواية إلا حصيلة معايشتها لواقعة تتبلور من خلالها بعض أفكارها النسوية.

تفكيك
ليس الغرض من كتابة السيرة سرد ظروف النشأة أو الحديث عن الروافد المعرفية أو الإفصاح عن معلومات كانت طي الكتمان فحسب، بل إلى جانب ذلك يكونُ النقدُ ركناً أساسياً لدى من يشرع بنشر سيرته الذاتية، إذ يهمُ المتكلم مراجعة المواقف أو تفكيك الأسس التي ينهضُ عليها النظام السياسي والاجتماعي، كما يبدو ذلك بوضوح في سيرة سحر خليفة، حيثُ تضعنا أمام واقع يرسف بقيود العقلية الذكورية، حيث تصطدمُ الكاتبة بمهيمناتها في بيئتها الأسرية والمجتمعية. فكانت بداية المعاناة مع نزوج الوالد حتى لا يوصم بأنَّه مقطوع، إذ لم تنجب زوجته الأولى غير البنات، وبالتالي لقبت بأم البنات، وهذا اللقب كما تقول سحر خليفة كان شتيمة في ذلك الزمن. وعليه، فإنَّ نشأة الكاتبة في واقع متخم حتى العظام بقيم ذكورية أثارت لديها أسئلة بشأن هوية الذات، ودورها في مجتمع تسوده نظرة دونية للمرأة، ومن هنا تهربُ سحر خليفة إلى الكتابة والألوان.
والأهم هو تشريح سحر خليفة للفئة المثقفة ومواقفها المُتناقضة، وانفصال المثقفين عن هموم المواطن العادي. وحسب ما يردُ في مفاصل الكتاب، فإنَّ المثقف لا يوظفُ عدته الفكرية لتسويغ تقلباته السياسية فحسب، إنما يستفيد من معجمه الشعاراتي لتلبية رغباته الغرائزية. وملمحُ آخر من هذا الكتاب هو المقارنة بين العقليتين العربية والغربية استناداً إلى معاينة الوسط الثقافي. وفي هذا السياق، تعودُ مؤلفة «عباد الشمس» إلى ما ذكره مواطنها هشام شرابي في «الجمر والرماد» للإبانة عن مظاهر البؤس الفكري والثقافي. ومن جانبه، يتخذُ بنسالم حميش مسلكاً انتقادياً في سيرته، إذ يناقشُ سلوكيات الدعاة الفرانكوفونيين، وازدواجية سياسة البلدان الغربية التي تتصرف بإيحاء التركة الاستعمارية. وهذا لا يعني التنكر للمبادئ والقيم الإنسانية التي تمخضت من مسيرة أقطاب الثقافة الغربية، أمثال ماركس وكانط وسارتر وأندريه مالرو وميشيل دي مونتاين، بل يشكلُ إرث هؤلاء المفكرين والفلاسفة عنصراً بارزاً في تكوين شخصية بنسالم الثقافية. ومن الملاحظ فيما يسردهُ الكاتبُ في سيرته الاهتمام بالبعد الفكري والمصادر التي أسست لانطلاقته الثقافية والفكرية. وما يتضمنهُ الكتاب من الإحالات والاقتباسات يوحي أيضاً بثقافة بنسالم حميش التراثية. وما يشد الانتباه أكثر في هذا الإطار سجالات بن سالم مع مجموعة من المثقفين العرب، ومخالفته لمنهجهم الفكري، علماً بأنه كان معجباً ببعض من يجادلهم، وهذا ما يؤكدُ أهمية عملية التحرر من نماذج مكرسة، وهو يحتاج إلى عقلية جدلية نافذة.
* كاتب كردي عراقي



محاولة يائسة لترميم منزل مهدم

صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي
صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي
TT

محاولة يائسة لترميم منزل مهدم

صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي
صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي

حين كتبت في الصيف الفائت عن البيوت التي لم تعد ملاذاً لساكنيها، والتي تبحث عبثاً عمن يعصمها من هول الحروب وحممها المتساقطة، لم تكن المواجهة مع العدو في لبنان قد تحولت إلى منازلة مفتوحة ومنعدمة الضوابط والمعايير. وإذا كان المنزل الذي وُلدتُ فيه مع الأشقاء والشقيقات لم يصب حتى ذلك الحين بأذى مباشر، فقد بدت الكتابة عن المنازل المهدمة أشبه بالتعويذة التي يلجأ إليها اليائسون للتزود بحبال نجاة واهية، كما بدت من بعض وجوهها تضليلاً للكوابيس المستولدة من هواجس الفقدان، شبيهة بالمناديل الحمراء التي يستخدمها المصارعون في الحلبات، لصرف الثيران عن هدفها الحقيقي.

