المكممون

المكممون
TT

المكممون

المكممون

لم أستغرب، وأنا أخرج من المحجر، أو المنزل، في أول يوم في فترة الحجر الصحي، إلى المدينة، بناء على موعد مع طبيب أن أجد الشوارع طبق الصورة التي خشيت أن تكون عليها، فهي تكاد تكون خالية إلا من مارة مكرهين على الخروج، أو مغامرين سكارى ومجانين. كانت كماماتهم ملونة. كمامات النساء تكاد تكون مختلفة، بل من بينها كمامات ذات ألوان زاهية، بينما كمامات الرجال تكاد تكون ذات لون واحد. بيضاء أو رمادية أو زرقاء. كنت أراقب الناس، وأنا أسير الهوينى تجاه عيادة الطبيب حذراً. حركاتهم حذرة. كل منهم يسير بحذر. إن حكَّ أحدهم وجهه أو أنفه فعل ذلك بظاهر كفه المقفزة. إن اضطر لفتح باب أو الضغط على زر مصعد فهو يفعل ذلك مستعيناً بأصبع مطمورة في مكانها المحدد في القفاز، وغالباً ما تكون البنصر، وهكذا حينما يفتح الناس أبواب سيارتهم، أو يصعدون الترام، أو باصات النقل الداخلي. كل ينفر من الثاني، وتكاد لا ترى إلا عيونهم، وما إن عطس أحدهم أو سعل ثمة نفير ما بعد النفور.
أي مس، ترى، أصيب به، كل هؤلاء، يا إلهي! إنه أشبه بمس الجان، اللامرئي، إلا أنه هنا مس فيروس كورونا الذي يتوارى وراء اسمه الحركي: «كوفيد 19» من دون أن يفلح في ذلك، لأن قلة ينادونه باسمه الجديد. الخبراء، والعلماء، والأطباء، والكتاب والصحافيون. بينما اسمه الأول الذي أطلق عليه هو السائد، والأكثر نطقاً. هذا المس الذي مني الناس به ليس مساً ضمن حدود شارع، أو حي، أو مدينة، أو قرية. إنه مس كوني. مس عابر للقارات. عابر للكواكب. مس لاحق الناس في الفضاء وهم في الطائرات، ولاحقهم في البواخر، ولاحقهم وهم تحت الأرض، إذ إن «الترابي» حافر القبور يحفر القبر للمتكورن ويهرب إلى بيته، وإمام الجامع يصلي عليه وهو في سيارة الإسعاف، وهكذا بالنسبة لمشيعي الجنازة. كورونا تهمة. كورونا لعنة الدنيا والآخرة، حتى جيران المقابر يحتجون على دفن أحد من المكورنين فيها!
سألني أحدهم:
ماذا تنصحني أن أعمل؟
مازحته وقلت:
افتح مصنعاً للكمامات والقفازات. المستقبل لها
لربما كان تصوري هذا مفزعاً، إلا أنه ليس من بنات خيالي، فإن كورونا من الممكن أن يهزم، وهو سيهزم، إلا أن شبحه سيعيش معنا طويلاً. هذه الأسابيع. الأشهر المرعبة التي عشنا تحت ظل حكمه، في قارات العالم جميعها، لا بد ستظل ترافقنا طويلاً، وقد نورثها أبناءنا، وأحفادنا. كم من الوقت يلزم كلاً منا أن يعود إلى أصابع يديه، كفيه، أنفه، عينيه، وجهه، شعر رأسه. متى سيصبح أن أي تماس مع الآخر، مع أصابع وأيدي وكفي بالذات. ذاته، لا يشكل خطراً. كيف سنقنع الناس أننا لن نفكر طويلاً قبل أن نغامر ونتناول وجبة طعام في مطعم؟ من يقنع أطباءنا الذين كانوا يبحثون، أصلاً، عن ذريعة، ليتكمموا، ويتقفزوا، بأننا معافون، سالمون؟
كثيراً ما يخيل إليّ، وأنا أستغرق في التفكير في أمر الكمامات بأنها ليست إلا امتداداً لتكميم الطغاة لشعوبهم. والتكميم اعتداء على أكثر من عضو في جسم الإنسان. إنه تكميم لفمه. تكميم لأنفه. إنه تدخل في نيله حصته من الهواء والشهيق والزفير ولفظ الأنفاس. إنه جهاز مراقبة للترهيب أمام كل حالة عطاس أو سعال. إنه جهاز مراقبة على الكلام. بل آلة لتصفية الكلام في أحسن الأحوال، إن لم نقل لمنع الكلام. إنه تكريس للاستبداد. تكريس للرعب.
أجل، لا مستقبل إلا للكمامات والقفازات. ستتفرغ لها وسائل الإعلام. مصممو الأزياء سوف يبدعون في تصميم الكمامات التي ستعيدنا إلى مرحلة الحيونة. مرحلة الوعولية. المرحلة الغنمية، القطيعية. الطغاة أيضاً سيتكممون أنى قابلوا رعيتهم لئلا يصابوا بعدوى آفاتهم، ليخفوا عنا وجوههم. سيستعينون بالقفازات لتغطية أكفهم التي تقطر منها الدماء، وتفوح منها رائحة القتل والعفونة.
لن ينسى هؤلاء المصممون - وكما سيطلب منهم - ترغيب الناس بالنظارات السميكة، لحجب عيون الناس، باعتبار العيون ذاتها من بين معابر فيروس كورونا إلى أجسادنا. الكمامات ستجعلنا نخسر رؤية ضحكات الناس، ورؤية أحمر الشفاه. ها نحن جميعاً على موعد، إلى إشعار آخر، مع مجتمع أبكم، يرى كل شيء من وراء النظارات، ويستشعر بعينيه بعد أن خسر حاسة اللمس. كل ذلك كي يتم ربط فيروس كورونا في غياهب أذهاننا، على إيقاع أجراس موقوتة، أنى دعت الحاجة إلى ذلك!
- كاتب سوري كردي مقيم في ألمانيا
- من مخطوط بعنوان:
«خارج سور الصين
من الفكاهة إلى المأساة!»



