«رجل من زمني»... عالم ينزع نحو الظلام

روائية أميركية من أصل إيراني تستلهم أحداث أرضها الأولى

غلاف الرواية
غلاف الرواية
TT

«رجل من زمني»... عالم ينزع نحو الظلام

غلاف الرواية
غلاف الرواية

«كنا جيلاً محذوفاً، أقرب إلى حازوقة في مسيرة التاريخ»، هكذا تحدث حميد مظفريان، القاص في رواية «رجل من زمني» من تأليف داليا سوفير. كان يتحدث عبر الهاتف مع شقيقه، الذي غادر إيران متجهاً إلى نيويورك برفقة والديهما أثناء اشتعال ثورة عام 1979. بينما ظل حميد الذي كان ذات يوم ثورياً مثالياً في إيران. وبمرور السنوات، لم تسر الحياة على ما يرام لأي منهما، وذلك في خضم عالم «ينزع نحو الظلام»، حسب وصف إحدى شخصيات الرواية.
وعبر صفحات روايتها الأولى «شهور سبتمبر في شيراز» الصادرة عام 2007. تستكشف سوفير، التي نشأت في أسرة إيرانية يهودية رحلت إلى الولايات المتحدة عندما كانت في الـ11 من عمرها، السنوات التي أعقبت الثورة. وفي الرواية التالية التي تكمل عملها الأول، تطرح سوفير تصويراً مطولاً ومتعدد الطبقات لحياة رجل عبر عقود عدة حمل خلالها معه عناصر متناقضة من جمال ووحشية، وثورة وقمع من تاريخ بلاده.
يرافق حميد رئيسه، وهو وزير بالحكومة، في زيارة إلى نيويورك لحضور اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، على أمل أن ينجح في استعادة لوحة مسروقة داخل مخزن في كوينز لحاج أبدعها الرسام الإيراني رضا عباسي في القرن الـ16. وسرعان ما ندرك المفارقة الساخرة في سعي حميد وراء استعادة عمل فني اعتبر سرقته «مسألة تثير الغضب الوطني»: فرغم أنه كان ذات يوم فناناً ناشئاً ويطمح للعمل بمجال رسوم الكرتون، انتهى به الحال إلى قضاء الجزء الأكبر من حياته كمحقق تابع للدولة و«حكم متجهم يقضي في مصائر الناس» ويعمل على إسكات أصوات الفنانين الإيرانيين.
أيضاً، داخل نيويورك توجد رفات والد حميد، وكان بروفسوراً في تاريخ الفنون ومسؤولاً رفيعاً سابقاً في وزارة الثقافة في عهد الشاه، وكان قد توفي للتو بعد عقود من آخر محادثة جرت بينه وبين حميد. وسيرحل حميد في النهاية من دون لوحة عباسي، لكن حاملاً جزءاً من رماد جثمان والده داخل علبة معدنية صغيرة لحلوى النعناع داخل جيبه، وذلك لأن الأمنية الأخيرة لوالده كانت أن يدفن في وطنه.
وتأتي أحداث الرواية في الجزء الأكبر منها تستعاد من الماضي، بينما دراما الوقت الحاضر، رغم أهميتها المحورية، فإنها تتلقى اهتماماً أقل بكثير عن الطريق التي قطعها حميد من كونه «شخصاً ثورياً تتملكه الحيرة إلى أسير كهل لحياة اتخذت منحى خاطئاً». ويحضر حميد ويفسد مأدبة العشاء التي أقيمت إحياءً لذكرى والده في نيويورك، ويلتقي (عبر سلسلة من الأحداث المواتية على نحو مبالغ فيه) رجلاً تولى هو بنفسه الإشراف على إعدام عمه، ويحاول التصالح مع ابنته الناضجة، ويناضل من أجل إيجاد الوقت والمكان المناسبين لنشر رفات والده في بلد تحرم سلطاته حرق جثث الموتى.
ونقضي وقتاً أطول في طفولة حميد ومراهقته المضطربة وفترة الشباب الأولى المفعمة بالغضب. أما الثمن الذي ندفعه نحن والكاتب عن قراءة قصة تنظر إلى الوراء أننا نجد أنفسنا في النهاية تماماً عند النقطة التي كانت تسير نحوها الأحداث، أما نقطة الفضول الكبرى لدينا فتبقى كيف آلت الأوضاع إلى هذه الحال. إلا أنه لحسن الحظ يؤتي هذا الأسلوب هنا بثمار ثرية، ذلك أن مواهب سوفير الكبيرة والخيانات التي تعرض لها حميد من نفسه ومن آخرين وتركته في النهاية شبحاً للرجل الذي كان عليه من قبل، تبقى جديرة حتى نهاية القصة باهتمامنا وكامل تركيزنا.
ويبدو أن قصر النظر يشكل نقطة الضعف التراجيدية في شخصية حميد، فمثلما الحال مع الكثير من الشخصيات المثالية حسنة النية، سواء في أنظمة سابقة أو حاضرة، يدرك حميد جيداً أن باستطاعته من خلال منصبه كمحقق خلال حقبة ما بعد الثورة تقويض النظام من الداخل. إلا أنه بدلاً عن ذلك يتنقل بخطوات متثاقلة من طرح مبررات مهتزة إلى السقوط في مستوى من الخيانة يتعذر وصفه، لينتهي به الحال إلى التحسر قائلاً: «ببطء شديد أصبحت أنا النظام».
في أحد المواقف يخبر حميد شقيقه بأنه: «أنت ـ أنتم جميعاً يا من رحلتم ولم تعودوا ثانية قط ـ تجمد بكم الزمن». وفي مشهد آخر يقول أكبري، اللص الثوري الذي ينتهي به الحال لأن يصبح رئيس حميد في العمل صاحب الشخصية المرعبة: «بعض الناس تخلق والبعض الآخر يدمر. أنا وأنت من المدمرين». وفي خضم حالة الضباب الأخلاقي التي تشكل روح بطل الرواية، من المفيد وجود بعض العلامات الإرشادية الكبرى لاتباعها، لكن سوفير هنا تطرح لنا ما هو أعقد بكثير من مجرد إجابات قوية. ولا تحمل الرواية بأكملها عبارة أو وصفاً واحداً يمكنه إيجاز شخصية حميد أو الحياة التي يكابدها.
