«يساريو الصالونات» هل كانوا غطاء «الإسلام السياسي» في المشهد السعودي؟

أكثر من 10 أعوام من التحالفات عبر «البيانات السياسية»

«يساريو الصالونات» هل كانوا غطاء «الإسلام السياسي» في المشهد السعودي؟
TT

«يساريو الصالونات» هل كانوا غطاء «الإسلام السياسي» في المشهد السعودي؟

«يساريو الصالونات» هل كانوا غطاء «الإسلام السياسي» في المشهد السعودي؟

ينتهي الكثير من حكايات المشهد السياسي - الثقافي في السعودية، كنهاية قصة «ريما الجريش»، منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، والقصة لمن لا يعرفها، هي أن «ريما الجريش» قدمت في الفضاء الحقوقي العام السعودي كـ«ناشطة حقوقية»، كونها عضوا فيما عرف باسم جمعية «حسم للحقوق المدنية والسياسية». الجريش انتهت في مرابع «داعش»، مرورا بتنظيم القاعدة في اليمن، هذه التنظيمات الإرهابية التي باتت تنمو بعد موجة «الربيع العربي»، كما ينمو العشب في الخرائب. ولكن تحت أي غطاء تسرب منظرو «داعش» و«القاعدة» و«الإخوان المسلمين»، وغيرها من حركات «الإسلام السياسي» المتطرف إلى المشهد السعودي؟ للحراك المعرفي في السعودية بشقيه التنويري والرجعي، أكثر من زاوية للرصد، لكن قد يكون أوضحها «البيانات السياسية»، التي تواترت في العقد الأخير، حاملة «ملامح آيديولوجية» من خلال مصطلحاتها ومضامينها والموقعين عليها.
في أوائل التسعينات كان الجميع يتهامسون في المشهد المحلي عن بزوغ نجم «مشايخ حركيين» يتبنون شعار «إخراج المشركين من جزيرة العرب» كموقف سياسي من تدخل المجتمع الدولي في تحرير الكويت من قبضة نظام صدام حسين.
كان الدكتور سلمان العودة، والدكتور سفر الحوالي، والدكتور ناصر العمر، مدعومين بمجموعة من «مشايخ الظل» من غير السعوديين، كانوا هم الرعيل الأول من مشايخ «الصحوة» الحركيين الذي اصطلح عليهم بـ«السروريين».
قادوا في حينها معظم الهجمات على المفاهيم التحديثية والتنويرية المتعلقة بالمرأة وبقية أساسيات المجتمع المتحضر من فن وثقافة واقتصاد وسياسة، وقاموا بالتشجيع على حراك الشارع السعودي، الذي أثبت مرة تلو الأخرى أنه رغم «روحه المحافظة» إلا أنه غير مسيس دينيا.
تم تحجيم هذه الرؤى القادمة من العصور الوسطى الروحية. وقضى بعض قيادات هذا الحراك محكوميتهم خلف القضبان وغادروها للفضاء العام مرة أخرى. حتى جاءت لحظة فارقة في تاريخ المشهد الدولي بشكل عام، والمشهد السعودي بشكل خاص.
كانت تلك اللحظة هي سقوط برجي التجارة في نيويورك إثر عمل إرهابي، إذ حدث تطور نوعي على مستوى «الترميز» لهذه الشخوص الحركية التي تقود التيار تنظيريا وجماهيريا، وخصوصا مع انفتاح بعضها على خطاب اجتماعي أكثر تسامحا في حينه، وتبني قنوات تلفزيونية لهذا الخطاب، حتى غدوا «نجوم شباك» تتسابق عليهم وسائل الإعلام.
