انعدام العدالة الاقتصادية في سرد تاريخي... بلا نظرية

أستاذ الاقتصاد الفرنسي بيكتي يعود بـ«رأس المال والآيديولوجيا»

انعدام العدالة الاقتصادية في سرد تاريخي... بلا نظرية
TT

انعدام العدالة الاقتصادية في سرد تاريخي... بلا نظرية

انعدام العدالة الاقتصادية في سرد تاريخي... بلا نظرية

لا شيء ماركسيّاً في كتاب توماس بيكتي، أستاذ الاقتصاد الفرنسي - 48 عاماً -، الذي صدر عام 2014 بعنوان «رأس المال في القرن الحادي والعشرين». لكنّه، وعلى عادة الكتب التي تحمل في عنوانها شيئاً عن رأس المال فلا مناص من ارتباطها بكارل ماركس المفكر الألماني الشهير وكتابه الأهم «رأس المال»، ولهذا كان انطباع الكثيرين الأوليّ بأن هذا المجلّد الضخم لبيكتي (600 صفحة) تجديدٌ عصريّ في تحليل الرأسماليّة ونقدها. لكنّه كان أقرب إلى محاولةٍ ليبراليّةٍ لإصلاحها عبر البحث عن منهجٍيّة - مستندة إلى معطيّات (غربيّة) رقميّة متراكمة خلال آخر قرنين - للحدّ من تفاقم عدم العدالة الاقتصاديّة التي أصبحت وكأنّها لازمةٌ بنيويةٌ من معالم النّظام الاقتصاديّ الحر. وفي هذا السيّاق يكون رأس المال بيكتياً أقرب إلى معطى إحصائيّ منه إلى لاعب أساس ومحرّك عجلة التاريخ كما هو حال النظريّة الماركسيّة مثلا.
حظي «رأس المال في القرن الحادي والعشرين» بعد صدوره باهتمام واسع، وقرضه قطاع عريض من أكاديميي المؤسسة الليبراليّة، وتسلّق أرقام الكتاب الأكثر مبيعاً في غير ما بلد، فيما ارتقى مؤلفه إلى مصاف النّجوم بعد أن كان طوال سنين أكاديمياً لا يكاد يسمع عنه أحد خارج دائرة تخصصه الفنيّ الدّقيق. فهو قدّم في أجواء ما بعد الأزمة الماليّة العالميّة عام 2008 نوعاً من تفسير مدعم بقراءات إحصائيّة مثيرة للتّفاوت الذي ما زال يتفاقم بين الثّروات والأجور ويدفع ضمنياً إلى مستويات انعدام عدالة قد تفتح البوابات لكثير من الشرور وعدم الاستقرار، وطرح مخرجاً تقنياً لكسر الدّائرة المفرغة عبر إدارة فاعلة للسّياسات الضريبّية على الدّخول والميراث معتمداً الخبرة الأمريكيّة في فضاء عقدي خمسينات وستينات القرن الماضي عندما وصلت نسب الاستحقاق من الضرائب إلى مستوى الـ80 في المائة للفئات العليا.
بيكتي عاد مجدداً إلى ساحة الجدل اليوم بـ«رأس المال والآيديولوجيا». كتابٌ أكثر طموحاً في الشكل كما المضمون: 1100 صفحة، وقراءة تاريخيّة للعالم بعيون رأسماليّة من عصور ما قبل بدايات الإقطاع إلى احتجاجات السترات الصفر الأخيرة في فرنسا، مروراً بمراحل اقتصاد العبوديّة والكولونياليّة، مع تغطية جغرافيّة أبعد من أوروبا - نحو الصّين وروسيا والهند والبرازيل - لكنّ هذا الطّموح يبدو مفتقداً بشدّة إلى نظريّة تربط ما بين الحقب التّاريخيّة والتّجارب المُتفاوتة لتستخلص نوعاً من قانون يمكن الاعتماد عليه في تفسير المُعاصر وتوقّع المستقبل، فكلّ الذي نصل إليه بعد 1700 صفحة - بين الكتابين - سجل تاريخيّ لتفاوت في الدّخول والثروات تتسبب به سياسات مرحليّة مؤدلجة مستنداً إلى معادلة بسيطة تقول بأن انعدام العدالة الاقتصاديّة يزداد ما دام العائد على رأس المال أكبر من زيادة الأجور. ومع ذلك، فلا أحد ينكر عليه موهبته الأدبيّة الفائقة لناحية توظيف المعطيات الإحصائيّة لرسم صور غاية الإمتاع عن المراحل التاريخيّة المتلاحقة كحلقات منفصلة متتالية.
يخصص بيكتي في تغطيته لمرحلة الرأسماليّة المتأخرة خلال الأربعين سنة الأخيرة هامشاً أقل لتغوّل رأس المال مقابل توسّع في سرد أحداث سقوط الآيديولوجيات الاشتراكيّة التقدميّة، ملقيّاً باللّوم على فشل الشيوعيّة في ما يراه انتشاراً لمناخ من عدم التفاؤل بقدرة العمل السياسيّ على تحقيق عدالة أفضل للجميع. ويجادل بأنّ العولمة - وما ارتبط بها من تراجع لسيادات الدّول الوطنيّة - أدّت إلى تضاعف غير مسبوق من انعدام العدالة الاقتصادية لمصلحة أقليّة معولمة ثريّة ثراء فلكيّاً مرتبطة بنخب محليّة متورّمة، على حساب الأكثريّة التي إن لم تتراجع مداخيلها فعلياً فهي فقدت قدرتها الشرائيّة، كما سقط مئات الملايين من البشر في الفقر المدقع.