ونظراً لإدراكها مخاطبتها لجمهور غير متمرس في التاريخ الفارسي، تخرج سوفير عن عادتها بتقديم خلفية تاريخية - أحياناً، ببراعة في صورة قصاصات إخبارية قديمة، وأحياناً في صورة أكثر ثقلاً عبارة عن حوار توضيحي. على سبيل المثال، يخبر والد حميد القاص في مشهد من أيام الطفولة: «كانت بدايته في الثورة الدستورية عام 1906»، في إشارة إلى رئيس الوزراء المنفي، محمد مصدق. وأضاف: «عندما كان رئيساً للوزراء، أقر إصلاحات تتعلق بالأمن الاجتماعي وامتلاك الأراضي، وكان سبب سقوطه، مثلما يعرف الجميع، تأميم صناعة النفط، والتي كانت خاضعة حتى تلك اللحظة لسيطرة البريطانيين». ورغم أن مثل هذه المعلومات قد تكون مفيدة لقارئ غير مطلع على التاريخ الإيراني، فإنها ربما تبدو مفرطة للغاية في إطار محادثة مع طفل في طريقه إلى منزله بعد زيارة لطبيب الأسنان.
وبالمثل، فإن العبارات الفارسية، وأغلبها اصطلاحية، المنتشرة عبر الحوار في الرواية تجري ترجمتها للقارئ على امتداد صفحات الكتاب - وغالباً، ما تجري ترجمتها على لسان الشخص الذي نطق بها لتوه، ما يبدو مثيراً للحيرة. في بعض الأحيان، تتمكن سوفير من التعامل مع هذا الأمر على نحو طبيعي، بينما تحشر الترجمة في أحيانٍ أخرى على نحو يبدو بلا معنى.
ويثير كل ذلك علامة استفهام كبيرة حول ليس من الذي يخاطبه هذا الكتاب، وإنما من يجري قص أحداث الرواية عليه. لمن يحكي حميد مظفريان هذه القصة؟ ولمن يعمل، نظرياً، على شرح نفسه. في الواقع، يوحي التفحص الذاتي الذي يعايشه في نيويورك ومن بعدها في طهران لدى عودته إليها، بأن هذا الصوت موجه نحو الداخل ويخاطب الذات. أو ربما يكون الجمهور الذي يضعه نصب عينيه هو أسرته، ووالده المتوفى الذي ترك إرثاً يجد حميد نفسه في دوره كمدمر، يبجله ويمحيه في الوقت ذاته. ومع هذا، تبدو زاوية الرواية موجهة نحو شخص من الخارج يتابع بشغف - وثمة خلاف حقيقي بين التزام القاص بالحديث إلى الداخل والمجهود الكبير الذي يبذله في شرح نفسه. ويبدو هذا الصراع الدائم الذي يواجهه أي كاتب يفتقر إلى التوافق الكامل بين جمهوره المتخيل والجمهور الفعلي للعمل الأدبي. ومع هذا، تبقى هناك حلول أكثر إبداعاً عن تلك التي لجأت إليها الروائية في هذا العمل.
ومع ذلك نجحت الرواية في رسم ملامح حياة حميد بإبداع ودقة، وتبدو في مجملها عملاً مبهراً في رسم طبقات من الزمن والتناقضات التي تكشف لنا خبايا روح بشرية بعمق شديد ـ وهي مهارة تحسد عليها الكاتبة وتعتبر ضرورية كي تنجح في ربط القراء بشخصية رغم كل محاولاتها الحثيثة لتحسين الذات، يبقى من المتعذر أن يغفر لها القارئ. إلا أنه مثلما شرحت ابنة حميد، غولناز، التي تجابه صعوبة كبيرة في التصالح معه: «الغفران ليس النقطة، وإنما أفضل ما يمكنني عمله أن أحاول أن أستوعب».
وربما لست الوحيدة التي ترى في هذا الانقسام ملمحاً شخصياً، فقد انتقل والدي إلى الولايات المتحدة كلاجئ في أعقاب ثورة الطلال الفاشلة في المجر عام 1956. وفي الأسبوع ذاته، الذي قرأت فيه عن رحلة حميد مع رماد والده، وجدت نفسي مضطرة في خضم الحجر الصحي المفروض على شيكاغو بسبب الوباء، إلى تقبل فكرة أنني لن أتمكن من السفر إلى المجر هذا الربيع لدفن رماد والدي في بودابست، حيث عاد في عمر الـ80. ومثلما الحال مع الكثير من الأطفال الذين تشكلت حياة والديهم من جانب مسارات تاريخية شديدة الاختلاف عن تاريخ أبنائهم ـ ومثل غولناز وحميد ـ وجدت بعض الأحيان من الصعب الغفران والاستيعاب.
وبينما تشكل سوفير جزءاً من جيل لافت من الكتاب الإيرانيين - الأميركيين الذين يكتبون عن أسر ممزقة وعوالم مقسمة وأرواح منشطرة. كما أنها تعتبر جزءاً من تقليد أميركي طويل: الكاتب يعيش بروحه المبدعة هنا وفي أرض خيالية في زمن آخر، بينما تخيم الجذور العائلية أو الشخصية بظلالها الواسعة على القصة. في الواقع، دائماً ما كان القلب النابض للأدب الأميركي أولئك الذين ينظرون نحو الخلف والأمام، داخل أميركا وفي العالم. ورغم أنهم ليسوا بالضرورة أعضاء أجيال محذوفة، لكنهم يملكون أكثر من رأس ويكتبون عن أشياء أكثر صعوبة عن مجرد الغفران.