هذا التطور كان على مستويين، بدأ بإخراج سلمان العودة وموازييه من «الدعاة الجدد» من سلة رجل الديني التقليدي، وتحويله لرجل الدين «التنويري».. هذه الحقبة كانت أولى مخاطبات تيار الصحوة لـ«الأنتلجنسيا» السعودية من التيارات الأخرى.
اللافت أن «الدعاة الجدد» الذين استقطبوا بعض جمهوره معهم لتجربتهم الجديدة مع خلق قواعد اجتماعية وثقافية أخرى لها جمهورها، لم يكن على حساب ترك القواعد الشعبية القديمة في العراء الثقافي، بل ظلت رموز وشخوص دعوية تحتوي هذه القواعد المتطرفة أو على الأقل الأكثر المحافظة وتشددا منها، من أمثال الدكتور عبد العزيز الطريفي، والدكتور ناصر العمر، والدكتور محمد العريفي، وغيرهم.
هذا التحول الصحوي الذي بدأ التحرك على مستويين جماهيريين، كان بداية خروج تحالف من نوع مختلف إلى الضوء. كان بقايا «اليسار» بكل تفرعاته الكلاسيكية والحديثة قد عبروا لتوهم عقدا من الزمان من حالة التشظي بعد فشل المشروع الأممي «الشيوعي» وتبعه سقوط «المشروع الناصري القومي» بدوره.. كانت حقبة من الهزائم المتكررة لصالح مفاهيم الدولة القطرية.
تجلى هذا التبني لـ«يساري الصالونات» في أول البيانات السياسية المشتركة تحت عنوان «على أي أساس نتعايش» الموجه للمثقفين الأميركيين، والذي تشارك فيه رموز «الصحوة» من أمثال المشايخ ناصر العمر وسفر النحو وسلمان العودة، مع الدكتور خالد الدخيل، ومحمد سعيد طيب، والدكتور متروك الفالح، والشيخ المعمم حسن الصفار، وغيرهم.
والذي جاء فيه ما نصه: «ليس من العقلانية أن نفترض أن الذين هاجموا الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر لا يشعرون بنوع من المبررات الذاتية صنعتها فيهم ودفعتهم إليها القرارات الأميركية في مناطق عالمية متعددة، وإن كنا لا نرى واقعية هذه المبررات لضرب الأمن المدني، لكنه استقراء لنوع من العلاقة السببية بين الأحداث والسياسات الأميركية».
رغم أن هذا البيان تراجع عنه لاحقا الثلاثي الصحوي (العودة، الحوالي، العمر)، فإنه كان بداية لبيانات تالية تحت اسم الجهود «الإصلاحية»، وهو المصطلح الذي يميل برنته الصوتية إلى مفردات تيار «الإسلام السياسي»، فيما يحتمل بتنظيراته السياسية وتخريجاته الفلسفية شعارات بقايا «اليسار» ورموزه القادمون من مخيال الستينات الميلادية.
تلك لم تكن بوادر تغير محلي في علاقة «اليسار» مع خصومه (فكريا) من حركات «الإسلام السياسي»، بل في صورته الأكبر كان هذا التشكل السياسي جزءا من قصة تحالف على مستوى جغرافيا العالم العربي، وتلك قصة لا بد من المرور عليها قبل العودة للمشهد السعودي الراهن.

