الكتابة... في مواجهة الانتحار

مبدعون يستعيدون اللحظة الحرجة عبر أعمالهم وتجاربهم

الكتابة... في مواجهة الانتحار
TT

الكتابة... في مواجهة الانتحار

الكتابة... في مواجهة الانتحار

ماذا يفعل المبدع حين ينخفض سقف الحياة، ويصل إلى حافة لحظة حرجة يتفاقم فيها الإحساس باللاجدوى، ويصبح كل شيء على شفا الانتحار؟ في هذا التحقيق يتحدث كتاب وشعراء عن تجربتهم مع تلك اللحظة الحرجة، وكيف واجهوها بالكتابة حتى أصبحت طوقاً للخلاص والنجاة لهم من هذه المحنة.

سيد الوكيل (روائي مصري): تطهير من الحزن
كان لوفاة أبي أثره النفسي السيئ عليّ، خاصة أني عشت معه تفاصيل مرضه قبل الموت، وقضيت معه أربعين يوماً في المستشفى، أتابع حالته الصحية، وأراه كل يوم وهو في حالة سيئة، وتأثرت بما يعانيه. بعد وفاته، أصبت بحالة اكتئاب، وتصورت أن الكتابة قد تطهرني من الحزن والوجع، وأنها قد تخلصني من إحساس بذنب على خطأ قد أكون اقترفته يوماً في حق أبي وأمي. وبالفعل، كتبت رواية «الحالة دايت» التي صدرت في عام 2012.
في الرواية، قدمت رؤيتي عن الموت، وحملتها بقدر كبير من البوح، إذ يعد الفصل الأول منها كتابة ذاتية، وكنت أتصور أن الكتابة عن وجعي قد تطهرني، لكن اكتشفت أن العكس صحيح، فالكتابة تثبت الشعور الداخلي، وتقويه في ذات المبدع، لأنها تجعلني أعيش التجربة مرة أخرى بكل تفاصيلها، وعند العودة مرة أخرى لما كتبته بعد مرور وقت، وقراءة ما كتبته، يداهمني الإحساس ذاته الذي كنت فيه ساعة الكتابة بكل وجعه وتفاصيله.

نورا ناجي (روائية مصرية): بديل للانتحار
بدايتي مع الكتابة كان السبب فيها رغبتي في الهرب من التفكير في الانتحار؛ كنت مصابة باكتئاب ما بعد الولادة، وأعيش في بلد غريب بعيد، لا أتحدث لغته ولا أعرف شوارعه، وحيدة جداً ومحبطة. وفي لحظة كنت جالسة على مقعد خشبي في حديقة، وخلفي جبل ضخم بدا وكأنه جاثم على صدري، قررت أن أكتب، فكتبت رواية «الجدار» في عام 2014.
في العام التالي، انفصلت عن والد ابنتي، وعدت إلى مصر مع طفلة صغيرة؛ كنت مرتبكة غير متوازنة. ويبدو أن نشر الرواية في عام 2016 أنقذني من هذا التخبط؛ شعرت بأنني قمت بإنجاز ما، وبدا وكأني تطهرت نفسياً من كل إحباطاتي وفشلي، لكن الاكتئاب لم يختفِ، كان يعود في نوبات قاسية؛ كتبت من قبل أنني كدت أقفز من شرفة البيت، ولم يمنعني سوى حبال الغسيل الممتدة، وخوفي من أن تعيقني عن السقوط، وفي اللحظة نفسها وقفت طفلتي خلفي تغني لي وتخبرني أنها تحبني، بكيت كثيراً جداً وقررت الذهاب للطبيب النفسي.
تمارين الكتابة مع الطبيب جعلتني أعود مرة أخرى لنسج رواية، فكتبت «بنات الباشا» التي نشرت في 2018. والحقيقة أنها كانت حزينة جداً، لكن في الوقت نفسه أسدت لي من جديد خدمة التطهير النفسي، والتخلص من المخاوف والإحباطات. الكتابة تنقذني في كل مرة أشعر فيها أنني فرغت من الحياة أو استسلمت، الكتابة تمنحني طاقة للعودة والمحاربة من جديد؛ يعني الكتابة تحييني من دون أي مبالغة.

