الثقافة الليبية... من دولة العقيد إلى {دولة دوت كوم}

أحمد الفيتوري يرصد تحولاتها بـ«النكش في الجذور»

الثقافة الليبية... من دولة العقيد إلى {دولة دوت كوم}
TT

الثقافة الليبية... من دولة العقيد إلى {دولة دوت كوم}

الثقافة الليبية... من دولة العقيد إلى {دولة دوت كوم}

يرصد الناقد الروائي الليبي أحمد الفيتوري، في كتابه «الثقافة في وضع غائم» الصادر أخيراً في سلسلة كتاب ميادين، تجليات المشهد الثقافي الليبي، عبر أزمنة ومراحل متنوعة، ويحلل ما انطوت عليه من خصوصية أدبية وفنية في سياقات اتسم بعضها بالمغامرة والتمرد على المواضعات المستقرة، وبعضها الآخر دار في فلك السياق العام.
يضم الكتاب خمسة أقسام تتنوع ما بين الدراسات الأدبية، وقراءات في الرواية والشعر والكتب، ثم التأمل في وضعية الثقافة وجدوى الكتابة، في عالم متقلب شديد التناقض يموج بالثورات وبالكوارث والحروب.
ويكتسب الكتاب أهمية خاصة كون مؤلفه من الركائز الفاعلة في الثقافة الليبية، وله نشاط نقدي واسع في المتابعة والرصد والتحليل لفعاليتها على شتى المستويات، الأمر الذي يصفه الناقد الأدبي الدكتور يسري عبد الله في مقدمته الضافية للكتاب بأنه «محاولة لترسيخ وضعية الثقافة الليبية وتكريس مركزية الثقافة وجعلها إطاراً جامعاً للهوية الليبية، مثلما نرى في مبحث القوة الناعمة الليبية، فضلاً عن الإطلالة على الفضاءات الفنية للكتابة الليبية الشابة»، مشيراً إلى أن «ثمة نزوعاً فلسفياً في الكتاب يمثل أحد جواهره الأساسية تتجلى فيه ملامح ثقافة رفيعة لدى الكاتب خصوصاً في إشاراته إلى نيتشه، وسبينوزا، ومركزيتهما في الفكر المعاصر».
ويؤكد عبد الله أن الفيتوري «يطرح سؤالاً إشكالياً بامتياز يتصل بجدوى الكتابة، ولماذا نكتب، وهو سؤال شاغل للكثيرين إلى الحد الذي صار من الأدبيات المتجددة، ونرى أصداء له لدى كتاب عالميين، من أبرزهم ماركيز مثلاً، لكن السؤال هنا يبدو غير معنيّ بالوصول إلى إجابة، حيث تصير الكتابة مرادفاً للوجود ذاته، وعلامة دائمة على التغير الذي يعد القانون المهيمن في رؤية العالم، والتعاطي مع التراث المعرفي بوصفه تراثاً ممتداً من المعرّي إلى رولان بارت، والتماساً مع السؤال هنا يعد حلقة من حلقات البحث عن المعنى، ومجاوزة السائد والمستقر».
يطرح الفيتوري أسئلته وهواجسه من خلال النكش في الجذور، فيبحث عن فضاء النثر الليبي في كتابات اثنين من رواده: يوسف القويري والصادق النيهوم، رابطاً منحنيات صعوده بتطور الصحافة، ومشارفتها تخوم الفن، حتى وهي تقدم قصصاً ووقائع خبرية، ويرى أن ذلك شكّل امتداداً حياً لفكرة «المنثور» في التراث العربي. والذي أصبح «صُبحاً حيث انتشرت المقالة القصصية مع مطلع القرن العشرين واقترن المقال بالسرد، وتلاقى هذا الصعود مع هموم جيل 57» الذي أعاد صياغة الكتابة في ليبيا –على حد قوله– وأحدث نقلة نوعية في الكتابة وباتت نثرية سردية، حملت بذور قصيدة النثر التي اتسع مشهدها الآن في الساحة الثقافية العربية.