-خدمة «نيويورك تايمز»



سردية ما بعد الثورات

سردية ما بعد الثورات
TT

سردية ما بعد الثورات

سردية ما بعد الثورات

لا تؤجل الثورات الإفصاح عن نكباتها، هي جزء من حاضرها، وتوقها إلى التحقق، وتلافي تكرار ما جرى، بيد أنها سرعان ما تصطنع مآسيها الخاصة، المأخوذة برغبة الثأر، وتصفية الخصوم، وعدم السقوط في براثن الثورات المضادة، من هنا تضحى المذكرات والسير المرافقة لوقائع التحول، داخل الأنظمة والدول، سردية لوعي الضحايا والهاربين والمنتصرين على حد سواء. ولا جرم بعد ذلك تتجلى تفاصيل العمر القديم وكأنما من عمق لحدي، وجوه متقلبة لشخص يَمْثُلُ بوصفه «آخر»، بوقائع وأهواء وصلات منتهية، وصداقات تعيد تركيب كلام منسي، ومواقف تنأى عن الحاضر، عن الشخص الملتفت إلى وقائع الذاكرة البعيدة. إنه الإحساس الذي ينزغنا، من الوهلة الأولى، بعد الانتهاء من كتاب «قافلة الإعدام: مذكرات سجين في طهران» (دار الساقي، بيروت، 2023) لبهروز قمري المؤرخ وعالم الاجتماع الإيراني وأستاذ دراسات الشرق الأدنى بجامعة برنستون.