موسى حوامدة (شاعر فلسطيني): الهروب من مسلسل {كورونا}
بسبب ظروف الحجر في مصر، وعدم قدرتي على السفر بعد إغلاق كل شيء، شعرت بالاختناق والضيق، وبات لا مناص من السجن الاختياري أو الإجباري لا فرق، بت لا أميز بين الليل والنهار. نعم، سبق أن سُجنت أكثر من مرة، وعشت مرارة الحبس الانفرادي، لكن ذلك حدث في وقت سابق، كان الجسد والروح ربما أقوى على التحمل، أما الآن لن أقول أني فكرت بالانتحار، لكني وصلت إلى حافة الكآبة، خاصة أنه لم يكن أمامي سوى متابعة الأخبار عبر التلفزيون التي تعزف كلها على الوتر نفسه للمرض والموت، فحفظت المذيعين والمحللين، وإحصائيات انتشار المرض، وأعداد الموتى، وكدت أجن، لدرجة وصلت معها إلى اليأس وفقدان الأمل.
وفي هذه الأثناء، تذكرت الكتابة، لكني شاعر، والشعر لا يحل الأزمة، فالقصيدة تأتي مرة واحدة وتنتهي، فذهبت لإعادة النظر فيما كنت كتبته من سيرتي الذاتية منذ سنوات بعيدة، وكنت أركن ذلك لقادم الأيام، قلت لعل نجاتي هنا في إعادة النظر ليس فيما كتبت، بل فيما لم أكتب، وبدأت بالفعل منذ أيام أكتب مقدمة للسيرة، فصارت المقدمة مادة جديدة لا بد أن تتصدر الكتاب، أو لعلها تأخذ منحى آخر. فعلاً، الكتابة أنقذتني من الجنون والهم والغم، ومن متابعة مسلسل كورونا، فالكتابة هي قارب نجاة من المرض النفسي أو الكآبة، وحتى الانتحار، ولولاها لانفجرت غيظاً.

سونيا بو ماد (روائية لبنانية): رحمة من السماء
في لحظات انعدام الثقة في الواقع والناس، لن تشغلنا النتيجة التي باعتقادنا لن تكون بأسوأ الاحتمالات من واقعنا على الأرض، لهذا نفكر في وقت ما بالانتحار مطمئنين أرواحنا بأننا أصحاب القرار الأخير حين تكون الحياة أشدّ قسوة مما نستطيع تحمله، وتلوح صرخة واحدة في أذهاننا: «سأجعلكم تندمون وتبكون وتحاسبون أنفسكم على وجعي، وإن كان ثمن هذا حياتي». لقد كنتُ واحدة من هؤلاء الأشخاص، حيث راودتني هذه المشاعر، لكني لم أستطع أن أكون أشدّ قسوة من الأرض وأهلها.
في عيادة الطب النفسي أحاول أن أشبه الأرض وأهلها، وأن أعاملهم بالمثل دون أن أموت، أحاول أن أتقن الكذب والتملق والتمثيل والقسوة، إن نجحت في ذلك سيبقى باب النهاية موصداً حتى إشعار آخر أقرره بنفسي، وإن لم أنجح حينها سيضاف اسم آخر إلى جانب فرجينا ولف وداليدا وآخرون كثُر ماتوا بصمت. لكني إلى الآن لم أنسَ رحمة السماء التي أعطتني بيدي الثانية مفتاحاً آخر، إنها الكتابة التي تراقص روحي وذاتي وكينونتي، أفتح بها باب السعادة والأمل، باب الرسائل في روايات قصيرة وطويلة، ومسرح، وروايات، وخواطر، وقصص أطفال لنبدأ بالإصلاح قبل ابتداء المشكلات.
أدخلتني الكتابة إلى عالم الطمأنينة الذي يختبئ بالقرب من باب النهاية، ما زلت أبكي بعد نهاية كل رواية، أبكي كي لا أعود إلى الواقع، إلى عالم يحكمني ولا أحكمه، ألملم شجاعتي وأبدأ بالكتابة من جديد، أبحث في دائرة أكبر وأوسع عن أناس تشبهني، تجد ما تبحث عنه في كتاباتي. أكتب عن القاتل وأحاكمه، أحتضن الزانية وأمنحها السلام، أقبض على السارق وأعطيه تلك الحلوى التي سرقها أول مرة ليتذوّقها.