على أن خوفي المتعاظم من فقدان المنزل العائلي الذي ولدت تحت سقفه القديم بُعيد منتصف القرن الفائت، لم يكن ضرباً من القلق المرَضي أو الفوبيا المجردة؛ بل كانت تسنده باستمرار مجريات المواجهة الدائمة مع العدو، وهو الذي نال في كل حرب سلفتْ حصته من التصدع ونصيبه من الدمار. صحيح أن قريتي زبقين التي أنتمي إليها بالولادة والنشأة، لا تقع على الخط المتاخم للحدود الفلسطينية الشمالية، ولكن الصحيح أيضاً هو أن المسافة الفاصلة بين القرية الواقعة إلى الجنوب الشرقي من مدينة صور، والمطلة من الأعلى على المتوسط، لا تتجاوز الكيلومترات العشرة، بما يجعلها في المرمى الأشد هولاً للنيران الإسرائيلية المتجددة مع كل حرب.

وإذا كانت للجمال تكلفته الباهظة، ولكل نعمة نقمتها المقابلة، فقد كان على زبقين أن تدفع الضريبتين معاً، ضريبة جمالها الأخاذ، وهي المترعة بالأودية والأشجار والتفتح المشمس للأيام، والمحاطة بأرخبيل الينابيع المتحدرة من أعالي الجليل الفلسطيني، والضريبة الموازية لجغرافيا الأعالي التي تجعلها مثاراً لاهتمام العدو، ودريئة نموذجية لتسديد غضبه وأحقاده. ولأن منزل العائلة هو الأعلى بين بيوت القرية، فقد كان عليه مع كل حرب تقع، أن يتلقى النصيب الأوفر من القذائف، بحيث أخذت المواجهة غير المتكافئة بين مواقع العدو وطائراته المغيرة، وبين جدران المنزل العزلاء، طابع المواجهة الثنائية والصراع «الشخصي».

والآن وأنا أقف على ركام المنزل الذي أسقطته للمرة الثانية صواريخ الطائرات، أتلفت بشغاف القلب باتجاه الماضي، وأشعر أن في ذلك البيت الذي نشأت بين جنباته، نوعاً من حبل السرة الغامض الذي يربطني على الدوام بنواتي الأولى، ويحوِّل كتابتي برمتها إلى تحلُّق دائم حول أطيافه وأصدائه وظلاله التي لا تغرب. أقول ذلك وأنا أحاول أن أنتشل من بين الأنقاض، أطياف النسخة الأولى من المنزل الذي ولدتُ وترعرعت لسنوات سبع تحت سقفه الطيني، قبل أن يستبدل به أبي نسخة إسمنتية أخرى تتواءم مع تطلبات ذريته الآخذة في التكاثر في أواخر خمسينات القرن المنصرم. ولعل أكثر ما أتذكره من ملامح العالم القديم، هو الحضور الضدي لأشيائه وكائناته. ففي حين كانت الشموس تسلط على أديم النهارات كل ما أوتيتْه من سطوع، فتضيء بشكل مبهر ملاعب الماضي وفراشات الحقول، وأزهار البابونج المنتشرة على سطح الحياة الطيني، تكفلت الليالي الأشد حلكة بتوفير مؤونتي من الأشباح؛ حيث الموجودات لم تكن تكف في ضوء السراج الخافت، عن مضاعفة أحجامها الأصلية وظلالها المتراقصة على الجدران. وفي حين أن شجرة الدراق المزروعة في فناء المنزل الخارجي، هي أكثر ما أتذكره من حواضر النباتات، فإن الأصوات المختلفة لحشرات الليل وعواء حيواناته الأليفة والبرية، كانا يختلطان بأزيز الرصاص الذي يخترق بشكل غامض ستائر الظلمات، والذي عرفت فيما بعد أنه رصاص المواجهات المتقطعة التي كانت تشهدها جرود الجنوب، بين رجال الدرك وبين الطفار المطلوبين للعدالة والخارجين على القانون.

