رواية لوالد رئيس الوزراء البريطاني تنبأت بفيروس قاتل

ستانلي جونسون كتبها قبل 40 عاماً ويسعى إلى إعادة نشرها

ستانلي جونسون
ستانلي جونسون
TT

رواية لوالد رئيس الوزراء البريطاني تنبأت بفيروس قاتل

ستانلي جونسون
ستانلي جونسون

من السهل أن نتبين لِمَ يمكنها أن تكون رواية لزمننا: فيها فيروس غامض وقاتل، عالم أوبئة بطل، بحث محموم عن لقاح ونشاط سياسي ضبابي ومراوغ. وفيها أيضاً قرد أخضر.
لكن ما إذا كان الوقت مناسباً لستانلي جونسون، والد بوريس جونسون، لكي يطالب بإعادة إصدار لروايته التي نُشرت قبل 40 عاماً، فهذه مسألة أخرى.
ومع ذلك فإن الناشرين البريطانيين مدعوون إلى النظر في إعادة إصدار رواية جونسون الأكبر المثيرة التي صدرت عام 1982.
اعتمد الكتاب، الذي نفدت طبعته منذ فترة طويلة على انتشار مرض حقيقي في ألمانيا أواخر ستينات القرن الماضي. وقد أنكر جونسون أنه ينتهز الفرص حين طالب بتوفير روايته مرة أخرى. يقول: «أنا كاتب محترف. هل من الآن الانتهازية أن يكتب الصحافيون والصحف عن فيروس (كورونا)؟». أشار إلى أعماله المثيرة السابقة التي تصدت أيضاً لقضايا معاصرة، آخرها كتابه «كومبرومات» الذي يروي قصة تأثير روسي ماكر على السياسات الغربية.
قال جونسون إن في روايته توجساً بالمستقبل، وذلك في أن الحبكة كانت مدفوعة بحاجة ملحّة إلى العثور على لقاح. «لا أعتقد أن الرواية تشطح في الخيال. انظر ما الذي يحدث الآن».
الرواية مغامرة بيئية وطبية متسارعة الأحداث وتشمل تجارة حيوانات غير مشروعة، ومديري شركات أدوية فاسدين، و«كي جي بي» والرئيس الأميركي المستميت في تحقيق الانتصار.
في قصة جونسون؛ نيويورك مساوية لووهان، والفيروس ينطلق من حديقة حيوان حي البرونكس. نتيجة لذلك يمنع بقية العالم السفر بالطائرات من الولايات المتحدة. الشخوص الرئيسة مشغولة بمحاولات يائسة لملاحقة جيل نادر من القردة الخضراء لأنها مصدر الفيروس.
بعض الحبكات أقل واقعية من بعض. أحدها يتصل برئيس برازيلي لمنظمة الصحة العالمية ومساعده، وهو روسي خبيث يستعمل نظارة بعدسة واحدة ويتحدث إنجليزية الطبقة الأرستقراطية، يسافر إلى الكونغو ليشرف شخصياً على القضاء على القردة المسؤولة عن الفيروس – أو هكذا يظنون.
يقول جونسون إن في روايته دروساً يمكن الإفادة منها لأنه يرى أن جهوداً أكبر يجب بذلها الآن لتتبع مصدر الجائحة الحالية.
يقول جونسون: «بدلاً من التركيز على سوق ووهان (الرطب) على الناس أن يبحثوا عن انطلاقة محتملة للفيروس من حيوان استُعمل في مختبر أبحاث سري في ووهان». كلامه يذكّر بادّعاء دونالد ترمب غير المثبت بأنه رأى دليلاً على أن الفيروس جاء من معهد ووهان لعلم الفيروسات.
وأضاف: «عندئذٍ بالطبع سيبدأ السباق للعثور على المكان الذي أتى منه الحيوان أو مجموعة الحيوانات لكي يمكن تطوير لقاح ينقذ العالم في وقت قياسي».
النداء الموجّه من مندوب جونسون الأدبي، جوناثان لويد من وكالة «كيرتس براون»، للناشرين البريطانيين يحثهم على شراء ما يصفه بأنه «عمل مثير وذكي وتنبؤي على نحو مرهق للأعصاب».
يقول النداء: «حين تموت شابة من مدينة نيويورك بشكل غامض بعد رحلة إلى أوروبا، يحدد أبرز المختصين بالأوبئة، لوويل كابلان، سبب الوفاة بأنها فيروس ماربورغ –سلالة قاتلة ظهرت مرة واحدة عبر التاريخ. يتتبع كابلان المرض بإصرار يضعه على طريق من التساؤلات يمتد من مختبرات ألمانية إلى غابات في وسط أفريقيا».
لويد «يبحث عن ناشر يمكنه الاستثمار في الفرصة الرائعة التي يوفرها سجل حياة ستانلي ويجعل من هذه الرواية الملحّة والمبهجة متاحة لجمهوره الواسع، في وقت يبدو ذلك تنبؤياً على نحو مخيف»، كما يقول.
يصف النداء جونسون بأنه «مشجع ممتاز ولا يكلّ» ويتضمن الأمل أن الناشرين «يمكنهم الموافقة على أن هذه فرصة مثيرة لاستعادة هذا الكتاب بالطباعة مرة أخرى (أولاً في شكل كتاب إلكتروني)».
نُشر الكتاب في الولايات المتحدة تحت عنوان «الفيروس» لكن سيتضح إن كان الناشرون البريطانيون سيهتمون به.
يقول جونسون إن «أمازون» تتقاضى 57 دولاراً للطبعة الورقية الغلاف، «وهذا يشجع أكثر على إصدار نسخة جديدة الآن»، كما قال: «إنني أتمنى أن يحدث ذلك... لقد استمتعت كثيراً بكتابته».
المراجعات التي نُشرت عن الكتاب قليلة ومختلطة. ما كُتب عنه في «غود ريدز» يتراوح بين الثناء على «الأحداث الشديدة السرعة» إلى ردود الفعل الأقل توهجاً: «وصلت إلى ثلث الكتاب قبل أن أبدأ بالانزعاج من غبائه فأتوقف».
غير أن قارئاً آخر في ذلك الموقع لاحظ عام 2015 أن نبوءة الكتاب محتملة الوقوع: «الشيء المخيف حقاً أنه لأننا نعيش في عالم مخيف يمكنني تصور كل أحداثه وقد وقعت». كما ذكر الكاتب أنه تلقى نسخة مباشرة من المؤلف.