حمل الكتاب في الطبعة الإنجليزية (الأصل) عنوان «في تذكر أكبر: داخل الثورة الإيرانية»، ولم يكن «أكبر» إلا الاسم الذي سعت السيرة إلى استعادة ملامحه الممحوة من شاشة الذاكرة، استنباته في تربة أخرى، لطالب الجامعة والمناضل الشيوعي، والحالم المشارك في يوميات الثورة الإيرانية، ثم المعتقل السياسي، المحكوم بالإعدام، ضمن المئات من المحكومين الآخرين، المنتظرين تنفيذ العقوبة في سجن إيفين الرهيب، الذي خصصه «الملالي» لتصفية خصومهم الآيديولوجيين، بعد تسلمهم الحكم.

لقد درج عدد كبير من الأكاديميين الإيرانيين على التأريخ للثورة، وتحولات المجتمع الإيراني في تلك السنوات المفصلية، من لحظة سقوط الملكية إلى استحواذ نظام الولي الفقيه على السلطة، على نموذج السيرة الروائية، فمن كتاب «آذر نفيسي» المعنون بـ«أن تقرأ لوليتا في طهران»، إلى كتاب «بردة النبي» لـ«روي متحدة»، تواترت نصوص سردية عديدة عن السنوات الثلاث الأولى للثورة الإيرانية، وما تخللها من صراع نكد بين فرقائها، من الشيوعيين إلى الليبراليين الديمقراطيين، ومن الاشتراكيين إلى القوميين والأقليات الإثنية، ومن رجال الدين إلى طلاب الجامعة الراديكاليين، ومن الملالي إلى «اليساريين الإسلاميين»، وغيرهم ممن انتهى بهم الحال إلى الدفاع عن قناعة امتلاكهم وحدهم «المعنى الحقيقي للثورة»؛ ومن ثم ستسعى تلك التخاييل السردية إلى محاولة فهم ما جرى من انقلاب في الاصطفافات النضالية، ومن صدام دامٍ، ومن تمزقات، وتحولات في المشهد، تكاد لا تستند لمنطق، وتحتاج للتعبير الروائي لتصوير مفارقاتها والتباساتها، ذلك ما سعى إليه مجدداً بهروز قمري في كتابه «قافلة الإعدام».

في الأسطر الأولى من السيرة يقول السارد ما يلي: «متُّ في السابعة والنصف من صباح 31 ديسمبر (كانون الثاني) 1984. لا أقول ذلك مجازاً، وإنما بالمعنى الحقيقي للوجود. في تلك اللحظة تماماً، وضعت قدماً في العالم الآخر مع توقيع متردد ذيل قرار الإفراج... هكذا متُّ، بالخروج من عالم لا يمكن تصوره، ودخول عالم مرتبك من التفاهات، تركت نفسي السابقة في مكان يوجد فقط في شروط مستحيلة» ص9-13. وعبر فصول الكتاب الـ26 تتخايل تدريجياً الحياة المنتهية للشخص الملتبس بالاسم الحركي: «أكبر»، الذي كان قبل أزيد من 4 عقود معتقلاً سياسياً أصيب بالسرطان، عالم جحيمي يركب مفصلاً عابراً في حياة لا تتجاوز 3 سنوات، داخل سجن سياسي بطهران، استضاف «أعداء الثورة» لاستراحة ما قبل الإعدام.

على هذا النحو تقدم لنا السيرة الروائية تفاصيل عودة «أكبر» (الاسم الحركي لبهروز)، من تجربة تنفيذ حكم الإعدام، بعد مضي عقود على خروجه من المعتقل «لأسباب صحية»، كان السرطان الذي تفاقم في جسم المعتقل اليافع، سبباً في الإفراج عنه، فقد كان شخصاً ميتاً، بحكم وضعه الصحي، ولا يحتاج لأن يحال على المشنقة. بعد خروجه وإثر مصادفات شتى انتهت به إلى الولايات المتحدة، وإلى علاج كيميائي قاسٍ، كلل بشفائه التام، وعودته من تجربة موت محقق. فتحول تاريخ خروجه في 31 ديسمبر من سنة 1984، إلى لحظة لاستعادة تفاصيل ما جرى في معتقل إيفين، وإلى استرجاع ملامح وأسماء وحيوات رفاقه في الزنازين، وفي تجربة الانتظار؛ انتظار تنفيذ حكم الإعدام الذي يختصر في جملة يطلقها الحارس على حين غرة، منادياً اسماً معيناً، طالباً منه: «جمع أغراضه»، وعبر مساحات الاستعادة المرمّمة للوقائع والأحاسيس، والمتخيلة للكلام المنسي، تنبت تأملات في تحولات البلد والناس، كما تستدرج للسيرة سير أشخاص عاديين ممن واكبوا منعرجات الثورة في الشوارع والمصانع والجامعات والمقاهي والحانات، من حكاية الكحول والعمل النقابي وصناعة الأحذية، إلى حكاية الهروب من حظر التجول، إلى صور مناضلين ركبت أحلامهم الثورية على شغف بأشعار حافظ والموسيقى الأذربيجانية... على ذلك النحو انتسجت ملامح شخصيات: «علي» و«شاهين» و«غُلام» و«داوود» و«منصور» و«برهام» و«أصغر» و«صلاح»، ممن شيعهم «أكبر» مع بقج متاعهم الصغيرة إلى باب المغادرة النهائية.