أحمد إبراهيم الشريف (روائي مصري): وقود الكتابة
الكتابة ابنة الشعور، وليدة الحزن أو الفرح، كما أن الألم جزء أساسي منها لأنه يختصر معنى العالم في لحظة واحدة، وكم مرة كنت شاهداً على ألم قاسٍ وفقد موجع؛ رأيت أماً تفقد ابنها الوحيد وتقف لا تعرف ماذا تصنع في هذه الحياة الضنينة، وكتبت ذلك؛ هذا الألم هو وقود الكتابة.
في روايتي «طريق الحلفا»، اقتربت من حافة الموت، وهي ليست فكرة فلسفية فقط، لكن لها أصلاً في الواقع. كنت طفلاً صغيراً أسبح في النيل تحت الماء، وعندما طفوت برأسي كان مركب شراعي كبير قد اقترب مني، كاد يصطدم برأسي، وذلك يعني النهاية. وقتها، لم أشعر بالفزع، لقد استسلمت وانفتحت روحي على اتساعها من الرحابة، وانتظرت أن يلامسني قاع المركب الخشبي الثقيل، وفجأة جذبني أحدهم من ذراعي وأبعدني فارتعبت. ظل هذا الإحساس يسكنني، ولم يفارقني أبداً، لذا فإنني في رواية «طريق الحلفا» كتبت فصلاً بعنوان «مديح الموت»، كتبته بكل المشاعر التي في داخلي، بمعرفتي الكاملة أن ألم الموت ليس من نصيب الميت، لكنه من نصيب أحبابه.

عزة حسين (شاعرة مصرية): حياة بديلة
«لا تكتب الشعر إلا إذا كنت تشعر أنك ستموت إذا لم تفعل»... أتوقف كثيراً أمام تلك الجملة، متسائلة هل كان ريلكة يدرك أنه يقترح على الشاعر الشاب الشعرَ كحياة بديلة، كنجاة، أو وصفة شفاء مجربة. أذكر أنني امتثلت لهذه النصيحة ضمنياً قبل خمسة عشر عاماً، لم أكن قد قرأت ريلكة، ولا التقيت أحداً من مريديه، ولم تكن مدارس التداوي بالفن والرقص والكتابة مطروحة كما هو الحال الآن، ولا أعرف كيف نبت الشعر خياراً منافساً للانتحار، وكيف صمد حتى اكتمل بين يدي ديواني الأول في قصيدة النثر «على كرسي هزاز» التي كانت وقتها خياراً فنياً جديداً بالنسبة للطالبة التي كنتها.
صدر لي من بعده ديوانان: «ما لم يذكره الرسام» و«من شرفة موازية لشريط قطار»، لكنني إلى وقت قريب كنت كلما اضطررت لمعاودة قراءته أو بعض قصائده، وتذكرت كيف كنت أفكر أو أشعر وقت كتابتها، أوقن أن بإمكان الشعر أن يجعلك تتأمل حياتك كناجٍ. المشكلة هي عندما تؤمن أنت بذلك، عندما تتأكد أن الشعر -الإبداع عموماً- هو نفسه الألم الذي لا معنى للحياة من دونه، كما يقول شوبنهاور، فلا تطيق وجودك في غيابه، خاصة إذا كنت من هؤلاء الذين لا يكتبون إلا إذا شعروا بأنهم سيموتون إن لم يفعلوا! للأسف الذين اقترحوا الكتابة بصفتها علاجاً لم يقترحوا علاجاً لحبسة الكتابة، حيث تنتظر من كل صفحة بيضاء أن تمنحك الأمل بنجاة جديدة.