نهايةً فإن مقاربة بيكتي أخلاقيّة محضة: انعدام العدالة الاقتصاديّة مسألة مجافيّة للشرعيّة، وإنّ أغلبيّة ساحقة عبر الحقب التاريخيّة والجغرافيّات تتفق على إيجابيّة توزيع الثّروة بين أكبر عدد ممكن من المواطنين، فيما وُظّفت الآيديولوجيّات دائماً أداة للتّحايل على هذا المنطق وحرفه لفائدة أقليّات مهيمنة، ولذا فإن التقدّم الاقتصادي للبشريّة مرهون بهزيمة تلك الآيديولوجيّات الرجعيّة لمصلحة سياسات عقلانيّة راشدة تفرض نظاماً ضرائبيّاً يضمن عودة الثّروة (رأس المال) إلى المجتمع. والبديل من ذلك سيكون، وفق بيكتي دائماً، تعديلاً قاسياً تفرضه تحولات مفصليّة حدثت في القرن العشرين مرّتين فقط: الحربان العالميّان (1914 - 1918) و(1939 - 1945) اللتان فرضتا على الحكومات - بعد ما تسببتا به من دمار واسع - تبني سياسات ضريبّية تقدّميّة الطابع ساعدت خلال سنوات على استعادة توازن مفقود بين من يملكون ومن لا يملكون وأنتجت ازدهارا اقتصادياً ملحوظاً عزز الاستقرار السياسي لمجتمعات ما بعد الحرب.
بيكتي اللّيبرالي المزاج وكأنّه في «رأس المال والآيديولوجيا» يعود أدراجه إلى الفكر الاقتصادي الكينزي (الذي يدعم تدخّل الدّولة بإدارة قطاعات معينة من الاقتصاد لتحسين مستويات العدالة الاقتصادية) وهو يفترض وجود كتلة عاقلة في المجتمع تمتلك نحواً من فضاء عام ديمقراطيّ يسمح بالوصول إلى سياسات عادلة اقتصاديّة بشأن الثروة والأجور من خلال تبادل المعلومات والحقائق المدّعمة بالأدّلة، في إطار مجتمع واسع التعليم، تتوفر لديه بشفافيّة بيانات إحصائيّة كافية لاتخاذ قرارات منطقيّة. ولذلك، فقد اعتبره كثيرون طوباوياً متفائلاً غارقاً في التّنظير الاقتصاديّ، يريد جنّة اشتراكيّة بلا المرور في وعثاء الصراع الطبقيّ، ودون التجرؤ على الاقتراب من تقديم حلّ للمعضلة الفلسفيّة الخالدة بشأن إمكان تحقق الحكم الرشيد في ظلّ تعارضه مع مصالح النخب الحاكمة، عندما يكون انتظار الحروب كمخرج من الأزمة وصفة دمار مكلفة ماديّاً وبشريّاً لا سيّما بعد امتلاك بعض الدّول ترسانات أسلحة نووية وهيدروجينيّة كافيّة لتدمير الكوكب عدّة مرّات. لكنّ الأهم من ذلك كلّه أنه يرسل من خلال «رأس المال والآيديولوجيا» نذيراً لا خلاف عليه: استمرار فجوة انعدام العدالة الاقتصاديّة بالاتساع أمر لا يمكن الاستمرار في تجاهله، ولسوف يمنح الشرعيّة للسياسيين الشعبويين للقفز على السلطة وإقصاء النخب الليبراليّة الكلاسيكيّة من مقاعد النفوذ والتأثير، وهو ما حدث على الأرض بالفعل في غير ما بلد غربيّ لتنقسم نخبها الحاكمة بين فئة المتمولين المؤيدين لسياسة الأسواق المفتوحة، في مواجهة فئة أصحاب الثقافة التي تنتقد عجز النّظام (المتموّل) عن تحقيق العدالة وتسعى إلى بناء قلاع محروسة من الاقتصادات الوطنيّة التي تمنح مواطنيها - الأصليين - مساواة في فرص كسب الثروة وتحصيل التعليم.
لا يمتلك بيكتي نظريّة متماسكة في مواجهة التاريخ كما كان ماركس مثلاً في «رأس المال»، فيما لم تعد تجربة الاتحاد الأوروبيّ - الأقرب عاطفيّاً إلى مؤلفنا - مقنعة لأحد فيما يبدو بشأن كفاءة النظم المعاصرة على توظيف مناهج أكثر عقلانيّة عند تصميم السياسات واتخاذ القرارات، بدلاً من أجواء التناحر والتنافس السياسيّ المستدام في إدارة شؤون القارة - لا سيّما بعد التّجارب الحزينة لشعوب اليونان وإسبانيا كما «بريكست» البريطاني مع الاتحاد - والتي أصبحت مثار تندّر وسخريّة بعد الفشل الظاهر له في دعم الدّول الأعضاء الذين مسّهم ضرّ وباء «كورونا».
وللحقيقة فإن «رأس المال والآيديولوجيا» مع كل الانتقادات الموجهة إليه يظلّ مع ذلك عملاً لا يمكن إهماله كإنجاز تقنيّ أكاديميّ غير مسبوق، ودفاعا بليغا عن قدرة المعلومات والحقائق والمعطيّات الاجتماعية المتراكمة على منح البشريّة - ولو نظريّاً - مخارج ممكنة من سلسلة الأزمات الرأسماليّة التي لا تتوقف، ورهان - مجازف مسرف في التفاؤل - على قدرة العقل الجمعي الخضوع لمنطق الأدلّة في إدارة النّظم الاقتصادية والسعي نحو إقصاء انعدام العدالة من المجتمعات.