* القوميون والإسلاميون

* في عام 1989 عقدت في القاهرة أولى جولات الحوار القومي - الإسلامي وانتهت بـ«انتكاسة» تبعتها «انتكاسات» لكل محاولات التقارب الفكري بين منظري التيارات القومية ومنظري «تيارات «الإسلام السياسي» في الجهة المقابلة.
لاحقا، وصف الكاتب المصري فهمي هويدي هذه المحادثات بقوله: «كانت النتيجة أن المؤتمر (الذي عقد عام 2007 في الإسكندرية) لم يكن بمثابة خطوة إلى الأمام، ولكنه بدا خطوة إلى الوراء، عادت بمسار الحوار إلى ما كان عليه قبل عقدين من الزمان تقريبا».
المحاولة الأبرز الأخرى كانت في عام 1997 في بيروت تحت راية مركز دراسات الوحدة العربية، حيث كان يشهد صعود قوى الإسلام السياسي واحتماءها بقواعد شعبية واسعة النطاق، كان المؤتمرون من التيارات القومية، يعتقدون أن بإمكانهم تأجيل الجدال حول قطعية «علمانية» السلطة، النقاش الذي بدوره سينهي المؤتمر كسابقيه منذ عقدين.
بذل مركز دراسات الوحدة العربية مجهودا هائلا ونتاجا غزيرا في محاولة صناعة مقاربات فكرية تتيح لهذا التحالف، الانتقال من المستوى السياسي إلى الفكري.
إلا أن الواقع لاحقا فرض تحالفا محكوما بمعطيات الراهن السياسي أكثر منه تحالفا قائما على المراجعة الفكرية.
يقول الكاتب والباحث سعود السرحان: «يتقاطع بعض بقايا القوميين واليساريين مع جماعات الإسلام السياسي في كونهم يتشاركون الفكر الفوضوي الهدمي المعادي لكل البنى التقليدية، سواء كانت دينية أو سياسية أو اجتماعية، لذا فهم ينشطون بالعمل المشترك في أوقات الأزمات والاضطرابات».
على مستوى الحركات اليسارية الكلاسيكية، كان أشهر نموذج للتقارب السياسي مع «الإخوان المسلمين» على مستوى العالم العربي، المعارض السوري رياض الترك، الذي تقلد سابقا منصب الأمين العام الحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي) منذ تأسيسه في 1973.
على ذات النسق، نشطت ذات التقاربات السياسية في المغرب العربي، والتي ظهرت جلية مع «الربيع العربي»، والتي كان أشهر نماذجها وضحاياها المغدور شكري بلعيد، المعارض والمحامي اليساري التونسي الذي تم اغتياله بشكل مفاجئ. أشارت لاحقا تصريحات رسمية من الحكومة التونسية بضلوع بعض حركات «الإسلام السياسي» في مقتله. جدير بالذكر، أن بلعيد في ذات الوقت يعتبر أحد أشهر المحامين عن السلفيين التونسيين المسجونين على خلفية قضايا أمنية إبان فترة حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وما لحقها.
تلك كانت ملامح تشكلات سابقة في جانب, وعابرة في جانب آخر للحظة «الربيع العربي».