عماد غزالي (شاعر مصري): الكتابة فعل مقدس
في تجربتي الخاصة مع الكتابة، اختبرت لحظات كثيرة جعلتني أعيد توصيف لحظة الألم، فهي أشبه بعملية جراحية يجريها الوعي المختبئ لذاته، نستخرج عبرها جمرة ملتهبة من الأعماق، كنا قبل الكتابة لا نعرف صفتها أو مكانها، نعرف فقط مقدار الألم ووقع تصاعده. وإذا شارفت الكتابة رحابة الإبداع، فإنها تتجاوز كونها بوحاً أو تطهراً أو تنفيساً عن نواتج المعاناة، لتصبح شكلاً من الخلق والفاعلية وإعادة تشكيل وعي الذات بنفسها وبالعالم، ولست أشك في أن كثيراً ممن بدأوا بالكتابة بصفتها بوحاً وعلاجاً للألم استطاعوا عبر المثابرة الوصول لمنطقة الإبداع، تلك التي لا تكتفي بالعبور من حال إلى حال، لكنها تنزع إلى الخلق والتبصر والرؤية الحقة. قد لا يحيط أي وصف بالمعنى الحقيقي للكتابة لأنها فعل مقدس وسر من الأسرار الكبرى، كالحياة والحلم والميلاد والموت.

شاكر عبد الحميد (أستاذ علم نفس الإبداع): تطهير الذات
الكتابة أحد أساليب مواجهة الألم وإخفاقات لحياة، وهي بديلة للانسحاب والانطواء والأمراض النفسية، وطريقة للعلاج، بصفتها وسيلة للوجود وتحقيق الذات، وممارستها تخفض الإحساس بالتوتر، والتجارب في هذا السياق تثبت أن لها آثاراً إيجابية كثيرة، نظراً لقدرتها على تطهير الذات من الوجع والألم، فالإبداع في عمومه منقذ من الهلاك والاكتئاب. أما مهاجمة الاكتئاب للمبدع مرة أخرى بعد انتهائه من الكتابة، فمسألة نسبية تختلف من شخص لآخر، فقد يشعر بعضهم بعد إنجاز مهمة الكتابة بفراغ وخواء يعيده إلى ما نطلق عليه اكتئاب ما بعد الكتابة، خاصة أنه فترة الكتابة كان محتشداً بالطاقة والأحلام، يكرس جهده وتفكيره في إنجاز مهمته الإبداعية، ثم بعد الانتهاء يشعر بعودته لنقطة البداية، وهناك آخرون يتخلصون من الاكتئاب تماماً بالكتابة حتى بعد الانتهاء منها.



هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟
TT

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

هل تعيد الثقافة الرقمية تشكيل الجغرافيا السياسية؟

شكل سقوط الحكومة البلغارية قبل أيام، عقب استقالة رئيس الوزراء روزين جيليازكوف، نقطة ارتكاز إضافية في فهم شكل مستجد من التحولات الاجتماعية العالمية. فالحدث في الخاصرة الأوروبيّة جاء تتويجاً لسلسلة مترابطة من الهزات السياسية التي ضربت خلال عامنا الحالي جنوب آسيا وعمق القارة الأفريقية ليصل تالياً إلى البر الأوروبي، مشكّلاً ما يمكن الزعم بأنه ظاهرة عالمية موحدة يقودها «الجيل زد»، خلافاً للنظريات الاجتماعية التقليدية التي وصفت هذا الجيل (مواليد 1997 - 2012) بالهشاشة النفسية وقصر مدى الانتباه بسبب إدمان «تيك توك» ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى.

العالم على بوابة الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين أمام مشهد يُعيد فيه هؤلاء الشبان - الذين نشأوا في ظل أزمات اقتصادية طاحنة وانهيار للعقود الاجتماعية، ولم يعد لديهم وهم الإصلاح التدريجي الذي آمن به آباؤهم - تعريف مفاهيم السلطة والشرعية والعدالة، مستخدمين البنية التحتية الرقمية ساحةً رئيسية للفعل العام، ونسق تحرك سياسي وثقافي جديد؛ ما دفع دولاً قلقة مثل إسرائيل إلى تدشين ما أسمته «الجبهة الثامنة» لمحاولة هندسة عقول هذا الجيل تقنياً بعد أن عجزت عن إقناعه سردياً.

