مأساة الكتّاب الروس... من «ثورة أكتوبر» حتى زوال الاتحاد السوفيتي

منهم من انتحر أو نفي إلى سيبيريا أو أُودع المصحات العقلية

مأساة الكتّاب الروس... من «ثورة أكتوبر» حتى زوال الاتحاد السوفيتي
TT

مأساة الكتّاب الروس... من «ثورة أكتوبر» حتى زوال الاتحاد السوفيتي

مأساة الكتّاب الروس... من «ثورة أكتوبر» حتى زوال الاتحاد السوفيتي

بعد انهيار النظام السوفياتي، عام 1991، قامت دور نشر كبيرة بإصدار روايات وأشعار ومجاميع قصصية لكتاب روس لم يستطيعوا نشرها في ظل النظام السابق، وبعضهم دفع حياته ثمناً لها، معلنة حقائق دامغة عن معاناة الكتاب الروس في ظل النظام السابق، خصوصاً الفترة الستالينية!
كتاب الدكتور جودت هوشيار «مأساة الكتاب الروس»، الصادر عن «دار الزمان» عام 2019، يخوض في تفاصيل ذلك، كاشفاً الكثير من الوقائع والحقائق عن معاناة الكثير من الكتاب الروس، حيث أعدم بعضهم، أو انتحر، أو نفي خارج البلاد، وإلى أصقاع سيبيريا، أو أودعوا المصحات العقلية. وكل جريرتهم أنهم عبروا عن صدمتهم من الحياة المنافية للقيم الإنسانية، التي ادعى ثوار أكتوبر أنهم جاءوا من أجلها، ورفضوا أن يكرسوا إبداعهم للدعاية للحزب الشيوعي ولستالين بالذات!
مؤلف الكتاب درس وعاش في الاتحاد السوفياتي السابق منذ الستينات، وقد وجد مصادره من الوثائق، والكتب، وأستاذته ومعارفه الموثوقين!
يتحدث الكتاب كيف أن المثقفين الروس عقدوا آمالاً كبيرة على الثورة الشيوعية، وساندوها! غوركي، مثلاً، تبرع للثوار ببعض أمواله. لكنهم وجدوا أن الشيوعيين ما إن انتصروا حتى تحولوا إلى سلطويين يتنكرون للمثقفين باستثناء كتبتهم الحزبيين، ناظرين إليهم على أنهم لا يمتلكون صلابة العمال وثوريتهم؛ فعاملوهم بإهمال وإذلال!
ذلك جعل المئات من المبدعين يرحلون إلى المنافي! وقد أشرف تروتسكي على تنظيم قوافل طردهم قائلاً إن قتلهم لا يجدي نفعاً، والأفضل الخلاص منهم بموتهم في المنافي، (تروتسكي نفي ثم قتل)!
فرض على المبدعين أن ينتجوا وفق قواعد سميت بالواقعية الاشتراكية أو بالجدانوفية، نسبة إلى أندريه جدانوف عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي، وزير الثقافة آنذاك (يقابل غوبلز في الثقافة النازية)، الذي سعى لتطبيقها بصرامة وقسوة، ما جعل المبدعين محكومين بالتفاؤل الإجباري وتمجيد النظام انتظاراً لجنة الشيوعية!
شارك غوركي، جدانوف، في وضع أسس ومفاهيم الواقعية الاشتراكية، رغم اختلافهما في بعض الأفكار!
يشير الكتاب إلى أن ميخائيل شولوخوف، صاحب رواية «الدون الهادئ» الشهيرة، الحائز على «نوبل للآداب» 1965، كان يساهم في التحقيق مع الكتاب، وإلى أن الآلية التي قام بها الشيوعيون بتدمير الإبداع كانت تعتمد الترهيب والترغيب، فانقسم الكتاب تلقائياً إلى: كتاب امتثلوا لضمائرهم، وكتبوا بصدق وعمق عن الواقع المكتظ بالفساد والقمع، فأعدموا، أو سجنوا طويلاً، أو نفوا إلى سيبريا الثلجية، ليموتوا ببطء، ويعد محظوظاً من اكتفوا بفصله من اتحاد الكتاب، أو من وظيفته، وانتزعوا منه بيته، وتركوه لأرصفة الجوع والتشرد!
