الثقافة الليبية... من دولة العقيد إلى {دولة دوت كوم}

أحمد الفيتوري يرصد تحولاتها بـ«النكش في الجذور»

الثقافة الليبية... من دولة العقيد إلى {دولة دوت كوم}
TT

الثقافة الليبية... من دولة العقيد إلى {دولة دوت كوم}

الثقافة الليبية... من دولة العقيد إلى {دولة دوت كوم}

يرصد الناقد الروائي الليبي أحمد الفيتوري، في كتابه «الثقافة في وضع غائم» الصادر أخيراً في سلسلة كتاب ميادين، تجليات المشهد الثقافي الليبي، عبر أزمنة ومراحل متنوعة، ويحلل ما انطوت عليه من خصوصية أدبية وفنية في سياقات اتسم بعضها بالمغامرة والتمرد على المواضعات المستقرة، وبعضها الآخر دار في فلك السياق العام.
يضم الكتاب خمسة أقسام تتنوع ما بين الدراسات الأدبية، وقراءات في الرواية والشعر والكتب، ثم التأمل في وضعية الثقافة وجدوى الكتابة، في عالم متقلب شديد التناقض يموج بالثورات وبالكوارث والحروب.
ويكتسب الكتاب أهمية خاصة كون مؤلفه من الركائز الفاعلة في الثقافة الليبية، وله نشاط نقدي واسع في المتابعة والرصد والتحليل لفعاليتها على شتى المستويات، الأمر الذي يصفه الناقد الأدبي الدكتور يسري عبد الله في مقدمته الضافية للكتاب بأنه «محاولة لترسيخ وضعية الثقافة الليبية وتكريس مركزية الثقافة وجعلها إطاراً جامعاً للهوية الليبية، مثلما نرى في مبحث القوة الناعمة الليبية، فضلاً عن الإطلالة على الفضاءات الفنية للكتابة الليبية الشابة»، مشيراً إلى أن «ثمة نزوعاً فلسفياً في الكتاب يمثل أحد جواهره الأساسية تتجلى فيه ملامح ثقافة رفيعة لدى الكاتب خصوصاً في إشاراته إلى نيتشه، وسبينوزا، ومركزيتهما في الفكر المعاصر».
ويؤكد عبد الله أن الفيتوري «يطرح سؤالاً إشكالياً بامتياز يتصل بجدوى الكتابة، ولماذا نكتب، وهو سؤال شاغل للكثيرين إلى الحد الذي صار من الأدبيات المتجددة، ونرى أصداء له لدى كتاب عالميين، من أبرزهم ماركيز مثلاً، لكن السؤال هنا يبدو غير معنيّ بالوصول إلى إجابة، حيث تصير الكتابة مرادفاً للوجود ذاته، وعلامة دائمة على التغير الذي يعد القانون المهيمن في رؤية العالم، والتعاطي مع التراث المعرفي بوصفه تراثاً ممتداً من المعرّي إلى رولان بارت، والتماساً مع السؤال هنا يعد حلقة من حلقات البحث عن المعنى، ومجاوزة السائد والمستقر».
يطرح الفيتوري أسئلته وهواجسه من خلال النكش في الجذور، فيبحث عن فضاء النثر الليبي في كتابات اثنين من رواده: يوسف القويري والصادق النيهوم، رابطاً منحنيات صعوده بتطور الصحافة، ومشارفتها تخوم الفن، حتى وهي تقدم قصصاً ووقائع خبرية، ويرى أن ذلك شكّل امتداداً حياً لفكرة «المنثور» في التراث العربي. والذي أصبح «صُبحاً حيث انتشرت المقالة القصصية مع مطلع القرن العشرين واقترن المقال بالسرد، وتلاقى هذا الصعود مع هموم جيل 57» الذي أعاد صياغة الكتابة في ليبيا –على حد قوله– وأحدث نقلة نوعية في الكتابة وباتت نثرية سردية، حملت بذور قصيدة النثر التي اتسع مشهدها الآن في الساحة الثقافية العربية.
