«يساريو الصالونات» هل كانوا غطاء «الإسلام السياسي» في المشهد السعودي؟

أكثر من 10 أعوام من التحالفات عبر «البيانات السياسية»

«يساريو الصالونات» هل كانوا غطاء «الإسلام السياسي» في المشهد السعودي؟
TT

«يساريو الصالونات» هل كانوا غطاء «الإسلام السياسي» في المشهد السعودي؟

«يساريو الصالونات» هل كانوا غطاء «الإسلام السياسي» في المشهد السعودي؟

ينتهي الكثير من حكايات المشهد السياسي - الثقافي في السعودية، كنهاية قصة «ريما الجريش»، منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، والقصة لمن لا يعرفها، هي أن «ريما الجريش» قدمت في الفضاء الحقوقي العام السعودي كـ«ناشطة حقوقية»، كونها عضوا فيما عرف باسم جمعية «حسم للحقوق المدنية والسياسية». الجريش انتهت في مرابع «داعش»، مرورا بتنظيم القاعدة في اليمن، هذه التنظيمات الإرهابية التي باتت تنمو بعد موجة «الربيع العربي»، كما ينمو العشب في الخرائب. ولكن تحت أي غطاء تسرب منظرو «داعش» و«القاعدة» و«الإخوان المسلمين»، وغيرها من حركات «الإسلام السياسي» المتطرف إلى المشهد السعودي؟ للحراك المعرفي في السعودية بشقيه التنويري والرجعي، أكثر من زاوية للرصد، لكن قد يكون أوضحها «البيانات السياسية»، التي تواترت في العقد الأخير، حاملة «ملامح آيديولوجية» من خلال مصطلحاتها ومضامينها والموقعين عليها.
في أوائل التسعينات كان الجميع يتهامسون في المشهد المحلي عن بزوغ نجم «مشايخ حركيين» يتبنون شعار «إخراج المشركين من جزيرة العرب» كموقف سياسي من تدخل المجتمع الدولي في تحرير الكويت من قبضة نظام صدام حسين.
كان الدكتور سلمان العودة، والدكتور سفر الحوالي، والدكتور ناصر العمر، مدعومين بمجموعة من «مشايخ الظل» من غير السعوديين، كانوا هم الرعيل الأول من مشايخ «الصحوة» الحركيين الذي اصطلح عليهم بـ«السروريين».
قادوا في حينها معظم الهجمات على المفاهيم التحديثية والتنويرية المتعلقة بالمرأة وبقية أساسيات المجتمع المتحضر من فن وثقافة واقتصاد وسياسة، وقاموا بالتشجيع على حراك الشارع السعودي، الذي أثبت مرة تلو الأخرى أنه رغم «روحه المحافظة» إلا أنه غير مسيس دينيا.
تم تحجيم هذه الرؤى القادمة من العصور الوسطى الروحية. وقضى بعض قيادات هذا الحراك محكوميتهم خلف القضبان وغادروها للفضاء العام مرة أخرى. حتى جاءت لحظة فارقة في تاريخ المشهد الدولي بشكل عام، والمشهد السعودي بشكل خاص.
كانت تلك اللحظة هي سقوط برجي التجارة في نيويورك إثر عمل إرهابي، إذ حدث تطور نوعي على مستوى «الترميز» لهذه الشخوص الحركية التي تقود التيار تنظيريا وجماهيريا، وخصوصا مع انفتاح بعضها على خطاب اجتماعي أكثر تسامحا في حينه، وتبني قنوات تلفزيونية لهذا الخطاب، حتى غدوا «نجوم شباك» تتسابق عليهم وسائل الإعلام.