آخرون، وهم الأكثرية، أرغموا على الخنوع، والكتابة وفق مواصفات الحزب، فلم ينتجوا سوى أدب دعائي رديء! باحثون قالوا إن الأدب الروسي الحقيقي هو ما أنتج في العهد القيصري، أضيف إليه الأدب المستعاد المنتج سراً، وأحتفظ به الكتاب لدى أصدقائهم أو أقاربهم، ولم ينشر سوى بعد موتهم، وسقوط حكم الشيوعيين!
في مثل هذه الظروف، انتحر الشاعر سيرغي يسينين بشنق نفسه في غرفة الفندق في ليننغراد عام 1925 وكان في الثلاثين من العمر، ولم تنقطع التكهنات بضلوع النظام القائم في قتله!
وأودت الخيبة بالشاعر مايكوفسكي الذي غنى للثورة الاشتراكية، بكل جوارحه، إلى كآبة شديدة فأطلق الرصاص على رأسه، محدثاً ذهولاً كبيراً لدى الناس!
ثم توالت مآسي ونكبات الكتاب والمبدعين: الشاعرة المتميزة مارينا تسفيتايفا انتحرت، والشاعر أوسيب مندلشتام اعتقل بسبب قصيدة تعرض فيها لستالين وتوفي في معسكر الاعتقال! الكاتبان المعروفان بوريس بيلنياك وإسحق بابل حكم عليهما بالإعدام، بتهم مدبرة، وأعدما سريعاً، وثمة مئات الكتاب والشعراء الأبرياء أزهقت أرواحهم دون ذنب! والكاتب ميخائيل بولغاكوف، اعتقل، ولُوحق، ومنع نتاجه من التداول لحقب طويلة، حتى بزغ بعد انهيار النظام السوفياتي كأحد أهم كتاب الرواية والمسرح! وكانت حياة الكاتب فاسيلي إكسينوف وحدها رواية مأساوية فظيعة: عندما كان في الخامسة اعتُقلت والدته، وكانت أستاذة جامعية، حكم عليها بالسجن 18 عاماً مع النفي، ثم سجن والده وحكم عليه بالسجن مع النفي أيضاً، وأرسلت السلطات الصبي فاسيلي إلى ملجأ «أطفال أعداء الشعب»، عَمّ يكتب فاسيلي وقد صار كاتباً؟ هل ينسى أو يتجاهل ما عاناه مع والديه؟ راحت السلطات تراقبه وتحاصره وتدقق فيما يكتب حتى اضطر لمغادرة البلاد!
وعن معاناة مكسيم غوركي. يورد الكتاب حدثاً أليماً جداً: فقد ابنه بشكل غير متوقع. ذكروا رسمياً أنه مات بالتهاب رئوي، لكن غوركي وأسرته لم يصدقوا ذلك، وأيقنوا أن موته كان مدبراً، وأن هذا كان عقاباً للكاتب الذي رفض كتابة رواية عن ستالين وسيرته! بعد سنوات مات غوركي في ظروف غامضة، ويقال إن ستالين أمر بقتله طبياً، ثم حمل جنازته على كتفه إلى مثواه الأخير!
تعرض زوشينكو الكاتب الساخر لاضطهاد ومضايقات كثيرة لشكوكهم أنه في نصوصه الفكاهية المرحة يسخر من سياساتهم، رغم أنه كان يهدف لنشر البهجة والمرح بين الناس، لتحمل ظروفهم القاسية. لذا كان في أعماقه حزيناً مكتئباً! يروي الكتاب أن زوشينكو زار عيادة طبيب نفسي لمعاناته من الأرق وفقدان الشهية. فحصه الطبيب ثم نصحه بقراءة القصص الفكاهية، خصوصاً قصص زوشينكو، لأنها أفضل علاج لحالته! تنهد المريض وقال: «دكتور، أنا زوشينكو»! وهذه الواقعة تكشف إلى أي مدى كانت الكآبة وصنوف اليأس تحفر في ضمائر كتاب ذلك العهد. يقف الكتاب عند ما أفرزه المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي السوفياتي، الذي أطاح بالقبضة الستالينية، حيث خفت موجة قمع الكتاب، وشهدت الحياة الثقافية السوفياتية حركة أدبية وفنية نشطة عرفت بأدب الستينات، برز فيها يفتيشنكو وفوزنينسكي وبيلا أحمدولينا، ولو تواصلت الحياة السياسية وفق ما طرح مبادئها خروشوف، لكانت الحياة الثقافية والعامة قد مضت في طريق آخر، لكنها منيت بنكسة كبرى بعد الإطاحة بخروشوف، وسيطرة بريجنيف وجماعته على السلطة والحزب عام 1964.