«نصر الله»، «الخال حسين»، «ما العمل؟»، «المنزل الآمن»، «سيمفونية ميلر الأولى»، «التروتسكي»، على هذا المنوال صيغت عناوين فصول السيرة، المنطوية على حكايات لحظات وصفات وسجايا، وطرائف، سكبت في فجوات زمن التحقيق والتعذيب والمحاكمة، ومعايشة برودة زنازين المعتقل، وانتظار نداءات مدعي عام الثورة «أسد الله لاجوردي»، لتعيد الفصول تركيب صور حياة يومية مأخوذة من مفارقات الصخب الثوري، داخل فضاءات مغلقة تملأ بنقاشات الأسرى واسترجاعاتهم، في تلك الحكايات نتعرف على حكايات صناع الأحذية مع النقابات الممنوعة، والأدبيات الماركسية المتنقلة عبر الأيدي في نسخ صغيرة، مخبأة ككنوز مهربة، نكتشف مواسم القراءة تحت اللحاف في الليل بمصابيح عمال المناجم، كما نصاحب النقاشات السياسية المحمومة بين الخصوم/ الشركاء في الثورة، عن فائض القيمة والعنف الثوري، كما نلتقط شذرات الشعر الطليعي جنباً إلى جنب مع الأشعار الكلاسيكية، مع تخايلات موسيقية ومسرحية، وطبعاً حكايات الصمود أمام آلة التحقيق الجهنمية، ونوازع الانتقام البارد، وفناء الذوات في الحشود، والمواهب في الشعارات.

لكن ما يوحد مقامات تلك الفصول في الغالب الأعم هو انتظامها على إيقاع التحقيق والمحاكمة وانتظار دعوة الحارس للخروج النهائي، فعبر تلك الفواصل يكتشف القارئ أمزجة وطبائع بشرية شتى، وقدرات خارقة على الصمود، وضعف بديهي يفضي إلى التراجع والتنكر للقناعات وطلب العفو. بين تلك المدارات تتكشف قدرات تحويل المأساة إلى طاقة للهزل، والتخفف من رهاب الموت والتصالح مع قرار الذهاب إلى الإعدام، ذلك ما يفسر تلك القدرة على استنبات السخرية في فجوات الصمت والألم والعلة: «كانت الغرفة مليئة بدخان السجائر، نحن نصنع غرفة إعدام بالغاز، قال السيد الصالحي بمحاولة باهتة للمزاح».

كانت التفاصيل المفعمة حماساً وعمقاً وتشبثاً بالمعنى، واستحضاراً للأشعار والموسيقى، تُطل لتبديد سطوة الحراس والمحققين، وجعل الخروج النهائي مجرد إجراء عابر، مفرغ من الفجائعية، لهذا كانت محاولات الإقناع المتبادلة بين المعتقلين ليست عن الموت وإنما عن الحياة، عن السياسة والثورة والماركسية والفكر الإسلامي والعمال والحركة الطلابية وانتظارات الإيرانيين منهم، ومدى أخلاقية التراجع تحت وطأة التعذيب، ومصداقية التحولات الفكرية الأخيرة. كان النقاش بصدد ضمائر منذورة للحياة، لا بين أجساد ذاهبة لموت محتوم، يقول السارد في الأسطر الأخيرة من فصل يحمل عنوان «اعتراف»: «أعدمت منية هدائي بعد شهرين من رفضها سحب إنكارها لتراجعها. ألقى حسين روحاني اثني عشر خطاباً آخر، ظهر في ثلاثة منها كماركسي ولد من جديد يدافع عن سنواته في (بيكار)، وفي ثلاثة أخرى كماركسي رفض أجندة (بيكار) السياسية، لكنه دافع عن آيديولوجيتها الثورية. وظهر خلال محاضراته الستة الأخيرة كناقد إسلامي للماركسية وأعلن أنه أخيراً وجد الله بصدق. أعدم بعد وقت قصير من ذلك». (ص168)