الحراك الشبابي في جنوب وجنوب شرق آسيا جاء ليملأ الفراغ الذي خلفته القوى التقليدية. في دول مثل بنغلاديش، سريلانكا، نيبال وإندونيسيا، غابت التيارات اليسارية والتقدمية المنظمة عن المشهد، سواء بسبب التصفية التاريخية كما حدث في إندونيسيا، أو الانغماس في الفساد كما في نيبال، أو التآكل بسبب النزعات القومية في سريلانكا. في ظل هذا الغياب للقنوات السياسية المعتادة تحولت منصات التواصل الاجتماعي مثل «تيك توك» و«إنستغرام» في هذه المجتمعات «نظام تشغيل» بديلاً للحياة السياسية، وتجاوز الشبان بواسطتها مرحلة التنسيق الميداني إلى مرحلة فرض سردية بصرية على الحدث. فبدلاً من الصور الصحافية التقليدية، تناقلت وكالات الأنباء لقطات ومقاطع فيديو منقولة عن وسائل التواصل الاجتماعي لمتظاهرين يحتلون غرف نوم الرؤساء أو يقتحمون المقار الحكومية؛ ما أسس لقواعد اشتباك بصرية جديدة. هذه المشاهد قرئت بوصفها تحذيراً في الكثير من العواصم عن سقوط آت لهيبة السلطات التقليدية أمام غضب الجوع والبطالة عند الأجيال الجديدة، وتهديداً وجودياً للأنظمة السياسية القائمة.

في القارة الأفريقية، بدا أن هذه التحولات اكتسبت زخماً إضافياً بفضل العامل الديموغرافي، حيث بمتوسط عمر يبلغ 19 عاماً تمتلك القارة كتلة حرجة من الشباب الجاهز للانفجار السياسي. وكشفت الأحداث الأخيرة في كينيا، مدغشقر والمغرب عن ديناميكيات جديدة للاقتصاد السياسي لغضب الجيل الطالع هناك. إذ يعمل أغلب هؤلاء الشباب في قطاعات غير رسمية؛ ما يحررهم من سطوة الدولة البيروقراطية وقدرتها على الابتزاز الوظيفي. وتميزت هذه التحركات بـلا مركزية مطلقة، حيث غياب القيادة الهرمية جعل من المستحيل على الأجهزة الأمنية إجهاض الحراك عبر اعتقال الرؤوس؛ لأن الجميع قادة ميدانيون يمتلكون أدوات البث والتوثيق. وعززت هذه الحالة شعوراً معولماً بـالتضامن الرقمي، حيث يستلهم الشبان عبر الحدود تكتيكاتهم وشجاعتهم من نجاحات أقرانهم في الدول الأخرى.

لم تقتصر الحراكات على دول الجنوب في العالم الثالث، بل قدمت بلغاريا - أفقر دول الاتحاد الأوروبي - دليلاً آخر على فاعلية نهج السياسة الشبكية. فرغم أن «الجيل زد» يشكل نسبة محدودة من السكان، نجح الشباب البلغاري في كسر حالة مديدة من الجمود السياسي التي فرضت 7 انتخابات في 4 سنوات، وانتقل عبر تحويل منصات الترفيه قنواتٍ للتثقيف والتعبئة السياسية من خانة اللامبالاة إلى خانة الفاعل المرجح. لقد أثبتت الحالة البلغارية بشكل حاسم أن القدرة على الحشد الرقمي المكثف يمكنها إسقاط حكومات حتى في قلب أوروبا، متجاوزة بذلك القنوات الحزبية والبرلمانية التقليدية التي أصابها التكلس والشلل.