ويورد الكتاب مأساة الروائي ألكاسندر فادييف، الذي كان لسنوات طويلة رئيساً لاتحاد الكتاب، حين اتضحت له الحقائق المروعة عن جرائم ستالين، فلم يتحمل الضغط النفسي الشديد، وبات معذب الضمير، فأطلق الرصاص على نفسه!
الكاتب إيليا أهرنبرغ استبشر بمقررات المؤتمر العشرين، وألف رواية صار عنوانها «ذوبان الجليد» مصطلحاً للمرحلة كلها، لكنه مني بخيبة كبيرة بعد التراجع عنها! وظل مقيماً في المنفى، متردداً على بلاده بين فترة وأخرى بحذر، حتى قرر أخيراً العودة؛ فوقع تحت رقابة رجال المخابرات. وعند موته في حديقة منزله، استولوا على جثمانه، وشيعوه على طريقتهم، خشية أن يثير تشييعه اضطرابات شعبية!
ويتطرق الكتاب لما تعرض له الشاعر باسترناك وحبيبته، فعند منحه «جائزة نوبل»، منعوه من الذهاب لاستلامها! وقد دون سولجنستين في رواياته الكبيرة ومقالاته الكثيرة صنوفاً من الاضطهاد الستاليني للكتاب والمثقفين!
يشير الكتاب إلى ما آل إليه الأدب بعد زوال النظام السوفياتي، حيث أضحى أدباً استهلاكياً يلهث وراء متطلبات السوق، ما جعل الكثيرين يعودون إلى رموز الأدب الروسي كتولستوي ودستويفسكي وبوشكين وتشيخوف وغيرهم يحملونهم نزعاتهم واتجاهاتهم الراهنة! الرئيس بوتين صار يتحدث كثيراً عن إعجابه بروايات دستويفسكي، مفسراً رواياته على أنها دعوة للرجوع إلى الدين. ثمة مراقبون يقولون إنه يريد من وراء ذلك دعم توجهاته في الاعتماد على الكنيسة الأرثوذوكسية، لتثبيت أركان حكمه ومنازلة خصومه!
يؤكد الكتاب أن الروس يجلون كتابهم، ويرفعونهم إلى مرتبة الأنبياء والقديسين، ويرونهم أهم من القادة السياسيين والأولى بالطاعة والأخذ بآرائهم ومواقفهم! لذلك هم مولعون بالقراءة يلازمهم الكتاب حيثما يكونون. وهم لا يتحدثون عن آلامهم ومعاناتهم، ويعتبرون جراحات الماضي جزءاً من تضحياتهم في سبيل وطنهم. وحكامهم اليوم استغلوا خصالهم هذه ليمضوا في سياسات تقتضي الكثير من التضحيات بالأرواح كتدخلاتهم في أوكرانيا وسوريا وغيرهما! ويمكن تلمس هذا في كلام أغلب المعلقين على شاشات التلفزيون أو الصحافيين الروس، فهم يعكسون وجهة نظر قادتهم متجاهلين معاناة الناس، وكأنهم ما زالوا في الحقبة السوفياتية!
الكتاب يرد، ودون صخب، على ادعاءات أحزاب سارت في ركب السوفيات، وادعت أنها ساهمت في تطور ثقافة بلدانها، بينما لم يكن دورها يختلف عن دور الشيوعيين السوفيات، سواء في حبس كتابهم في أقفاص آيديولوجية، أو استهلاك طاقتهم في أنشطة حزبية عقيمة، أو تدمير حياتهم في طرق النضال الخاطئة!
- قاص وروائي عراقي



قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب
TT

قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب

(١)

حين تركنا الأوراق البيضاء

ورحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

لم يظهر ماذا يعني أن يرتبك الشاعر فوق الكلمات

أن يشطب مفردةً ويعيد صياغتها

ويعود إليها ثانيةً

ويحاول ثالثةً

ويخطَّ الخطَّ المائل فوق الكلمة

أو يرسم دائرة

ويشخبط فوق الأسطر ممتلئاً بالحزن وبالعبرات

مذ رحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

جفَّتْ أنهارٌ كثرٌ

وانسحبت من أقدام الشعراء الطرقات

الحاسوب صديق كهولتنا

جفف ما كنا نحمله من نزق العشاق المنسيين

على الشرفات

لا نعرف من أين نعود إلينا

نحن القديسين بلا صلوات

(٢)

قبل ثلاثين سنة

قالوا إن الحاسوب سيدخل قريتكم

وسيكفينا نزق الطباعين على الآلات

صفقنا للحاسوب القادم نحو منازلنا

وبدأنا نتحسسه

ونصادقه

ونبوح له بالأسرارْ

من يفتح هذا الغيب الغامض في شغفٍ

ويميط السر عن الأزرارْ؟

كيف سندخل هذا الصندوق الأسود؟

كيف نبوح له؟

وبماذا نكتب حيرتنا؟

ونشد العمر على الأسوارْ

يا حاسوب الدنيا حاول أن تأخذنا في رفقٍ

لتدلَّ عليك

حاول أن تفتح في هذي الظلمة عينيك

نحن البدو الرُحَّل منذ سنينَ عجافٍ

ننطر في هذا البرد القارس

دفء يديك

يا حاسوب الدنيا

ماذا يجري؟؟؟

بايعناك

ورافقناك

وضعنا فيك طويلاً

ضعنا فيك

لكنا حين أردنا أن نوقف حيرتنا المرة

ضعنا ثانيةً

وصرخنا خلفك

يا حاسوب الدنيا انتظر الناس قليلاً

فلقد جفَّ العمر على الشاشة

منكسراً وخجولا

ما عاد لنا في هذا العالم إلاك رسولا

لكنا يا حاسوب العمر

ذبلنا فوق الشاشات طويلا

وستأكلنا الوحشة

تأكلنا الوحشة

والتيه يمد يديه دليلا

ونعود من الحاسوب ضحايا منفردين

قتيلاً في الصحراء يدلُّ قتيلا

(٣)

بعد ثلاثين مضت

شاخ الحاسوب

وأنجب أطفالاً في حجم الكف

الحاسوب الآن يشيخ ويترك للناس صغاره

الحاسوب انتصر اليوم علينا

وقريباً جداً سوف يزفُّ لكل العالم

أجراس بشاره

الكل سيترك مخدعه ودياره

لا عائلةٌ تبقى

لا أطفال

الكل يقول ابتعد الآن

فقط الوحشة تطبق فكيها

وتصيح

تعالْ

المنزل ممتلئٌ بالأطفالْ

لكنَّ الأدغالْ

تمتد على الشرفات وفوق الأسطح

بين السكَّر في أقداح الشاي

وحدي أشربه ممتلئاً بالغربة

حتى حوَّلني الحاسوب

لبحِّة ناي

(٤)

لستُ وحيداً

لكني ممتلئٌ بالغربة يا الله

البيت الدافئ ممتلئٌ بالأولاد

صبيانٌ وبناتْ

ومعي امرأتي أيضاً

لكنا منفيون بهذا البيت الدافئ

* النص الكامل على الانترنتمنفيون

الكلمات تشحُّ علينا

اصرخ يومياً

يا أولاد تعالوا

لكنَّ الأولاد بعيدون

بعيدون

البيتُ الضيِّقُ يجمعنا

لكنَّا منفيِّون

ومنعزلون

جزرٌ تتباعد عن أخرى

وقلوبٌ ليس لهنَّ عيون

(٥)

ما أسعدني

يوم ذهبتُ إلى السوق وحيداً

أبتاع الحاسوب

وأرقص في فرحٍ

منتشياً بشراء صديقٍ

يتقاسم أفكاري وحياتي

هيأتُ له منضدةً في زاوية البيت

وبقيتُ أداريه مساءً وصباحا

حتى صار فتىً من فتيان البيت

أخاف عليه من الحمى

وأجسُّ حرارته

وأعدُّ له أكواب القهوة والشاي إذا صاحا

ماذا يحتاج الحاسوب صديقي أو ولدي؟

الشحن بطيء...؟

غيّرتُ الشاحن في غمضة عين

الحاسوب مريض...؟

رحتُ سريعاً أركض فيه إلى الجيران أو المستشفى

حيث الخبراء

يتلمس كلٌّ منهم زراً من أزرار الحاسوب المتعبْ

قالوا يا مجنون

خففْ عن كاهله الكلمات

أثقلتَ الحائط بالصرخات

وملأتَ السطح الأزرق

دمعاً ودماً وعويلَ محطات

(٦)

ماذا نصنع؟

هذا الحاسوب مريضٌ جداً

لا بدَّ له من وقتٍ كي يرتاح

لا بدَّ لهذي الجُملِ الملغومةِ أنْ تنزاح

عن صدر الحاسوب

لكي يغفو مبتهحاً

بفراغ الحائط

مكتفياً بالغابات المحروقة

في صدر الشاعر

أو بالحزن النابت في الأرواح

الحاسوب مريضٌ هذي الليلة يا أشباح

ماذا نفعل والروح معلقةٌ

بالشاحن والمفتاح

ولهذا رحنا نمسحُ آلاف الكلمات

ونزيح برفقٍ عن كاهله

ما تركته الروح من الكدمات

كي يرتاح الحاسوب

مسحنا ذاكرة كاملة

وغناءً عذباً

وبكاء أميرات

كي يرتاح الكلب ابن الكلب

ويضحك منتصراً

رحنا نصرخ مهزومين ومندحرين

الحاسوب سيعلن دولته الكبرى

وسنأتيه سبايا منكسرين

(٧)