ومن زاوية صرامة العلم وكيف تتحول هذه الصرامة في لغة السرد الفني إلى مجال للمتعة والخيال، يتناول الفيتوري رحلة يوسف القويري (1938 - 2018) الناثر المعلم، كما يسمّيه، مركّزاً على كتابه الروائي الذي كتبه في ستينات القرن العشرين «من مفكرة رجل لم يولد»، ويرسم فيه صورة لمستقبل العالم حتى عام 2565 من خلال إيقاع الخيال العلمي والتمدد الزمني الروائي، كما يلقي الضوء على منجزه في الشعر، ومقالات الرأي، ويرى أن الوعي بجدل المألوف والمفارقة هو ما يرتقي بنثر القويري، وجعل كتابته نثرية رفيعة وليست شعرية؛ فإيقاعها مرئي خافت وهادئ، يضج بالفكرة الفلسفية العميقة دون تخرصات أو ادعاء أو تملق للقارئ بل تحفيز للتفكر وإعمال للذهن.
ويذهب الفيتوري إلى أن زمن القويري المستقبلي لم يولد بعد، لكنه مع ذلك كتبه كحقيقة متوهمة، وجسده كحلم حتى عام 2565، في روايته تلك، مشيراً إلى اهتمام عدد من الباحثين والمستشرقين بالرواية، وترجمة مختارات منها إلى الإنجليزية والفرنسية... وقد اختار الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي، القويري لكتابة مقدمة أعماله الشعرية التي صدرت في مجلدين عن «دار العودة» ببيروت.
وفي فصل بعنون «الهيبي والعقيد!»، يربط الفيتوري بين سيرة الصادق النيهوم (1937 - 1994)، الكاتب الليبي الشهير، وصداقته الحميمة للرئيس الراحل معمر القذافي، وبين الفلسفة، وحين يغوص في تفاصيل تلك السيرة، يكتشف ضلعها الناقص الذي يشكّل رأس الهرم، متجسداً في ولع النيهوم بفكرة السلطة، ويستعرض عبر وقائع ومشاهد كان حاضراً في بعضها، كيف لمس عن قرب هذا الولع، متجسداً في فكرة المثقف في عباءة السلطة. حتى إنه في أحد اللقاءات وعلى طاولة عشاء أعدها أحد رجال القذافي سخر النيهوم من الكتاب الأخضر في محاثة مع القذافي أخذت طابع المزاح والألفة: «تعرف يا خيي معمر، إنهم يتهمونني بتأليف كتابك الأخضر، هذا الكتاب مش ممكن نكتبه وإلا لا؟ وأخذ القذافي يضحك، دون أن يعلق على حديث النيهوم التهكمي، وحينها بدا لي كما لو أن (الكتاب الأخضر)، ليس في المستوى، الذي يستحق أن يُتهم النيهوم بكتابته، وأنه يتبرأ في حضورنا من هذه التهمة، وأن القذافي يمنح النيهوم هذا الحق، كما يمنح السلطان نديمه. لحظتها، ومما طالعته وسمعته، تبين لي أن الصادق النيهوم شخصية رئيسة في الكتابة والأفكار، في مسودة أُعيد صياغتها دون رضا النيهوم، ولعل لهذا منح القذافي للصادق النيهوم تلك اللحظة الاستثنائية».
وكما يوضح الكتاب هي لحظة مفارقة بالمفارقة مع علاقات متميزة لعدد من الكتاب الليبيين المعروفين بالقذافي، من بينهم خليفة التليسي، وأحمد إبراهيم الفقيه، وإبراهيم الكوني.
على هذه الأرضية يستعرض الكتاب سيرة النيهوم الأدبية، ويصفها بالغموض والعبثية أحياناً، فهي غير موثّقة وغير موثوق فيها، لأنها مليئة بالثغرات، فهو الهيبي الذي وراء كولونيل ليبيا، كما وصفته صحيفة «الصن» البريطانية في مقال عن ليبيا في أوائل السبعينات، وهو نجم النجوم ظهر الذي على صفحات جريدة «الحقيقة»، ليكتب من هلسنكي عاصمة فنلندا، عن الليبيين، مقالات ساخرة ومثيرة، تتناول مواضيع الساعة في تلك المرحلة، وتمس القضايا الساخنة من العالم، وبأسلوب ساخر وتهكمي وطازج ومثير جذب القراء، تحول صاحبه إلى كاتب الصحيفة الأول والمبرز.