* ربيع «الأصولية».. الفجر الكاذب

* البيانات السياسية لـ«الصالونات الثقافية» في السعودية تتغذى على الدعاية الشعاراتية غالبا. فمن المنتديات الإلكترونية إلى «تويتر» المليء بعصافير السياسة المغردة.
في عام 2004 أصدر ذات المجاميع الثقافية، بيانا سياسيا تحت عنوان «نداء وطني إلى القيادة والشعب» قاده الدكتور عبد الله الحامد ذو الأدبيات الإسلامية القادم من خارج من خارج «المشيخة» الدينية التقليدية، مع الدكتور متروك الفالح، القادم من الخلفية «العروبية القومية»، إضافة للشاعر علي الدميني، صاحب المرجعية الفكرية اليسارية الكلاسيكية.
علق عليه الكاتب والباحث السعودي علي العميم وقتها في مقالة تحت عنوان «شكليات ليبرالية ومضمون أصولي» بقوله: «تقارب بين جمهرة من الإسلاميين وجموع من الليبراليين والقوميين واليساريين، نتج عنه قيام تحالف فيما بينهم، وكان هذا التحالف ذا طبيعة سياسية. فصدرت بيانات مشتركة، يكون البيان فيها إما بيانا للإسلاميين يشترك في التوقيع عليه قوميون ويساريون وليبراليون، وإما بيانا للقوميين ولليساريين، يشترك في التوقيع عليه إسلاميون وليبراليون».
ويزيد العميم في تعليقه: «يقول كاتب البيان، إن الموقعين يؤمنون بدورهم في قول كلمة الحق، بل واجبهم ومسؤوليتهم تجاه الميثاق الذي حملهم الله إياه في قوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه)، من أجل ذلك يقدمون أنفسهم على أنهم دعاة للمجتمع الأهلي المدني، ودعاة للإصلاح الدستوري معا». من هذا التعريف الديني الأخلاقي نفهم أن الموقعين على البيان أمناء على ميثاق إلهي، فحواه كلمة الحق التي تقتضي أن يصدعوا بدعوتهم ويجهروا برسالتهم. هذه الدعوة هي، دعوة المجتمع الأهلي المدني، وهذه الرسالة هي، رسالة الإصلاح الدستوري. كما نفهم أن غيرهم فعلوا كما فعل بنو إسرائيل بالميثاق الذي أخذه الله عليهم. تقول تتمة الآية التي استشهدوا بها «فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون». وأقل ما يقال في هذا التعريف إنه تعريف غير سياسي وغير عقلاني وغير واقعي وغير مدني. ومن النافل التذكير بأن القيم العقلانية والتصورات الواقعية من مداميك المجتمع السياسي المدني وأركانه.
مع تفجر موجات «الربيع العربي» عادت ذات المجاميع السياسية لإصدار بيان سياسي يطالب بإصلاحات دستورية. كان البيان يطالب بـ«حقوق المرأة» والموقعين عليه من أصدروا بيانا قبل عام يجرم الاختلاط، ويحرم عمل المرأة في محلات بيع الملابس النسائية. وكان موقعو البيان يطالبون بحرية المجتمع، بينما بعض الموقعين عليه سبق أن أعلنوا صراحة تبنيهم رفض أشكال الحداثة المدنية اجتماعيا، وفيما كان البيان يطالب بالعدالة الاجتماعية كان بعض موقعيه يصفون المواطنين من أبناء الطائفة الشيعية بـ«الروافض». جدير بالذكر أن أحد أبرز موقعي هذا البيان تنازل عن جنسيته السعودية لاحقا واستبدلها بالقطرية.
على نفس النسق، أفرز حراك «يساريي الصالونات» مع رموز «الإسلام السياسي، مجاميع صغيرة من الجيل الشاب «المغرد»، الذين يجلسون في أطراف هذه الصالونات، والمتبنين لنفس الأدبيات، وفي ذات التوقيت الذي كانت «أيقونة» وائل غنيم تلف العالم العربي، أصدروا بيانا مقسما في نقاط أقرب للتغريدات الانطباعية منها لبيان سياسي جاد.
يقول سعود السرحان: «بما أن الإسلاميين الحزبيين هم الأكثر تنظيما، خصوصا في دول الخليج العربي، فإن هؤلاء القوميين واليساريين ينضوون تحت عباءتهم. فأصبحت جمعياتهم الحقوقية شبيهة بحكومة الإخوان المسلمين في السودان بقيادة عمر الترابي، التي وفرت ملجأ لجماعة أبي نضال ولكارلوس ولأسامة بن لادن والجماعة الإسلامية. ومؤخرا هاجرت إحدى الناشطات في إحدى هذه الجمعيات الحقوقية المدنية في السعودية لتنضم لتنظيم داعش».
الهزائم التي مني بها الحراك «الإخواني» بمساندة الحقوقيين والأحزاب اليسارية، وانقلاب حكومة الدكتور مرسي الإخوانية على «رفاق الثورة» عكس بدوره حالة التشظي الذي عاشته المجاميع السعودية بدورها، والذي دفع بعض رموزها لمحاولات يائسة وأخيرة، بإصدار «خطابات مفتوحة» دفاعا عمن روج لهم على أنهم «معتقلو رأي»، وتم تداول قضاياهم بالأسماء مع الحث على الاعتصامات المطالبة بإخراجهم من السجون، إلى أن جاءت المفاجأة.
ظهر لتنظيم القاعدة الإرهابي في جزيرة العرب فيديو مصور على مدار ساعة من الزمن لأحد قادتها (إبراهيم الربيش)، داعيا إلى استغلال تأجيج العواطف تجاه «المعتقلين أمنيا»، الذي ظهر جليا في «تويتر» موقع التواصل الاجتماعي، ومباركة اعتصامات بريدة التي تطالب بإطلاق سراح أفراد من الفئة الضالة، بحسب وصف الداخلية السعودية ومن «المجاهدين»، بحسب الربيش، قائلا ما نصه: «وصيتي ألا تنتهي قضيتهم بالخروج من السجن، وإنما هم حملة رسالة، دخلوا السجن من أجل قضية، ويجب أن يخرجوا مدافعين عن هذه القضية، ومناضلين عنها، وحماة لها»، مضيفا: «المعتقلون يجب أن يستغلوا تعاطف الناس معهم ويحرضوهم على الجهاد في سبيل الله ويدعوهم إليه، يجب أن يتحولوا إلى دعاة».
4 أعوام قاربت على النهاية من عمر «الربيع العربي»، وعقد من البيانات السياسية الملتبسة المفاهيم، بدأت بالدعوة للحقوق المدنية برطانة حداثية، وانتهت ببعض رموز هذه المطالبات الذين انخرطوا وسط الحشود بمناداتهم بفهم «داعش» للحياة المدنية، والهجرة إليها.