هذا التطور كان على مستويين، بدأ بإخراج سلمان العودة وموازييه من «الدعاة الجدد» من سلة رجل الديني التقليدي، وتحويله لرجل الدين «التنويري».. هذه الحقبة كانت أولى مخاطبات تيار الصحوة لـ«الأنتلجنسيا» السعودية من التيارات الأخرى.
اللافت أن «الدعاة الجدد» الذين استقطبوا بعض جمهوره معهم لتجربتهم الجديدة مع خلق قواعد اجتماعية وثقافية أخرى لها جمهورها، لم يكن على حساب ترك القواعد الشعبية القديمة في العراء الثقافي، بل ظلت رموز وشخوص دعوية تحتوي هذه القواعد المتطرفة أو على الأقل الأكثر المحافظة وتشددا منها، من أمثال الدكتور عبد العزيز الطريفي، والدكتور ناصر العمر، والدكتور محمد العريفي، وغيرهم.
هذا التحول الصحوي الذي بدأ التحرك على مستويين جماهيريين، كان بداية خروج تحالف من نوع مختلف إلى الضوء. كان بقايا «اليسار» بكل تفرعاته الكلاسيكية والحديثة قد عبروا لتوهم عقدا من الزمان من حالة التشظي بعد فشل المشروع الأممي «الشيوعي» وتبعه سقوط «المشروع الناصري القومي» بدوره.. كانت حقبة من الهزائم المتكررة لصالح مفاهيم الدولة القطرية.
تجلى هذا التبني لـ«يساري الصالونات» في أول البيانات السياسية المشتركة تحت عنوان «على أي أساس نتعايش» الموجه للمثقفين الأميركيين، والذي تشارك فيه رموز «الصحوة» من أمثال المشايخ ناصر العمر وسفر النحو وسلمان العودة، مع الدكتور خالد الدخيل، ومحمد سعيد طيب، والدكتور متروك الفالح، والشيخ المعمم حسن الصفار، وغيرهم.
والذي جاء فيه ما نصه: «ليس من العقلانية أن نفترض أن الذين هاجموا الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر لا يشعرون بنوع من المبررات الذاتية صنعتها فيهم ودفعتهم إليها القرارات الأميركية في مناطق عالمية متعددة، وإن كنا لا نرى واقعية هذه المبررات لضرب الأمن المدني، لكنه استقراء لنوع من العلاقة السببية بين الأحداث والسياسات الأميركية».
رغم أن هذا البيان تراجع عنه لاحقا الثلاثي الصحوي (العودة، الحوالي، العمر)، فإنه كان بداية لبيانات تالية تحت اسم الجهود «الإصلاحية»، وهو المصطلح الذي يميل برنته الصوتية إلى مفردات تيار «الإسلام السياسي»، فيما يحتمل بتنظيراته السياسية وتخريجاته الفلسفية شعارات بقايا «اليسار» ورموزه القادمون من مخيال الستينات الميلادية.
تلك لم تكن بوادر تغير محلي في علاقة «اليسار» مع خصومه (فكريا) من حركات «الإسلام السياسي»، بل في صورته الأكبر كان هذا التشكل السياسي جزءا من قصة تحالف على مستوى جغرافيا العالم العربي، وتلك قصة لا بد من المرور عليها قبل العودة للمشهد السعودي الراهن.

