ينتهي الكثير من حكايات المشهد السياسي - الثقافي في السعودية، كنهاية قصة «ريما الجريش»، منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، والقصة لمن لا يعرفها، هي أن «ريما الجريش» قدمت في الفضاء الحقوقي العام السعودي كـ«ناشطة حقوقية»، كونها عضوا فيما عرف باسم جمعية «حسم للحقوق المدنية والسياسية». الجريش انتهت في مرابع «داعش»، مرورا بتنظيم القاعدة في اليمن، هذه التنظيمات الإرهابية التي باتت تنمو بعد موجة «الربيع العربي»، كما ينمو العشب في الخرائب. ولكن تحت أي غطاء تسرب منظرو «داعش» و«القاعدة» و«الإخوان المسلمين»، وغيرها من حركات «الإسلام السياسي» المتطرف إلى المشهد السعودي؟ للحراك المعرفي في السعودية بشقيه التنويري والرجعي، أكثر من زاوية للرصد، لكن قد يكون أوضحها «البيانات السياسية»، التي تواترت في العقد الأخير، حاملة «ملامح آيديولوجية» من خلال مصطلحاتها ومضامينها والموقعين عليها.
في أوائل التسعينات كان الجميع يتهامسون في المشهد المحلي عن بزوغ نجم «مشايخ حركيين» يتبنون شعار «إخراج المشركين من جزيرة العرب» كموقف سياسي من تدخل المجتمع الدولي في تحرير الكويت من قبضة نظام صدام حسين.
كان الدكتور سلمان العودة، والدكتور سفر الحوالي، والدكتور ناصر العمر، مدعومين بمجموعة من «مشايخ الظل» من غير السعوديين، كانوا هم الرعيل الأول من مشايخ «الصحوة» الحركيين الذي اصطلح عليهم بـ«السروريين».
قادوا في حينها معظم الهجمات على المفاهيم التحديثية والتنويرية المتعلقة بالمرأة وبقية أساسيات المجتمع المتحضر من فن وثقافة واقتصاد وسياسة، وقاموا بالتشجيع على حراك الشارع السعودي، الذي أثبت مرة تلو الأخرى أنه رغم «روحه المحافظة» إلا أنه غير مسيس دينيا.
تم تحجيم هذه الرؤى القادمة من العصور الوسطى الروحية. وقضى بعض قيادات هذا الحراك محكوميتهم خلف القضبان وغادروها للفضاء العام مرة أخرى. حتى جاءت لحظة فارقة في تاريخ المشهد الدولي بشكل عام، والمشهد السعودي بشكل خاص.
كانت تلك اللحظة هي سقوط برجي التجارة في نيويورك إثر عمل إرهابي، إذ حدث تطور نوعي على مستوى «الترميز» لهذه الشخوص الحركية التي تقود التيار تنظيريا وجماهيريا، وخصوصا مع انفتاح بعضها على خطاب اجتماعي أكثر تسامحا في حينه، وتبني قنوات تلفزيونية لهذا الخطاب، حتى غدوا «نجوم شباك» تتسابق عليهم وسائل الإعلام.
هذا التطور كان على مستويين، بدأ بإخراج سلمان العودة وموازييه من «الدعاة الجدد» من سلة رجل الديني التقليدي، وتحويله لرجل الدين «التنويري».. هذه الحقبة كانت أولى مخاطبات تيار الصحوة لـ«الأنتلجنسيا» السعودية من التيارات الأخرى.
اللافت أن «الدعاة الجدد» الذين استقطبوا بعض جمهوره معهم لتجربتهم الجديدة مع خلق قواعد اجتماعية وثقافية أخرى لها جمهورها، لم يكن على حساب ترك القواعد الشعبية القديمة في العراء الثقافي، بل ظلت رموز وشخوص دعوية تحتوي هذه القواعد المتطرفة أو على الأقل الأكثر المحافظة وتشددا منها، من أمثال الدكتور عبد العزيز الطريفي، والدكتور ناصر العمر، والدكتور محمد العريفي، وغيرهم.