«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
TT

«داعش» يسعى بقوة إلى {إثبات وجوده} في 2020

تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)
تدريبات للقوات النيجيرية تحت إشراف القوات الخاصة البريطانية خلال مناورة مكافحة الإرهاب السنوية في السنغال فبراير الماضي (أ.ب)

ارت طموحات تنظيم «داعش» الإرهابي للتمدد مجدداً تساؤلات كثيرة تتعلق بطبيعة «مساعيه» في الدول خلال العام الجاري. واعتبر مراقبون أن «(أزمة كورونا) جددت طموحات التنظيم للقيام بعمليات إرهابية، واستقطاب (إرهابيين) عقب هزائم السنوات الماضية ومقتل زعيمه السابق أبو بكر البغدادي». ووفق خبراء ومتخصصين في الشأن الأصولي بمصر، فإن «التنظيم يبحث عن أي فرصة لإثبات الوجود»، مشيرين إلى «مساعي التنظيم في أفريقيا عبر (الذئاب المنفردة)، ومحاولاته لعودة نشاطه السابق في العراق وسوريا عبر تبني عمليات القتل»، موضحين أن «المخاوف من العناصر (الانفرادية) التي تنتشر في أوروبا وأميركا تتزايد، خاصة وأنها تتحرك بانسيابية شديدة داخل محيطهم الجغرافي».
وقال أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية، إن «(داعش) مثل تنظيمات الإرهاب تبحث عن فرصة مُناسبة للوجود، ومن الفُرص المُناسبة، وجود أي شكل من أشكال الفوضى أو الارتباك، وعندما تكون جهود الدول موجهة لمحاربة (كورونا المستجد)، فيبقى من الطبيعي أن يسعى التنظيم للحركة من جديد، وانتظار فرصة مناسبة لتنفيذ أهدافه، خاصة أن (داعش) في تعامله مع الفيروس روج لفكرة (أن كورونا عقاب إلهي لأعدائه، على حد زعم التنظيم)، خصوصاً أن (كورونا) كبد أوروبا خسائر كبيرة، وأوروبا في الدعايا الداعشية (هذا الغرب الذي يحارب الإسلام، على حد تصور الداعشيين)، لذا فـ(داعش) يستغل هذا، في مواجهة بعض الارتكازات الأمنية، أو الأكمنة، أو الاستهدافات بالشوارع، لإثارة فازعات، ومن الوارد تنفيذ بعض العمليات الإرهابية».
وأكد عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) استغل (أزمة الفيروس) بالادعاء في بيان له مارس (آذار) الماضي، بأن الفيروس (عذاب مؤلم من الله للغرب، خاصة للدول المشاركة في العمليات العسكرية ضده، على حد زعمه)، ويحاول التنظيم نشر الخوف من الوباء، والبحث عن إيجاد مصارف لتمويل العمليات الإرهابية».
ووفق تقرير سابق لمجموعة «الأزمات الدولية» في نهاية مارس الماضي، أشار إلى أن «التنظيم أبدى مع ظهور الفيروس (نبرة شماتة)، وأخبر عناصره عبر افتتاحية جريدة (النبأ) التابعة له في نهاية مارس الماضي، بضرورة استمرار حربهم عبر أرجاء العالم حتى مع تفشي الوباء... وادعى أن الأنظمة الأمنية والدولية التي تسهم في كبح جماح التنظيم على وشك الغرق، على حد قول التنظيم».
ويشير عبد المنعم في هذا الصدد، إلى أنه «بالعودة لزاوية (حصاد الأجناد) في عدد (النبأ) الأخير، زعم التنظيم أنه شن 86 هجمة إرهابية في شهر واحد، هو مارس الماضي، وهو أعلى رقم منذ نهاية نوفمبر (تشرين ثاني) الماضي، الذي سجل 109 هجمات، فيما عُرف بـ(غزوة الثأر) للبغدادي وأبو الحسن المهاجر اللذين قُتلا في أكتوبر (تشرين أول) الماضي في غارة جوية».