ومن زاوية صرامة العلم وكيف تتحول هذه الصرامة في لغة السرد الفني إلى مجال للمتعة والخيال، يتناول الفيتوري رحلة يوسف القويري (1938 - 2018) الناثر المعلم، كما يسمّيه، مركّزاً على كتابه الروائي الذي كتبه في ستينات القرن العشرين «من مفكرة رجل لم يولد»، ويرسم فيه صورة لمستقبل العالم حتى عام 2565 من خلال إيقاع الخيال العلمي والتمدد الزمني الروائي، كما يلقي الضوء على منجزه في الشعر، ومقالات الرأي، ويرى أن الوعي بجدل المألوف والمفارقة هو ما يرتقي بنثر القويري، وجعل كتابته نثرية رفيعة وليست شعرية؛ فإيقاعها مرئي خافت وهادئ، يضج بالفكرة الفلسفية العميقة دون تخرصات أو ادعاء أو تملق للقارئ بل تحفيز للتفكر وإعمال للذهن.
ويذهب الفيتوري إلى أن زمن القويري المستقبلي لم يولد بعد، لكنه مع ذلك كتبه كحقيقة متوهمة، وجسده كحلم حتى عام 2565، في روايته تلك، مشيراً إلى اهتمام عدد من الباحثين والمستشرقين بالرواية، وترجمة مختارات منها إلى الإنجليزية والفرنسية... وقد اختار الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي، القويري لكتابة مقدمة أعماله الشعرية التي صدرت في مجلدين عن «دار العودة» ببيروت.
وفي فصل بعنون «الهيبي والعقيد!»، يربط الفيتوري بين سيرة الصادق النيهوم (1937 - 1994)، الكاتب الليبي الشهير، وصداقته الحميمة للرئيس الراحل معمر القذافي، وبين الفلسفة، وحين يغوص في تفاصيل تلك السيرة، يكتشف ضلعها الناقص الذي يشكّل رأس الهرم، متجسداً في ولع النيهوم بفكرة السلطة، ويستعرض عبر وقائع ومشاهد كان حاضراً في بعضها، كيف لمس عن قرب هذا الولع، متجسداً في فكرة المثقف في عباءة السلطة. حتى إنه في أحد اللقاءات وعلى طاولة عشاء أعدها أحد رجال القذافي سخر النيهوم من الكتاب الأخضر في محاثة مع القذافي أخذت طابع المزاح والألفة: «تعرف يا خيي معمر، إنهم يتهمونني بتأليف كتابك الأخضر، هذا الكتاب مش ممكن نكتبه وإلا لا؟ وأخذ القذافي يضحك، دون أن يعلق على حديث النيهوم التهكمي، وحينها بدا لي كما لو أن (الكتاب الأخضر)، ليس في المستوى، الذي يستحق أن يُتهم النيهوم بكتابته، وأنه يتبرأ في حضورنا من هذه التهمة، وأن القذافي يمنح النيهوم هذا الحق، كما يمنح السلطان نديمه. لحظتها، ومما طالعته وسمعته، تبين لي أن الصادق النيهوم شخصية رئيسة في الكتابة والأفكار، في مسودة أُعيد صياغتها دون رضا النيهوم، ولعل لهذا منح القذافي للصادق النيهوم تلك اللحظة الاستثنائية».
وكما يوضح الكتاب هي لحظة مفارقة بالمفارقة مع علاقات متميزة لعدد من الكتاب الليبيين المعروفين بالقذافي، من بينهم خليفة التليسي، وأحمد إبراهيم الفقيه، وإبراهيم الكوني.
على هذه الأرضية يستعرض الكتاب سيرة النيهوم الأدبية، ويصفها بالغموض والعبثية أحياناً، فهي غير موثّقة وغير موثوق فيها، لأنها مليئة بالثغرات، فهو الهيبي الذي وراء كولونيل ليبيا، كما وصفته صحيفة «الصن» البريطانية في مقال عن ليبيا في أوائل السبعينات، وهو نجم النجوم ظهر الذي على صفحات جريدة «الحقيقة»، ليكتب من هلسنكي عاصمة فنلندا، عن الليبيين، مقالات ساخرة ومثيرة، تتناول مواضيع الساعة في تلك المرحلة، وتمس القضايا الساخنة من العالم، وبأسلوب ساخر وتهكمي وطازج ومثير جذب القراء، تحول صاحبه إلى كاتب الصحيفة الأول والمبرز.