هذا التحول الصحوي الذي بدأ التحرك على مستويين جماهيريين، كان بداية خروج تحالف من نوع مختلف إلى الضوء. كان بقايا «اليسار» بكل تفرعاته الكلاسيكية والحديثة قد عبروا لتوهم عقدا من الزمان من حالة التشظي بعد فشل المشروع الأممي «الشيوعي» وتبعه سقوط «المشروع الناصري القومي» بدوره.. كانت حقبة من الهزائم المتكررة لصالح مفاهيم الدولة القطرية.
تجلى هذا التبني لـ«يساري الصالونات» في أول البيانات السياسية المشتركة تحت عنوان «على أي أساس نتعايش» الموجه للمثقفين الأميركيين، والذي تشارك فيه رموز «الصحوة» من أمثال المشايخ ناصر العمر وسفر النحو وسلمان العودة، مع الدكتور خالد الدخيل، ومحمد سعيد طيب، والدكتور متروك الفالح، والشيخ المعمم حسن الصفار، وغيرهم.
والذي جاء فيه ما نصه: «ليس من العقلانية أن نفترض أن الذين هاجموا الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر لا يشعرون بنوع من المبررات الذاتية صنعتها فيهم ودفعتهم إليها القرارات الأميركية في مناطق عالمية متعددة، وإن كنا لا نرى واقعية هذه المبررات لضرب الأمن المدني، لكنه استقراء لنوع من العلاقة السببية بين الأحداث والسياسات الأميركية».
رغم أن هذا البيان تراجع عنه لاحقا الثلاثي الصحوي (العودة، الحوالي، العمر)، فإنه كان بداية لبيانات تالية تحت اسم الجهود «الإصلاحية»، وهو المصطلح الذي يميل برنته الصوتية إلى مفردات تيار «الإسلام السياسي»، فيما يحتمل بتنظيراته السياسية وتخريجاته الفلسفية شعارات بقايا «اليسار» ورموزه القادمون من مخيال الستينات الميلادية.
تلك لم تكن بوادر تغير محلي في علاقة «اليسار» مع خصومه (فكريا) من حركات «الإسلام السياسي»، بل في صورته الأكبر كان هذا التشكل السياسي جزءا من قصة تحالف على مستوى جغرافيا العالم العربي، وتلك قصة لا بد من المرور عليها قبل العودة للمشهد السعودي الراهن.
* القوميون والإسلاميون
* في عام 1989 عقدت في القاهرة أولى جولات الحوار القومي - الإسلامي وانتهت بـ«انتكاسة» تبعتها «انتكاسات» لكل محاولات التقارب الفكري بين منظري التيارات القومية ومنظري «تيارات «الإسلام السياسي» في الجهة المقابلة.
لاحقا، وصف الكاتب المصري فهمي هويدي هذه المحادثات بقوله: «كانت النتيجة أن المؤتمر (الذي عقد عام 2007 في الإسكندرية) لم يكن بمثابة خطوة إلى الأمام، ولكنه بدا خطوة إلى الوراء، عادت بمسار الحوار إلى ما كان عليه قبل عقدين من الزمان تقريبا».
المحاولة الأبرز الأخرى كانت في عام 1997 في بيروت تحت راية مركز دراسات الوحدة العربية، حيث كان يشهد صعود قوى الإسلام السياسي واحتماءها بقواعد شعبية واسعة النطاق، كان المؤتمرون من التيارات القومية، يعتقدون أن بإمكانهم تأجيل الجدال حول قطعية «علمانية» السلطة، النقاش الذي بدوره سينهي المؤتمر كسابقيه منذ عقدين.
بذل مركز دراسات الوحدة العربية مجهودا هائلا ونتاجا غزيرا في محاولة صناعة مقاربات فكرية تتيح لهذا التحالف، الانتقال من المستوى السياسي إلى الفكري.
إلا أن الواقع لاحقا فرض تحالفا محكوما بمعطيات الراهن السياسي أكثر منه تحالفا قائما على المراجعة الفكرية.