مسح الحاسوب بضغطة زر واحدة

آلاف الكلمات

الذاكرة انطفأت هذي الليلة

كي يغفو الحاسوب بلا صرخات

ماذا يعني

أن تشطب أياماً

وتحيل قصائد للنسيان

هذا العالم محكومٌ في ضغط زرٍ

والإنسان بلا إنسان

(٨)

كتب الأجداد على الطين حكايتهم

وكتبنا نحن على الحاسوب حكايتنا

ومضوا

ومضينا

واختلف الدرب علينا

لا نحن حفظنا

ما كتب الأجداد

ولا الحاسوب الأخرس

ردَّ العمر إلينا

يا ضيعتنا

يوم نسينا

في عمق البحر يدينا

(٩)

أعلنا نحن المسبيين هزيمتنا

وكسرنا آخر أقلام الليل

والمسودَّات انهزمت

ومزاج الأوراق تغير

من يقنع هذي الشاشة

أني أكتب شعراً

وبأني أبكي فوق الأوراق طويلاً

كي يخرج سطرٌ

ممتلئٌ بالأطفال

والآن كما تبصر

آلاف الكلمات تجيء وتذهب

فوق الشاشة

والأطفال الموتى

يختبئون وراء الشاشة

أيقوناتٍ

وينامون على الأدغال

هذا عصرك يا ابن رغال

فاستعجل

من أبطأ خطوك؟

والكل يصيح عليك

تعال

(١٠)

كنا حين يموت لنا رجلٌ

نتوشح بالأسود أعواماً أعواما

لا نفتح مذياعاً

أو نسمع أغنيةً

أو حتى نعلك في السرِّ

فقد صرنا نحن الفتيان

فتيان القرية

أشباحاً ويتامى

نبكي ونصيح ونحزن

نقطع آلاف الأمتار

لنبكي هذا الرجل الراحل عنا

أما اليوم

والفضل يعود إلى الحاسوب

فقد حولهم أرقاماً أرقاما

لن نبكي

فهنالك وجه في الشاشة يبكي بدلاً عني

لن أحزن

الشاشة فيها وجه مرسوم للحزن

سيحزن قبلي في ضغطة زر واحدة

وسيكتب تعزيةً قبلي

وسيرسلها بدلاً عني

وأنا متكئٌ منسيٌّ

كنكاتٍ مرَّ عليها زمنٌ

فاهترأتْ

وبقيت أعاتب أياماً هرمت

وأشيل على ظهريَ أياما

(١١)

ما الذي يصنعه الحاسوب فينا يا إلهي

نحن أولادك ساعدنا

فقد بعثرنا ليل المتاه

ونسينا العمر مشحوناً ومربوطاً مع النقال

فيما نحن منفيون بين الأهل

ملقاةٌ أغانينا القديمات على الدرب

وهذا العمر مشرورٌ على حبل الغوايات

وساهِ

دلنا يا رب

نحن أبناؤك تهنا

والعلامات التي توصلنا للبيت ضاعت

واختفت كل المواعيد الأغاني

الضحك الحلو النكات السير في الليل

ولم يبق سوى

حسرةٍ تنسل من فوق الشفاه

(١٢)

كل شيءٍ قد تغير

كل شي

صالة البيت التي نأوي إليها

ذبلت فينا ونامت دون ضي

جرس البيت اختفى أيضاً

وباب البيت ملقى في يدي

لم يعد يطرقه جارٌ

ولا صحبٌ

وحتى لم يعد يعبث في لحيته

أطفالنا في الحي

بدأت تذبل فينا الكلمات

مثلاً جار لنا قد مات

جارٌ طيبٌ كانت تناغيه المنازل

ما الذي نفعله

والجار هذا الجار راحل

غير أن نبعث وجهاً باكياً

نرسله بين الرسائل

كيف يا رب اختصرنا ذلك الحزن

ومن أطفأ بركان المشاعل

(١٣)

لم يعد للحب معنى

لم يعد كانوا وكنا

هبط الليل علينا ثم لم ترجع

إلى القلب المنازل

لم يعد يبكي المحبون

ولم يطرق جدار القلب سائل

كل ما يفعله الآن المحبون القلائل

صورة جاهزة يرسلها النقال صمتاً

ثم تنسى بين آلاف الرسائل

صورة كررها قبلك آلاف وآلاف

إلى أن بهت اللون

وتاه الحب منسياً

على الشاشات

منسياً وذابلْ.