ثمة قوى كثيرة استشعرت الخطر من هذا النموذج الجديد، وتحديداً إسرائيل، التي قررت، في مواجهة انهيار التأييد العالمي لها بسبب حرب الإبادة في غزة، الانتقال من نموذج البروباغاندا التقليدية إلى هندسة البنية التحتية للمعلومات، وهو ما توّج بإعلان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فتح «الجبهة الثامنة» التي تركز كلياً على الفضاء الرقمي.

ولإسرائيل أن تقلق بالفعل، فقد كشفت البيانات عن أن المحتوى المؤيد لفلسطين على منصة «تيك توك» وحدها يتفوق بفارق هائل (17 ضعفاً) عن المحتوى المؤيد لإسرائيل؛ ما انعكس تحولات جذرية في نظرة الجيل الجديد لمشروع الدولة العبرية مقارنة بجيل آبائهم.

ولمواجهة هذا «الطوفان الرقمي»، اعتمدت تل أبيب حزمة استراتيجيات تقنية ومالية مكثفة لاستعادة زمام المبادرة الافتراضية، بما في ذلك التعاقد مع شركات متخصصة لضخ محتوى مصمم خصيصاً لاختراق وعي «الجيل زد»، ودفع مبالغ طائلة للمؤثرين لتبني الرواية الرسمية الإسرائيلية، وإنشاء محتوى يهدف إلى التأثير على مخرجات نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي.

ولعل الأخطر في هذا السياق هو التوجه نحو السيطرة على المنصة ذاتها. يُعدّ الدفع باتجاه استحواذ تحالف يقوده لاري إليسون (مؤسس عملاق التكنولوجيا «أوراكل» المزود الرئيسي لخدمات البيانات والمراقبة للأجهزة الأمنية وأحد كبار المانحين للجيش الإسرائيلي) على عمليات «تيك توك» في الولايات المتحدة، خطوة استراتيجية تهدف إلى امتلاك مفاتيح الخوارزمية. تمثل رؤية إليسون القائمة على المراقبة الشاملة وتحليل البيانات لضمان «حسن السلوك» تحولاً نحو عسكرة الفضاء الرقمي على نحو يتيح تحويل المنصات من ساحات للتعبير الحر إلى أدوات للضبط والمراقبة، بما يكفل وأد الروايات المعارضة قبل انتشارها.

هذه التطورات تضعنا أمام مفترق طرق تاريخي. إذ ثبت أن «الجيل زد»، من آسيا إلى أوروبا مروراً بأفريقيا، يمتلك القدرة على تفكيك الأنظمة القديمة وتجاوز الحدود الجغرافية لبناء تضامن عالمي. في المقابل، تسعى التحالفات بين الحكومات وشركات التكنولوجيا الكبرى إلى إعادة هندسة الإنترنت ليصبح أداةً للسيطرة والتحكم في تدفق المعلومات، وتفريغ وسائل التواصل الاجتماعي من إمكاناتها في دحض السرديات الاستعمارية وتعرية «الحقائق» المصنعة.

ولذلك؛ فإن التحدي الجوهري القادم للحراكات الشبابية لم يعد مقتصراً على قدرتها في تحويل «ثورة الغضب» الرقمية إلى مؤسسات سياسية مستدامة تملأ الفراغ بعد سقوط الحكومات، وتمنع انزلاق بلادها نحو الفوضى أو عودة الديكتاتوريات بأقنعة جديدة، بل تعداه إلى الفضاء السيبيري، حيث سيحتدم الصراع بين من يملك الحق في رواية القصة، ومن يملك القدرة على حجبها.

إنها لحظة فاصلة: فإما أن ينجح شبان الجيل الجديد في ابتكار نظام سياسي جديد لا مركزي يتناسب مع ثقافتهم الرقمية، أو تنجح استراتيجية «الجبهة الثامنة» في تحويل هواتفهم الذكية من أدوات للتحرر والفعل السياسي إلى أجهزة تعقب وتوجيه، ليعيشوا في ديكتاتورية خوارزمية ناعمة، يختارون فيها ما يشاهدون، لكنهم لا يختارون ما يُعرض عليهم.


إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية
TT

إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

إطلاق  معجم الدوحة التاريخي للغة العربية

تزامناً مع اليوم العالمي للغة العربية، أُقيم أمس في قاعة كتارا بمدينة لوسيل القطرية حفل اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، برعاية أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وتنظيم المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات.

والمعجم يوثق جميع ألفاظ اللغة العربية توثيقاً تاريخيًّا، ويرصد معانيها منذ أول استعمال لها في النصوص المكتوبة، أو النقوش المكتشفة، ويتتبع تطوّر هذه المعاني في سياقاتها التاريخية، اللغوية، والمصطلحية. وشمل أكثر من 300 مدخل معجمي، وعشرة آلاف جذر لغوي، ومدونة نصية تتجاوز مليار كلمة.

وانقسم العمل في المعجم إلى ثلاث مراحل رئيسة. في المرحلة الأولى تم تناول ألفاظ اللغة العربية من أقدم نص مكتشف إلى العام 200 للهجرة، وقد استغرق العمل فيها خمس سنوات، منذ انطلاق المشروع في 2013 وحتى العام 2018.

وشملت المرحلة الثانية ألفاظ اللغة العربية من 201 للهجرة إلى العام 500، وقد بدأ العمل فيها منذ العام 2019، واستمر حتى العام 2022.

وتم في المرحلة الثالثة تناول الألفاظ من 501 هجرية حتى آخر استعمال حديث لها.

في 10 ديسمبر (كانون الأول) 2018، أعلن عن انتهاء المرحلة الأولى من المشروع، وإطلاق البوابة الإلكترونية، وإتاحتها لكافة المستخدمين، وتضمنت معلومات إضافية عن المعجم، وخصائصه، ومصادره، ومادته، ومنهجية بنائه، والتجارب، والمحاولات التي سبقت معجم الدوحة التاريخي للغة العربية. بالإضافة إلى قرارات المجلس العلمي مرتبة ترتيباً موضوعياً، والدليل المعياري للمعالجة المعجمية، والتحرير الذي يتضمن الضوابط العلمية والمنهجية المرعيّة في بناء المعجم. كما تتضمن أسماء جميع الذين شاركوا في إنجاز المعجم من أعضاء المجلس العلمي، وأعضاء الهيئة التنفيذية، ومنسقي الفرق المعجمية، والمحررين، والمراجعين، وخبراء النقوش والنظائر السامية، والتأثيل، وأعضاء الفريق التقني، والمستشارين. وتتضمن البوابة دليلاً مفصلاً للاستعمال يحتوي على شرح مفصل مصور لكيفية التسجيل في البوابة، والاستفادة من الخدمات التي تقدمها.

وتتيح البوابة الإلكترونية للمستخدمين البحث داخل المعجم إما بالجذر للحصول على المادة المعجمية بأكملها، بمبانيها، ومعانيها، ومصطلحاتها، مرتبة تاريخياً، مع ألفاظها المستخلصة من النقوش، ونظائرها السامية، وإما بالبحث بالكلمة الواحدة.

وكذلك البحث في مصادر العربية الممتدة من القرن الخامس قبل الهجرة إلى نهاية القرن الرابع للهجرة، وتوفر خيار البحث البسيط، والبحث المتقدم.

وتشكّل المجلس العلمي لمعجم الدّوحة التاريخي للغة العربية من مجموعة من كبار المختصين اللغويين، والمعجميين من مختلف الدول العربية.


حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع
TT

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

حين حذر العقاد من الأدب المصنوع

يركز عباس محمود العقاد (1889 - 1964) في كتابه «مطالعات في الكتب والحياة»، الذي أصدرت الهيئة المصرية لقصور الثقافة طبعة جديدة منه، على أهمية النظرة الجماعية للأدب بين التسلية والعمق والدلالات الخطيرة التي تكمن وراء طبيعة نظرة شعب من الشعوب له، وفق هذا المنظور أو ذاك.