يقول الكاتب والباحث سعود السرحان: «يتقاطع بعض بقايا القوميين واليساريين مع جماعات الإسلام السياسي في كونهم يتشاركون الفكر الفوضوي الهدمي المعادي لكل البنى التقليدية، سواء كانت دينية أو سياسية أو اجتماعية، لذا فهم ينشطون بالعمل المشترك في أوقات الأزمات والاضطرابات».
على مستوى الحركات اليسارية الكلاسيكية، كان أشهر نموذج للتقارب السياسي مع «الإخوان المسلمين» على مستوى العالم العربي، المعارض السوري رياض الترك، الذي تقلد سابقا منصب الأمين العام الحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي) منذ تأسيسه في 1973.
على ذات النسق، نشطت ذات التقاربات السياسية في المغرب العربي، والتي ظهرت جلية مع «الربيع العربي»، والتي كان أشهر نماذجها وضحاياها المغدور شكري بلعيد، المعارض والمحامي اليساري التونسي الذي تم اغتياله بشكل مفاجئ. أشارت لاحقا تصريحات رسمية من الحكومة التونسية بضلوع بعض حركات «الإسلام السياسي» في مقتله. جدير بالذكر، أن بلعيد في ذات الوقت يعتبر أحد أشهر المحامين عن السلفيين التونسيين المسجونين على خلفية قضايا أمنية إبان فترة حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وما لحقها.
تلك كانت ملامح تشكلات سابقة في جانب, وعابرة في جانب آخر للحظة «الربيع العربي».
* ربيع «الأصولية».. الفجر الكاذب
* البيانات السياسية لـ«الصالونات الثقافية» في السعودية تتغذى على الدعاية الشعاراتية غالبا. فمن المنتديات الإلكترونية إلى «تويتر» المليء بعصافير السياسة المغردة.
في عام 2004 أصدر ذات المجاميع الثقافية، بيانا سياسيا تحت عنوان «نداء وطني إلى القيادة والشعب» قاده الدكتور عبد الله الحامد ذو الأدبيات الإسلامية القادم من خارج من خارج «المشيخة» الدينية التقليدية، مع الدكتور متروك الفالح، القادم من الخلفية «العروبية القومية»، إضافة للشاعر علي الدميني، صاحب المرجعية الفكرية اليسارية الكلاسيكية.
علق عليه الكاتب والباحث السعودي علي العميم وقتها في مقالة تحت عنوان «شكليات ليبرالية ومضمون أصولي» بقوله: «تقارب بين جمهرة من الإسلاميين وجموع من الليبراليين والقوميين واليساريين، نتج عنه قيام تحالف فيما بينهم، وكان هذا التحالف ذا طبيعة سياسية. فصدرت بيانات مشتركة، يكون البيان فيها إما بيانا للإسلاميين يشترك في التوقيع عليه قوميون ويساريون وليبراليون، وإما بيانا للقوميين ولليساريين، يشترك في التوقيع عليه إسلاميون وليبراليون».
ويزيد العميم في تعليقه: «يقول كاتب البيان، إن الموقعين يؤمنون بدورهم في قول كلمة الحق، بل واجبهم ومسؤوليتهم تجاه الميثاق الذي حملهم الله إياه في قوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه)، من أجل ذلك يقدمون أنفسهم على أنهم دعاة للمجتمع الأهلي المدني، ودعاة للإصلاح الدستوري معا». من هذا التعريف الديني الأخلاقي نفهم أن الموقعين على البيان أمناء على ميثاق إلهي، فحواه كلمة الحق التي تقتضي أن يصدعوا بدعوتهم ويجهروا برسالتهم. هذه الدعوة هي، دعوة المجتمع الأهلي المدني، وهذه الرسالة هي، رسالة الإصلاح الدستوري. كما نفهم أن غيرهم فعلوا كما فعل بنو إسرائيل بالميثاق الذي أخذه الله عليهم. تقول تتمة الآية التي استشهدوا بها «فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون». وأقل ما يقال في هذا التعريف إنه تعريف غير سياسي وغير عقلاني وغير واقعي وغير مدني. ومن النافل التذكير بأن القيم العقلانية والتصورات الواقعية من مداميك المجتمع السياسي المدني وأركانه.