بكين تتهم أوروبا بفرض «حواجز تجارية غير عادلة»

سيدة تتسوق في أحد المتاجر بمدينة ليانيونغانغ شرق الصين (أ.ف.ب)
سيدة تتسوق في أحد المتاجر بمدينة ليانيونغانغ شرق الصين (أ.ف.ب)
TT

بكين تتهم أوروبا بفرض «حواجز تجارية غير عادلة»

سيدة تتسوق في أحد المتاجر بمدينة ليانيونغانغ شرق الصين (أ.ف.ب)
سيدة تتسوق في أحد المتاجر بمدينة ليانيونغانغ شرق الصين (أ.ف.ب)

قالت الصين الخميس إن تحقيقاتها في ممارسات الاتحاد الأوروبي وجدت أن بروكسل فرضت «حواجز تجارية واستثمارية» غير عادلة على بكين، مما أضاف إلى التوترات التجارية طويلة الأمد.

وأعلنت بكين عن التحقيق في يوليو (تموز)، بعدما أطلق الاتحاد تحقيقات حول ما إذا كانت إعانات الحكومة الصينية تقوض المنافسة الأوروبية. ونفت بكين باستمرار أن تكون سياساتها الصناعية غير عادلة، وهددت باتخاذ إجراءات ضد الاتحاد الأوروبي لحماية الحقوق والمصالح القانونية للشركات الصينية.