ويؤكد العقاد أن اعتبار الأدب أداة لهو وتسلية هو الذي يصرفه عن رسالته العظيمة في فهم النفس البشرية والتعبير الصادق عن الحياة، وغيرهما من عظائم الأمور، ويسقطه في هوة البطالة والفراغ، فينشر حالة من اللامبالاة تجاه الذات والآخرين: «فماذا يُرجى من الفراغ غير السخف والسطحية في النظر للأشياء، فضلاً عن لهو الحديث وافتقاد المعنى؟ وبالتالي يصغي إليه الناس حين يصغون كأنما يستمعون إلى طفل ينطق الكلمات بخطأ مضحك، ويلثغ بالألفاظ المحببة إلى أهله، فلا يحاسبونه على كذب، ولا يطالبونه بطائل في معانيه، ولا يعولون على شيء مما يقوله».

ويذكر العقاد أنه إذا بالغ الأديب في مدح أو هجاء، أو جاوز الحد في صفة من الصفات؛ فمسح الحقائق، ونطق بالهراء، وهذر في تصوير جلائل أسرار الحياة، وخلط بين الصواب والخطأ... غفروا له خطأه وقالوا: لا عليه من بأس، أليس الرجل شاعراً؟ ولو أنصفوا لقالوا: أليس الرجل هازلاً؟ وإنهم ليقولونها لو اقترحتها عليهم، ولا يرون بينها وبين الأولى فرقاً؛ لأن الهزل والشعر هما في عرف هؤلاء الناس شيئان بمعنى واحد، ما دام الأدب أداة لهو وتسلية!

ومن شاء التحقق والتثبت من ذلك في تواريخ الآداب، بحسب العقاد، فليرجع إلى تاريخ الأدب في لغتنا العربية، ولينظر في أي عهد هبط بقوة. إنه لم يهبط ولا كثرت عيوبه في عهد الجاهلية، ولا في عهد الدولة الأموية، ولكنه هبط وتطرق إليه كثير من عيوب اللفظ والمعنى في أواسط الدولة العباسية؛ أي في العهد الذي صار فيه الأدب هدية تُحمل إلى الملوك والأمراء لإرضائهم وتسليتهم ومنادمتهم في أوقات فراغهم، وكان أول ما ظهر من عيوبه الشطط والمبالغة والطي والنشر والتوشيع وسائر ما تجمعه كلمة «التصنّع». وهذه العيوب التي تجتمع في هذه الكلمة هي في الإجمال الحد الفارق بين الأدب المصنوع والأدب المطبوع، وما نشأ شيء منها إلا حين تحول إلى أداة تستهدف إرضاء فئة خاصة.

ويتابع العقاد: «هكذا كان الشأن في اللغات كافة، فإن انحطاط الآداب في جميع اللغات إنما كان يبدأ في عصور متشابهة هي في الغالب العصور التي يعتمد فيها الأدب على إرضاء طائفة محدودة، يعكف على تملقها والتماس مواقع أهوائها العارضة وشهوات فراغها المتقلبة، فتكثر فيه الصنعة والافتعال وتقل الموهبة، فيضعف وينحدر إلى حضيض الابتذال، ثم يجمد على الضعف والإسفاف حتى تبعثه يقظة قومية عامة، فتُخرجه من ذلك النطاق الضيق إلى أفق واسع منه وأعلى لاتصاله بشعور الأمم على العموم»، لافتاً إلى أن «هذا ما حدث في الأدب الفرنسي في أعقاب عهد لويس الرابع عشر حين شاعت فيه الحذلقة وغلبت التورية والجناس والكناية وغيرها من عيوب الصنعة، ثم بقي على هذه الحال من الضعف والسقوط حتى أدركته بوادر الثورة الفرنسية، فانتشلته من سقوطه بعد اتصاله بشعور الأمة مباشرة دون وساطة الطوائف المتطرفة. وبالتالي يجب أن يفهم أبناء هذا الجيل والأجيال أن الأمم التي تصلح للحياة وللحرية لا يجوز أن يكون لها غير أدب واحد، وهو الأدب الذي ينمي في النفس الشعور بالحرية والحياة».