ووفق تقارير إخبارية محلية ودولية فإن «(داعش) يسعى لاستعادة سيطرته على عدد من المناطق في سوريا والعراق من جديد، وأنه يحتفظ بنحو من 20 إلى 30 ألف عضو نشط، ولا ينقصه سوى توفر المال والسلاح». وأشارت التقارير ذاتها إلى أن «التنظيم يحاول استغلال انشغال سوريا والعراق بمكافحة الفيروس، لاستعادة سيطرته على مناطق من الصحراء السورية في الغرب، إلى وادي نهر الفرات شرقاً، مروراً بمحافظة دير الزور والمناطق ذات الأغلبية السنية في العراق، والتي لا يزال يوجد فيها بعض عناصره».
ويشار أنه في أبريل (نيسان) الماضي، هاجم التنظيم بلدة السخنة في صحراء حمص، وأسفر عن مقتل 18. وفي دير الزور أعلن التنظيم مقتل اثنين... وفي العراق، قتل ضابط شرطة عند نقطة تفتيش في الحويجة غرب كركوك على يد التنظيم، كما قتل اثنان من مقاتلي البيشمركة الكردية في هجوم للتنظيم أبريل الماضي، كما أسفر هجوم للتنظيم على مطار الصادق العسكري عن مقتل اثنين.
وفي هذا الصدد، قال عمرو عبد المنعم، إن «أكثر هجمات (داعش) كانت في العراق أخيراً، وشهد التنظيم نشاطاً مكثفاً هناك»، مضيفاً: «في نفس السياق دعت فتوى نشرها التنظيم على (تلغرام) للهروب من السجون السورية، وهذا ما حدث، فقد هرب 4 نهاية مارس الماضي، من سجن تديره قوات سوريا الديمقراطية، وفقاً لتقارير إخبارية».
وسبق أن طالب أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» في سبتمبر (أيلول) الماضي، «بتحرير أنصار التنظيم من السجون ...»، وسبقه البغدادي «وقد حرض بشكل مُباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق».
وبحسب المراقبين «حاول (داعش) أخيراً زيادة حضوره الإعلامي على منصات التواصل الاجتماعي مجدداً، بعد انهيار إعلامه العام الماضي». ورصدت دراسة أخيرة لمرصد الأزهر لمكافحة التطرف في القاهرة «تداول التنظيم تعليمات لعناصره عبر شبكات التواصل الاجتماعي، بالادعاء بأن الفيروس يمثل (عقاباً من الله، ويحتم اتخاذ خطوات لتكفير الذنوب)، وجعل التنظيم الإرهابي - على حد زعمه - السبيل الوحيد للخلاص من الفيروس، والقضاء عليه، هو (تنفيذ العمليات الإرهابية)، ولو بأبسط الوسائل المتاحة». اتسق الكلام السابق مع تقارير محلية ودولية أكدت «تنامي أعداد حسابات أعضاء التنظيم وأنصاره على مواقع التواصل خصوصاً (فيسبوك)، حيث تمكن التنظيم مجدداً من تصوير وإخراج مقاطع فيديو صغيرة الحجم حتى يسهل تحميلها، كما كثف من نشر أخباره الخاصة باستهداف المناطق التي طرد منها في العراق وسوريا، وتضمين رسائل بأبعاد عالمية، بما يتوافق مع أهداف وأفكار التنظيم».
ووفق عبد المنعم فإن «(داعش) يستغل التطبيقات الإلكترونية التي تم تطويرها في الفترة الأخيرة في المجتمع الأوروبي، والتي قدمتها شركات التكنولوجيا والذكاء الصناعي في أوروبا مثل تطبيق Corona-tracker لجمع البيانات عن المصابين، وتوجيه بعض الأسئلة لتحديد نسبة الخطورة، وفرض التنظيم على الأطباء والممرضين في الرقة الحضور اليومي الإجباري، ومن خالف تعرض لعقوبات شديدة».