اقتباس من الرواية
كان الدكتور لوويل كابلان، رئيس مكتب علم الأوبئة في المركز الوطني للسيطرة على المرض في أتلانتا، جورجيا، يُجري اتصالاً هاتفياً باليابان. بدا قلقاً. كان قلقاً. أزاح إلى الخلف خصلة شعر رمادية سقطت على جبينه وانحنى إلى الأمام بينما كان يتحدث وكانت الطاقة المكبوتة واضحة على كل خطوط جسده.
«أوكي»، كان يصرخ في الهاتف. «إنه يختلف عن أ - برازيل، لكن هل يمكن أن يكون جائحة؟ ذلك هو السؤال».
ترجّته: «لوويل لا تذهب. ليس الآن. أريدك الليلة».
مارسا الحب في سرير نحاسي مظلل وعالي الأركان كانت ستيفاني قد اشترته من محل يبيع الأشياء العتيقة على شارع «لي هاليس» حين جاءت إلى باريس لأول مرة. بات كابلان تلك الليلة.
تناولا فطورهما في السرير. ثم دفعا الصينية بعيداً ومارسا الحب مرة أخرى. لم يعد الإلحاح الذي كان في المساء السابق قائماً. كان الأمر كما لو أن نهراً تفجر من خلال سد. الآن، بعد اضطراب، عاد الماء يجري بسلاسة مرة أخرى.
كانت ردة فعل الرئيس، بمجرد أن أُخبر عن الأزمة، سريعة. «لماذا بالله عليكم ليس لدينا لقاح؟ أنتم أيها الناس» – كان يخاطب اجتماعاً طارئاً للمسؤولين الفيدراليين ومسؤولي الولاية عن الصحة. «هناك لقاح ضد الحصبة والإنفلونزا والسعال الديكي وحتى البرد اللعين. لماذا إذاً تفتقرون إلى لقاح ضد ماربورغ ما دام أخطر مرض عرفه الإنسان؟».

- نُشر هذا المقال في جريدة «الغارديان» بتاريخ 1/5/2020



رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله
TT

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله

فجع الوسط الثقافي والتشكيلي العراقي بالرحيل المفاجئ والمأساوي للنحات مكي حسين، الذي مات وحيداً في شقته التي كان يقطنها بالملجأ الألماني، ولم تكتشف جثته إلا بعد أربعة أيام بعدما اقتحمت الشرطة الشقة، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله يواجه مصيراً مجهولاً.

ولد الراحل في مدينة البصرة عام 1947، ودرس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه عام 1968. وأصبح عضواً في جمعية التشكيلين العراقيين منذ سنة تخرجه، ثم عضواً في هيئتها الإدارية في عام 1971. غادر العراق، مثل مئات المثقفين العراقيين، بعد حملة النظام العراقي السابق على معارضيه، ثم التحق بحركة الأنصار اليسارية المسلحة في كردستان العراق، وبعدها رحل إلى سوريا ثم إلى منفاه الأخير في ألمانيا.

في عقد السبعينات من القرن الماضي، شارك مكي حسين مع فنانين عراقيين في معارض عديدة، وواصل نشاطه بعد مغادرته العراق عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله «صرخة من عمق الجبال» الذي أدان فيه مجزرة «بشتاشان» ضد فصائل الأنصار في كردستان.

من أعماله

تميزت تجربة مكي حسين، كما يتفق معظم النقاد، بـ«قدرة استثنائية» على جعل «البرونز» قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول «الرجل صاحب الجناح» انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع «الجسد المحاصر». إن منحوتاته، كما يقول أحد النقاد، لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي «أجساد منتزعة من عذابات الضحايا، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته».

ويقول الناقد العراقي عادل كامل عن أعماله: «لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءاً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم العلمي لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، حقوق المرأة... إلخ، كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي، ذاكرته الجمعية، كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني».


هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.