ويوضح الكتاب تأثر النيهوم ببيئته المحلية، فهو كابن لمدينة متوسطية صغيرة (بنغازي)، تبدو كما لو كانت ميناء لقراصنة غدوا أشباحاً، يرسم شخصية كتاباته السردية، في شكل رجل عاطل، ليس لديه ما يفعل، سوى أن يتكئ في ركينة شارع، ليرمي المارة بنظرة ساخطة ولسان لاذع. وفي مقالاته الفكرية يبدو كمتفرج حاذق، استعار باروكة فلسفة العبث السائدة آنذاك، ومفاهيم اللامنتمي الحصيف. حتى إن أطروحته العلمية في مقارنة الأديان والتي لم يستطع إنجازها في جامعة القاهرة، ليس هناك مصدر موثوق يشير إلى أنه أنجزها بالفعل في فنلندا التي عاش فيها مرحلة شبابه العشرينية حتى غيّبه الموت بجنيف، كما لا توجد أي إشارة من الكاتب إلى حصوله عليها.
إن هذه المسحة من الغموض جعلت النيهوم -حسب وصف الكتاب- يبدو كلاعب في بركة الوحل، أراد أن يرسم على سطحها، علامته المميزة، كنجم يعطي ظهره للكرة، ويعطي وجهه وعينيه للجمهور. لكن ما يميز هذا النجم، أنه لا يستهين بجمهوره ولا بوسائل جذب هذا الجمهور، يعرف حقيقة ما يكمن في الظل، ويسلط عليه ضوءه الخاص الجذاب بتعدد ألوانه، مستفيداً من فن الشطح الصُّوفي المحلي البسيط في الزوايا والتكايا الشعبية، في رفع اللغة إلى درجة الإيهام؛ فبدت مموّهة، ومُحملة بمستوياتٍ عدة من الترميز والدلالة.
وفي فصل بعنوان «من دولة العقيد إلى دولة دوت كم» يستعرض الكتاب تاريخ الصحافة الثقافية في ليبيا منذ ثلاثينات القرن الماضي، والتحولات التي مرت بها، من مفهوم معرفي تقني يرفد الأدب والإبداع إلى مفهوم براغماتي ضيق يدور في فلك سياسات النظام الحاكم. كما يتضمن الكتاب دراسة مستفيضة شارك بها المؤلف في إحدى المناسبات بالجامعة العربية، يتناول فيها وضعية الثقافة الليبية في ضوء واقعها الخاص وعلاقتها بالمناخ الثقافي العربي العام، خلص فيها إلى مجموعة مقترحات لافتة، حول تفعيل آليات العمل الثقافي العربي، من بينها ضرورة تبوؤ القوى الناعمة دوراً أساساً في مواجهة العنف بكل صيغه ومرتكزاته ومبرراته، والخروج من العزلة التي تعيشها النخب العربية والانخراط في عمل مؤسساتي عربي مشترك بعيد عن المؤسسات الرسمية والتقليدية.
ويعرّج الكتاب على الكتابة الليبية الشابة، مستعرضاً عدداً من إصدارتها المهمة، كما يقدم قراءات متنوعة في الرواية والشعر لعدد من الكتاب الليبيين والعرب والأجانب، يخلص من خلالها إلى مناقشة مفهوم الكتابة نفسه، في سياقات مختلفة، وفي إطار تداعيات وعلاقة مفتوحة على تقنيات التأمل والتكرار والبحث عن المحفز الجديد، وهو مبحث لافت من أهم ما تضمنه الكتاب، بعنوان «ما جدوى أن أكتب، ما جدوى الكتابة» مؤكداً أن «ما يستحق الكتابة كثير بل أكثر من حياة المرء، لكن ما لا يستحق أكثر».



«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