* القوميون والإسلاميون

* في عام 1989 عقدت في القاهرة أولى جولات الحوار القومي - الإسلامي وانتهت بـ«انتكاسة» تبعتها «انتكاسات» لكل محاولات التقارب الفكري بين منظري التيارات القومية ومنظري «تيارات «الإسلام السياسي» في الجهة المقابلة.
لاحقا، وصف الكاتب المصري فهمي هويدي هذه المحادثات بقوله: «كانت النتيجة أن المؤتمر (الذي عقد عام 2007 في الإسكندرية) لم يكن بمثابة خطوة إلى الأمام، ولكنه بدا خطوة إلى الوراء، عادت بمسار الحوار إلى ما كان عليه قبل عقدين من الزمان تقريبا».
المحاولة الأبرز الأخرى كانت في عام 1997 في بيروت تحت راية مركز دراسات الوحدة العربية، حيث كان يشهد صعود قوى الإسلام السياسي واحتماءها بقواعد شعبية واسعة النطاق، كان المؤتمرون من التيارات القومية، يعتقدون أن بإمكانهم تأجيل الجدال حول قطعية «علمانية» السلطة، النقاش الذي بدوره سينهي المؤتمر كسابقيه منذ عقدين.
بذل مركز دراسات الوحدة العربية مجهودا هائلا ونتاجا غزيرا في محاولة صناعة مقاربات فكرية تتيح لهذا التحالف، الانتقال من المستوى السياسي إلى الفكري.
إلا أن الواقع لاحقا فرض تحالفا محكوما بمعطيات الراهن السياسي أكثر منه تحالفا قائما على المراجعة الفكرية.
يقول الكاتب والباحث سعود السرحان: «يتقاطع بعض بقايا القوميين واليساريين مع جماعات الإسلام السياسي في كونهم يتشاركون الفكر الفوضوي الهدمي المعادي لكل البنى التقليدية، سواء كانت دينية أو سياسية أو اجتماعية، لذا فهم ينشطون بالعمل المشترك في أوقات الأزمات والاضطرابات».
على مستوى الحركات اليسارية الكلاسيكية، كان أشهر نموذج للتقارب السياسي مع «الإخوان المسلمين» على مستوى العالم العربي، المعارض السوري رياض الترك، الذي تقلد سابقا منصب الأمين العام الحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي) منذ تأسيسه في 1973.
على ذات النسق، نشطت ذات التقاربات السياسية في المغرب العربي، والتي ظهرت جلية مع «الربيع العربي»، والتي كان أشهر نماذجها وضحاياها المغدور شكري بلعيد، المعارض والمحامي اليساري التونسي الذي تم اغتياله بشكل مفاجئ. أشارت لاحقا تصريحات رسمية من الحكومة التونسية بضلوع بعض حركات «الإسلام السياسي» في مقتله. جدير بالذكر، أن بلعيد في ذات الوقت يعتبر أحد أشهر المحامين عن السلفيين التونسيين المسجونين على خلفية قضايا أمنية إبان فترة حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وما لحقها.
تلك كانت ملامح تشكلات سابقة في جانب, وعابرة في جانب آخر للحظة «الربيع العربي».