عائلة سعودية تتوارث لقب «القنصل الفخري» على مدار سبعة عقود

الجد سعيد بن زقر أول قنصل فخري لجمهورية فنلندا في جدة (الشرق الأوسط)
الجد سعيد بن زقر أول قنصل فخري لجمهورية فنلندا في جدة (الشرق الأوسط)
TT

عائلة سعودية تتوارث لقب «القنصل الفخري» على مدار سبعة عقود

الجد سعيد بن زقر أول قنصل فخري لجمهورية فنلندا في جدة (الشرق الأوسط)
الجد سعيد بن زقر أول قنصل فخري لجمهورية فنلندا في جدة (الشرق الأوسط)

في حالة استثنائية تجسد عمق الالتزام والإرث الدبلوماسي، حملت أسرة بن زقر التجارية العريقة في مدينة جدة (غرب السعودية) شرف التمثيل القنصلي الفخري لجمهورية فنلندا عبر 3 أجيال متعاقبة، في مسيرة دبلوماسية وتجارية متواصلة امتدت لأكثر من 7 عقود.

بدأت القصة كما يرويها الحفيد سعيد بن زقر، في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية، عندما علم الجد سعيد بن زقر، بوجود جالية مسلمة في فنلندا تعاني من غياب مسجد يجمعهم، وهو ما دفعه إلى اتخاذ قرار بالسفر إلى هناك لبناء مسجد يخدم احتياجاتهم الدينية.

الجد سعيد بن زقر أول قنصل فخري لجمهورية فنلندا في جدة (الشرق الأوسط)

لكن الشيخ سعيد واجه بعض التحديات كما يقول الحفيد في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، تتمثل في منع القانون الفنلندي تنفيذ المشروع في ذلك الوقت، وأضاف: «بعد تعثر بناء المسجد، تقدمت الجالية المسلمة هناك بطلب رسمي إلى الحكومة الفنلندية لتعيين الجد سعيد قنصلاً فخرياً يمثلهم، وهو ما تحقق لاحقاً بعد موافقة الحكومة السعودية على ذلك».

وفي وثيقة مؤرخة في السابع من شهر سبتمبر (أيلول) 1950، اطلعت «الشرق الأوسط» على نسخة منها، تظهر موافقة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، طيب الله ثراه، على تعيين الشيخ سعيد بن زقر قنصلاً فخرياً لحكومة فنلندا في جدة.