وقالت وزارة التجارة، الخميس، إن تنفيذ الاتحاد الأوروبي للوائح الدعم الأجنبي (FSR) كان تمييزاً ضد الشركات الصينية، و«يشكل حواجز تجارية واستثمارية». ووفق الوزارة، فإن «التطبيق الانتقائي» للتدابير أدى إلى «معاملة المنتجات الصينية بشكل غير موات أثناء عملية التصدير إلى الاتحاد الأوروبي مقارنة بالمنتجات من دول أخرى».

وأضافت بكين أن النظام لديه معايير «غامضة» للتحقيق في الإعانات الأجنبية، ويفرض «عبئاً ثقيلاً» على الشركات المستهدفة، ولديه إجراءات غامضة أنشأت «حالة من عدم اليقين هائلة». ورأت أن تدابير التكتل، مثل عمليات التفتيش المفاجئة «تجاوزت بوضوح الحدود الضرورية»، في حين كان المحققون «غير موضوعيين وتعسفيين» في قضايا، مثل خلل الأسواق.

وأوضحت وزارة التجارة الصينية أن الشركات التي عدّت أنها لم تمتثل للتحقيقات واجهت أيضاً «عقوبات شديدة»، الأمر الذي فرض «ضغوطاً هائلة» على الشركات الصينية. وأكدت أن تحقيقات نظام الخدمة المالية أجبرت الشركات الصينية على التخلي عن مشاريع أو تقليصها، ما تسبب في خسائر تجاوزت 15 مليار يوان (2,05 مليار دولار).

وفي سياق منفصل، تباطأ التضخم في أسعار المستهلكين في الصين خلال شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، فيما واصلت أسعار المنتجين الانكماش وسط ضعف الطلب الاقتصادي.

وألقت عوامل، تتضمن غياب الأمن الوظيفي، وأزمة قطاع العقارات المستمرة منذ فترة طويلة، وارتفاع الديون، وتهديدات الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب فيما يتعلق بالرسوم الجمركية، بظلالها على الطلب رغم جهود بكين المكثفة لتحفيز القطاع الاستهلاكي.

وأظهرت بيانات من المكتب الوطني للإحصاء، الخميس، أن مؤشر أسعار المستهلكين ارتفع 0.1 في المائة الشهر الماضي على أساس سنوي، بعد صعوده 0.2 في المائة في نوفمبر (تشرين الثاني) السابق عليه، مسجلاً أضعف وتيرة منذ أبريل (نيسان) الماضي. وجاءت البيانات متسقة مع توقعات الخبراء في استطلاع أجرته «رويترز».

وظل مؤشر أسعار المستهلكين ثابتاً على أساس شهري، مقابل انخفاض بواقع 0.6 في المائة في نوفمبر، وهو ما يتوافق أيضاً مع التوقعات. وارتفع التضخم الأساسي، الذي يستثني أسعار المواد الغذائية والوقود المتقلبة، 0.4 في المائة الشهر الماضي، مقارنة مع 0.3 في المائة في نوفمبر، وهو أعلى مستوى في خمسة أشهر.

وبالنسبة للعام ككل، ارتفع مؤشر أسعار المستهلكين 0.2 في المائة بما يتماشى مع وتيرة العام السابق، لكنه أقل من المستوى الذي تستهدفه السلطات عند نحو ثلاثة في المائة للعام الماضي، مما يعني أن التضخم أخفق في تحقيق الهدف السنوي للعام الثالث عشر على التوالي.

وانخفض مؤشر أسعار المنتجين 2.3 في المائة على أساس سنوي في ديسمبر، مقابل هبوط بواقع 2.5 في المائة في نوفمبر، فيما كانت التوقعات تشير إلى انخفاض بنسبة 2.4 في المائة. وبذلك انخفضت الأسعار عند بوابات المصانع للشهر السابع والعشرين على التوالي.

ورفع البنك الدولي في أواخر ديسمبر الماضي توقعاته للنمو الاقتصادي في الصين في عامي 2024 و2025، لكنه حذر من أن أموراً تتضمن ضعف ثقة الأسر والشركات، إلى جانب الرياح المعاكسة في قطاع العقارات، ستظل تشكل عائقاً.