* ربيع «الأصولية».. الفجر الكاذب

* البيانات السياسية لـ«الصالونات الثقافية» في السعودية تتغذى على الدعاية الشعاراتية غالبا. فمن المنتديات الإلكترونية إلى «تويتر» المليء بعصافير السياسة المغردة.
في عام 2004 أصدر ذات المجاميع الثقافية، بيانا سياسيا تحت عنوان «نداء وطني إلى القيادة والشعب» قاده الدكتور عبد الله الحامد ذو الأدبيات الإسلامية القادم من خارج من خارج «المشيخة» الدينية التقليدية، مع الدكتور متروك الفالح، القادم من الخلفية «العروبية القومية»، إضافة للشاعر علي الدميني، صاحب المرجعية الفكرية اليسارية الكلاسيكية.
علق عليه الكاتب والباحث السعودي علي العميم وقتها في مقالة تحت عنوان «شكليات ليبرالية ومضمون أصولي» بقوله: «تقارب بين جمهرة من الإسلاميين وجموع من الليبراليين والقوميين واليساريين، نتج عنه قيام تحالف فيما بينهم، وكان هذا التحالف ذا طبيعة سياسية. فصدرت بيانات مشتركة، يكون البيان فيها إما بيانا للإسلاميين يشترك في التوقيع عليه قوميون ويساريون وليبراليون، وإما بيانا للقوميين ولليساريين، يشترك في التوقيع عليه إسلاميون وليبراليون».
ويزيد العميم في تعليقه: «يقول كاتب البيان، إن الموقعين يؤمنون بدورهم في قول كلمة الحق، بل واجبهم ومسؤوليتهم تجاه الميثاق الذي حملهم الله إياه في قوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه)، من أجل ذلك يقدمون أنفسهم على أنهم دعاة للمجتمع الأهلي المدني، ودعاة للإصلاح الدستوري معا». من هذا التعريف الديني الأخلاقي نفهم أن الموقعين على البيان أمناء على ميثاق إلهي، فحواه كلمة الحق التي تقتضي أن يصدعوا بدعوتهم ويجهروا برسالتهم. هذه الدعوة هي، دعوة المجتمع الأهلي المدني، وهذه الرسالة هي، رسالة الإصلاح الدستوري. كما نفهم أن غيرهم فعلوا كما فعل بنو إسرائيل بالميثاق الذي أخذه الله عليهم. تقول تتمة الآية التي استشهدوا بها «فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون». وأقل ما يقال في هذا التعريف إنه تعريف غير سياسي وغير عقلاني وغير واقعي وغير مدني. ومن النافل التذكير بأن القيم العقلانية والتصورات الواقعية من مداميك المجتمع السياسي المدني وأركانه.
مع تفجر موجات «الربيع العربي» عادت ذات المجاميع السياسية لإصدار بيان سياسي يطالب بإصلاحات دستورية. كان البيان يطالب بـ«حقوق المرأة» والموقعين عليه من أصدروا بيانا قبل عام يجرم الاختلاط، ويحرم عمل المرأة في محلات بيع الملابس النسائية. وكان موقعو البيان يطالبون بحرية المجتمع، بينما بعض الموقعين عليه سبق أن أعلنوا صراحة تبنيهم رفض أشكال الحداثة المدنية اجتماعيا، وفيما كان البيان يطالب بالعدالة الاجتماعية كان بعض موقعيه يصفون المواطنين من أبناء الطائفة الشيعية بـ«الروافض». جدير بالذكر أن أحد أبرز موقعي هذا البيان تنازل عن جنسيته السعودية لاحقا واستبدلها بالقطرية.
على نفس النسق، أفرز حراك «يساريي الصالونات» مع رموز «الإسلام السياسي، مجاميع صغيرة من الجيل الشاب «المغرد»، الذين يجلسون في أطراف هذه الصالونات، والمتبنين لنفس الأدبيات، وفي ذات التوقيت الذي كانت «أيقونة» وائل غنيم تلف العالم العربي، أصدروا بيانا مقسما في نقاط أقرب للتغريدات الانطباعية منها لبيان سياسي جاد.
يقول سعود السرحان: «بما أن الإسلاميين الحزبيين هم الأكثر تنظيما، خصوصا في دول الخليج العربي، فإن هؤلاء القوميين واليساريين ينضوون تحت عباءتهم. فأصبحت جمعياتهم الحقوقية شبيهة بحكومة الإخوان المسلمين في السودان بقيادة عمر الترابي، التي وفرت ملجأ لجماعة أبي نضال ولكارلوس ولأسامة بن لادن والجماعة الإسلامية. ومؤخرا هاجرت إحدى الناشطات في إحدى هذه الجمعيات الحقوقية المدنية في السعودية لتنضم لتنظيم داعش».
الهزائم التي مني بها الحراك «الإخواني» بمساندة الحقوقيين والأحزاب اليسارية، وانقلاب حكومة الدكتور مرسي الإخوانية على «رفاق الثورة» عكس بدوره حالة التشظي الذي عاشته المجاميع السعودية بدورها، والذي دفع بعض رموزها لمحاولات يائسة وأخيرة، بإصدار «خطابات مفتوحة» دفاعا عمن روج لهم على أنهم «معتقلو رأي»، وتم تداول قضاياهم بالأسماء مع الحث على الاعتصامات المطالبة بإخراجهم من السجون، إلى أن جاءت المفاجأة.
ظهر لتنظيم القاعدة الإرهابي في جزيرة العرب فيديو مصور على مدار ساعة من الزمن لأحد قادتها (إبراهيم الربيش)، داعيا إلى استغلال تأجيج العواطف تجاه «المعتقلين أمنيا»، الذي ظهر جليا في «تويتر» موقع التواصل الاجتماعي، ومباركة اعتصامات بريدة التي تطالب بإطلاق سراح أفراد من الفئة الضالة، بحسب وصف الداخلية السعودية ومن «المجاهدين»، بحسب الربيش، قائلا ما نصه: «وصيتي ألا تنتهي قضيتهم بالخروج من السجن، وإنما هم حملة رسالة، دخلوا السجن من أجل قضية، ويجب أن يخرجوا مدافعين عن هذه القضية، ومناضلين عنها، وحماة لها»، مضيفا: «المعتقلون يجب أن يستغلوا تعاطف الناس معهم ويحرضوهم على الجهاد في سبيل الله ويدعوهم إليه، يجب أن يتحولوا إلى دعاة».
4 أعوام قاربت على النهاية من عمر «الربيع العربي»، وعقد من البيانات السياسية الملتبسة المفاهيم، بدأت بالدعوة للحقوق المدنية برطانة حداثية، وانتهت ببعض رموز هذه المطالبات الذين انخرطوا وسط الحشود بمناداتهم بفهم «داعش» للحياة المدنية، والهجرة إليها.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.