مع تفجر موجات «الربيع العربي» عادت ذات المجاميع السياسية لإصدار بيان سياسي يطالب بإصلاحات دستورية. كان البيان يطالب بـ«حقوق المرأة» والموقعين عليه من أصدروا بيانا قبل عام يجرم الاختلاط، ويحرم عمل المرأة في محلات بيع الملابس النسائية. وكان موقعو البيان يطالبون بحرية المجتمع، بينما بعض الموقعين عليه سبق أن أعلنوا صراحة تبنيهم رفض أشكال الحداثة المدنية اجتماعيا، وفيما كان البيان يطالب بالعدالة الاجتماعية كان بعض موقعيه يصفون المواطنين من أبناء الطائفة الشيعية بـ«الروافض». جدير بالذكر أن أحد أبرز موقعي هذا البيان تنازل عن جنسيته السعودية لاحقا واستبدلها بالقطرية.
على نفس النسق، أفرز حراك «يساريي الصالونات» مع رموز «الإسلام السياسي، مجاميع صغيرة من الجيل الشاب «المغرد»، الذين يجلسون في أطراف هذه الصالونات، والمتبنين لنفس الأدبيات، وفي ذات التوقيت الذي كانت «أيقونة» وائل غنيم تلف العالم العربي، أصدروا بيانا مقسما في نقاط أقرب للتغريدات الانطباعية منها لبيان سياسي جاد.
يقول سعود السرحان: «بما أن الإسلاميين الحزبيين هم الأكثر تنظيما، خصوصا في دول الخليج العربي، فإن هؤلاء القوميين واليساريين ينضوون تحت عباءتهم. فأصبحت جمعياتهم الحقوقية شبيهة بحكومة الإخوان المسلمين في السودان بقيادة عمر الترابي، التي وفرت ملجأ لجماعة أبي نضال ولكارلوس ولأسامة بن لادن والجماعة الإسلامية. ومؤخرا هاجرت إحدى الناشطات في إحدى هذه الجمعيات الحقوقية المدنية في السعودية لتنضم لتنظيم داعش».
الهزائم التي مني بها الحراك «الإخواني» بمساندة الحقوقيين والأحزاب اليسارية، وانقلاب حكومة الدكتور مرسي الإخوانية على «رفاق الثورة» عكس بدوره حالة التشظي الذي عاشته المجاميع السعودية بدورها، والذي دفع بعض رموزها لمحاولات يائسة وأخيرة، بإصدار «خطابات مفتوحة» دفاعا عمن روج لهم على أنهم «معتقلو رأي»، وتم تداول قضاياهم بالأسماء مع الحث على الاعتصامات المطالبة بإخراجهم من السجون، إلى أن جاءت المفاجأة.
ظهر لتنظيم القاعدة الإرهابي في جزيرة العرب فيديو مصور على مدار ساعة من الزمن لأحد قادتها (إبراهيم الربيش)، داعيا إلى استغلال تأجيج العواطف تجاه «المعتقلين أمنيا»، الذي ظهر جليا في «تويتر» موقع التواصل الاجتماعي، ومباركة اعتصامات بريدة التي تطالب بإطلاق سراح أفراد من الفئة الضالة، بحسب وصف الداخلية السعودية ومن «المجاهدين»، بحسب الربيش، قائلا ما نصه: «وصيتي ألا تنتهي قضيتهم بالخروج من السجن، وإنما هم حملة رسالة، دخلوا السجن من أجل قضية، ويجب أن يخرجوا مدافعين عن هذه القضية، ومناضلين عنها، وحماة لها»، مضيفا: «المعتقلون يجب أن يستغلوا تعاطف الناس معهم ويحرضوهم على الجهاد في سبيل الله ويدعوهم إليه، يجب أن يتحولوا إلى دعاة».
4 أعوام قاربت على النهاية من عمر «الربيع العربي»، وعقد من البيانات السياسية الملتبسة المفاهيم، بدأت بالدعوة للحقوق المدنية برطانة حداثية، وانتهت ببعض رموز هذه المطالبات الذين انخرطوا وسط الحشود بمناداتهم بفهم «داعش» للحياة المدنية، والهجرة إليها.