وعن الواجهة التي يسعى «داعش» التمدد فيها خلال الفترة المقبلة. أكد الخبير أحمد بان، أن «أفريقيا هي الواجهة المفضلة لتنظيمي (داعش) و(القاعدة)، والفترة الأخيرة شهدت تصاعدا لعمليات في الغرب الأفريقي وداخل الساحل، وعمليات داخل موزمبيق، فـ(داعش) في حالة سباق لتصدر المشهد هناك، مع توفر آليات تساعده على ذلك من بينها، تهريب السلاح، وحركة العصابات». فيما أبدى عمرو عبد المنعم، تصوراً يتعلق بـ«زيادة العمليات الإرهابية في نيجيريا، وأنه طبقاً لبيانات صدرت أخيراً عما يُعرف باسم (ولاية غرب أفريقيا) أفادت بوجود أكثر من مائة مقاتل هاجروا لنيجيريا من سوريا والعراق».
وتجدد الحديث في فبراير (شباط) الماضي، عن مساعي «داعش» للوجود في شرق أفريقيا أيضاً، بعدما أظهرت صوراً نشرها التنظيم عبر إحدى منصاته تتعلق بتدريبات على أسلحة تلقاها عناصره في مرتفعات «غل غلا» الوعرة بولاية بونتلاند الواقعة شمال شرقي الصومال.
تعليقاً، على ذلك أكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، أن «(داعش) يهدف إلى السعي لمناطق بالقارة السمراء، بعيداً عن سوريا والعراق، لـ(تفريغ قدرات عناصره القتالية)، فضلاً عن تأكيد عبارة (أنه ما زال باقياً)».
تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية أشارت أيضاً إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال المراقبون إن «عودة هؤلاء أو ما تبقى منهم إلى أفريقيا، ما زالت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيراً منهم شباب صغير السن، وأغلبهم تم استقطابه عبر مواقع التواصل الاجتماعي».
فيما قال خالد الزعفراني، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، إن «مساعي التنظيم للتمدد داخل أفريقيا سوف تتواصل عبر (الذئاب المنفردة)»، مضيفاً أن «ما يقوم به التنظيم في أفريقيا، والعراق وسوريا أخيراً، لإثبات أن لديه قدرة على تحقيق إنجازات، وأنه (عابر للحدود)، وأنه غير مُتأثر بهزائم سوريا والعراق».
وكان أبو محمد العدناني، الناطق الأسبق باسم «داعش» قد دعا في تسجيل صوتي عام 2014 المتعاطفين مع التنظيم، إلى القتل باستخدام أي سلاح متاح، حتى سكين المطبخ من دون العودة إلى قيادة «داعش»... ومن بعده دعا البغدادي إلى «استهداف المواطنين». وتوعد التنظيم عبر مؤسسة الإعلامية «دابق» بحرب تحت عنوان «الذئاب المنفردة».
في ذات السياق، لفت أحمد بان، إلى أن «التنظيم يسعى لاكتشاف أي ثغرة لإثبات الوجود أو تجنيد عناصر جُدد، خاصة وأن هناك عناصر (متشوقة للإرهاب)، وعندما يُنفذ (داعش) أي عمليات إرهابية، تبحث هذه العناصر عن التنظيم، نتيجة الانبهار».
من جانبه، قال الخبير الأمني اللواء فاروق المقرحي، مساعد وزير الداخلية المصري الأسبق، إن «تنظيمات الإرهاب خاصة (داعش) و(القاعدة) لن تتوانى عن سياسة التجنيد، ومن هنا تنبع فكرة الاعتماد على (الذئاب المنفردة) أو (العائدين) بشكل كبير».
وبينما رجح زغلول «حدوث بعض التغيرات داخل (داعش) عام 2020». قال اللواء المقرحي: «لا أظن عودة (داعش) بفائق قوته في 2020 والتي كان عليها خلال عامي 2014 و2015 نتيجة للحصار المتناهي؛ لكن الخوف من (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، لاستنزاف القوى الكبرى»، لافتاً إلى أن «كثيرا من العناصر (الانفرادية) تتحرك في أوروبا وأميركا بانسيابية داخل الدول، وهذا هو الخطر».