وإذا كانت النسخة الأولى من البيت قد تعرضت للإزالة لأسباب تتعلق بضيق مساحته وهشاشة سقفه الطيني وتزايد أفراد العائلة، فإن النسخة الثانية التي تعرضت للقصف الإسرائيلي الشرس على القرية عام 2006، هي التي ترك تعرُّضها للإزالة والهدم، أبلغ ندوب النفس وأكثرها مضاضة وعمقاً، فذلك المنزل الإسمنتي على تواضعه وقلة حجراته، هو الذي احتضن على امتداد أربعة عقود، كل فصول الطفولة والصبا وبدايات الكهولة. صحيح أنني نأيت عن البيت، تلميذاً في مدارس صور، وطالباً جامعياً في بيروت، ومن ثم مقيماً بين ظهرانيها في فترة لاحقة، ولكنني لم أكف عن العودة إليه في مواسم الصيف وأيام العطل المتعاقبة، بما جعله خزاناً للذكريات، تتراوح دائرته بين تفتح الشرايين وقصص الحب الأولى وأعراض الكتابة المبكرة، والطقوس الدورية المتعاقبة لمواسم التبغ.

ومع وصول المدة الزمنية الفاصلة بين هدم البيت وإعادة بنائه إلى حدود السنتين، فإن أبي المثخن بآلام النزوح والفقد، لم يعد قادراً آنذاك على احتمال بقائه في مدينة صور أكثر من شهور قليلة، ليقرر بعدها العودة مع أمي إلى القرية، والإقامة في أحد المنازل القريبة، بانتظار اكتمال بيته الجديد. وقد ألح الوالد المتعب على أخي الأصغر بالإقامة في الطابق العلوي للمنزل، لكي يخفف عنه وطأة المرض وأوزار الشيخوخة، قبل أن يقضي سنواته الأخيرة محاطاً بأبنائه وأحفاده وعلب أدويته وأضغاث ماضيه.

الآن وأنا أقف على ركام المنزل الذي أسقطته للمرة الثانية صواريخ الطائرات... أتلفت بشغاف القلب باتجاه الماضي

كان على أمي بعد ذلك أن تتولى وحيدة زمام الأمور، وهي التي تصغر أبي بعقد من الزمن، ولذلك لم يكن يشغلها في السنوات التي أعقبت غيابه أكثر من تمثيل دوره بالذات، كما لو أنها كانت تحاول من خلال التماهي مع زوجها الراحل، إقناع نفسها بأنها وجهه الآخر وامتداده الرمزي في المكان والمكانة والدور، وأنها قادرة على تعويضنا كل ما خسرناه من مشاعر الرعاية والأمان وصفاء الدهر. وهو ما بدت تعبيراته جلية تماماً من خلال تحويل شرفة المنزل الذي ضاعفت مقتنياته وتفننت في تجميله وزينت جدرانه باللوحات، إلى مسرح دائم للقائها بمن تحب من أفراد عائلتها وجيرانها الأقربين.

غير أن أي كتابة عن المنزل المهدم، لا يمكن أن تستقيم دون الإشارة إلى ازدحام محيطه وزواياه بأصناف كثيرة من النباتات والورود التي كانت تتعهدها أمي بالعناية والحدب، بحيث كان مرور يديها على تراب الأحواض، كافياً بحد ذاته لأن تنهض من تلقائها شتلات الحبق وسيقان المردكوش وأقلام الزهور. ومع أن الأمراض المتفاقمة لم تكف عن مداهمتها بشكل مطرد إثر رحيل الأب، فإن تعلقها بالنباتات لم يتراجع منسوبه بأي وجه؛ بل إنها على العكس من ذلك، راحت توسع دائرة مملكتها النباتية لتطول منزلاً قديماً مجاوراً لبيت العائلة، كانت قد أقنعت أبي بشرائه، قبل أن تُحوِّل واجهته الأمامية بشكل تدريجي إلى جدارية من الورود، بات يقصدها الكثيرون في وقت لاحق، بهدف التقاط الصور أو المتعة البصرية المجردة. في أواخر سبتمبر (أيلول) من عام 2023، وقبيل اندلاع «طوفان الأقصى» بأيام قليلة، رحلت أمي عن هذا العالم، إثر مغالبة قاسية مع مرض سرطان الدم. وبعدها بعام كامل كان البيت ذو الطوابق الثلاثة، ومعه حائط الورود المجاور، يتعرضان للانهيار تحت القصف الذي لا يرحم لطيران العدو. ومع أنها لم تكن على يقين كامل بأن المملكة الصغيرة التي رعتها بالأهداب وحبة القلب، ستؤول بعد غيابها إلى ركام محقق، فقد بدا رحيلها عن تسعة وثمانين عاماً، بمثابة استباق داخلي غامض للكارثة القادمة، ونوعاً من عقدٍ رضائي بينها وبين الموت. أما البيت المخلع الذي بقرت الصواريخ جدرانه وأحشاءه، فما زال ينكمش على نفسه، متحصناً بما تبقى له من مدَّخرات المقاومة، قبل أن يوقِّع بأكثر أنواع الدموع صلابة وكبرياء على وثيقة استسلامه.