ويوضح الكتاب تأثر النيهوم ببيئته المحلية، فهو كابن لمدينة متوسطية صغيرة (بنغازي)، تبدو كما لو كانت ميناء لقراصنة غدوا أشباحاً، يرسم شخصية كتاباته السردية، في شكل رجل عاطل، ليس لديه ما يفعل، سوى أن يتكئ في ركينة شارع، ليرمي المارة بنظرة ساخطة ولسان لاذع. وفي مقالاته الفكرية يبدو كمتفرج حاذق، استعار باروكة فلسفة العبث السائدة آنذاك، ومفاهيم اللامنتمي الحصيف. حتى إن أطروحته العلمية في مقارنة الأديان والتي لم يستطع إنجازها في جامعة القاهرة، ليس هناك مصدر موثوق يشير إلى أنه أنجزها بالفعل في فنلندا التي عاش فيها مرحلة شبابه العشرينية حتى غيّبه الموت بجنيف، كما لا توجد أي إشارة من الكاتب إلى حصوله عليها.
إن هذه المسحة من الغموض جعلت النيهوم -حسب وصف الكتاب- يبدو كلاعب في بركة الوحل، أراد أن يرسم على سطحها، علامته المميزة، كنجم يعطي ظهره للكرة، ويعطي وجهه وعينيه للجمهور. لكن ما يميز هذا النجم، أنه لا يستهين بجمهوره ولا بوسائل جذب هذا الجمهور، يعرف حقيقة ما يكمن في الظل، ويسلط عليه ضوءه الخاص الجذاب بتعدد ألوانه، مستفيداً من فن الشطح الصُّوفي المحلي البسيط في الزوايا والتكايا الشعبية، في رفع اللغة إلى درجة الإيهام؛ فبدت مموّهة، ومُحملة بمستوياتٍ عدة من الترميز والدلالة.
وفي فصل بعنوان «من دولة العقيد إلى دولة دوت كم» يستعرض الكتاب تاريخ الصحافة الثقافية في ليبيا منذ ثلاثينات القرن الماضي، والتحولات التي مرت بها، من مفهوم معرفي تقني يرفد الأدب والإبداع إلى مفهوم براغماتي ضيق يدور في فلك سياسات النظام الحاكم. كما يتضمن الكتاب دراسة مستفيضة شارك بها المؤلف في إحدى المناسبات بالجامعة العربية، يتناول فيها وضعية الثقافة الليبية في ضوء واقعها الخاص وعلاقتها بالمناخ الثقافي العربي العام، خلص فيها إلى مجموعة مقترحات لافتة، حول تفعيل آليات العمل الثقافي العربي، من بينها ضرورة تبوؤ القوى الناعمة دوراً أساساً في مواجهة العنف بكل صيغه ومرتكزاته ومبرراته، والخروج من العزلة التي تعيشها النخب العربية والانخراط في عمل مؤسساتي عربي مشترك بعيد عن المؤسسات الرسمية والتقليدية.
ويعرّج الكتاب على الكتابة الليبية الشابة، مستعرضاً عدداً من إصدارتها المهمة، كما يقدم قراءات متنوعة في الرواية والشعر لعدد من الكتاب الليبيين والعرب والأجانب، يخلص من خلالها إلى مناقشة مفهوم الكتابة نفسه، في سياقات مختلفة، وفي إطار تداعيات وعلاقة مفتوحة على تقنيات التأمل والتكرار والبحث عن المحفز الجديد، وهو مبحث لافت من أهم ما تضمنه الكتاب، بعنوان «ما جدوى أن أكتب، ما جدوى الكتابة» مؤكداً أن «ما يستحق الكتابة كثير بل أكثر من حياة المرء، لكن ما لا يستحق أكثر».



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.