وجاء في الوثيقة: «فلما كان حضرة صاحب الفخامة رئيس جمهورية فنلندا، قد عيّن بتفويض منه السيد سعيد بن زقر قنصلاً فخرياً لحكومة فنلندا في جدة، ولما كنا قد وافقنا على تعيينه بموجب ذلك التفويض، فأننا نبلغكم بإرادتنا هذه أن تتلقوا السيد سعيد بن زقر بالقبول والكرامة وتمكنوه من القيام بأعماله وتخوّلوه الحقوق المعتادة وتمنحوه المميزات المتعلقة بوظيفته».

وثيقة تعيين الجد سعيد بن زقر صادرة في عهد الملك عبد العزيز طيب الله ثراه (الشرق الأوسط)

وأضاف الحفيد سعيد، القنصل الفخري الحالي لفنلندا: «أعتقد أن جدي كان من أوائل القناصل الفخريين في جدة، حيث استمر في أداء مهامه حتى عام 1984، لينتقل المنصب بعد ذلك إلى والدي، الذي شغله حتى عام 2014، قبل أن يتم تعييني خلفاً له قنصلاً فخرياً».

وفي إجابته عن سؤال حول آلية تعيين القنصل الفخري، وما إذا كانت العملية تُعد إرثاً عائلياً، أوضح بن زقر قائلاً: «عملية التعيين تخضع لإجراءات دقيقة ومتعددة، وغالباً ما تكون معقدة، يبدأ الأمر بمقابلة سفير الدولة المعنية، يعقبها زيارة للدولة نفسها وإجراء عدد من المقابلات، قبل أن تقرر وزارة الخارجية في ذلك البلد منح الموافقة النهائية».

الأب محمد بن زقر عُين قنصلاً فخرياً على مستوى مناطق المملكة باستثناء الرياض مقر السفارة (الشرق الأوسط)

وتابع قائلاً: «منصب القنصل الفخري هو تكليف قبل أن يكون تشريفاً، حيث تلجأ بعض الدول إلى تعيين قناصل فخريين بدلاً من افتتاح قنصلية رسمية، لتجنب الأعباء المالية، وعادةً ما يتحمل القنصل الفخري كل التكاليف المترتبة على أداء مهامه».

ووفقاً للأعراف الدبلوماسية فإن لقب القنصل الفخري، هو شخص من مواطني الدولة الموفد إليها، بحيث تكلفه الدولة الموفِدة التي لا توجد لديها تمثيل دبلوماسي بوظائف قنصلية إضافة إلى عمله الاعتيادي الذي عادة ما يكون متصلاً بالتجارة والاقتصاد.

يسعى الحفيد سعيد بن زقر إلى مواصلة إرث عائلته العريق في تعزيز العلاقات التجارية والاقتصادية بين السعودية وفنلندا، والارتقاء بها إلى مستويات متقدمة في شتى المجالات. يقول بن زقر: «منذ تعييني في عام 2014، حرصت على تأسيس شركات وإيجاد فرص استثمارية في فنلندا، خصوصاً في مجالات تكنولوجيا الغذاء والوصفات الصناعية، إذ تتميز فنلندا بعقول هندسية من الطراز الأول، وهو ما يفتح آفاقاً واسعة للتعاون والابتكار».

الحفيد سعيد بن زقر القنصل الفخري الحالي لجمهورية فنلندا في جدة (الشرق الأوسط)

ويرى القنصل الفخري لجمهورية فنلندا أن هناك انفتاحاً سعودياً ملحوظاً على دول شمال أوروبا، ومن بينها فنلندا، وأوضح قائلاً: «تتركز الجهود بشكل كبير على شركات التعدين الفنلندية التي تُعد من بين الأكثر تقدماً في العالم، إلى جانب وجود فرص واعدة لم تُستغل بعدُ في مجالات صناعة السيارات، والطائرات، والصناعات الدفاعية».

وفي ختام حديثه، أشار سعيد بن زقر إلى أن القنصل الفخري لا يتمتع بجواز دبلوماسي أو حصانة دبلوماسية، وإنما تُمنح له بطاقة تحمل مسمى «قنصل فخري» صادرة عن وزارة الخارجية، وبيّن أن هذه البطاقة تهدف إلى تسهيل أداء مهامه بما يتوافق مع لوائح وزارة الخارجية والأنظمة المعتمدة للقناصل الفخريين بشكل رسمي.