مخرجو اليوم يجدون في السينما الصامتة ملاذا للتعبير

عملا بمبدأ {السكوت من ذهب}

من «باب الوداع»
من «باب الوداع»
TT

مخرجو اليوم يجدون في السينما الصامتة ملاذا للتعبير

من «باب الوداع»
من «باب الوداع»

من الأخطاء الشائعة القول إن أول فيلم ناطق كان «مغني الجاز» The Jazz Singer سنة 1927 للمخرج الآن كروسلاند ومن ثم فإن الفيلم، الذي تحدث عن رجل يتحدى تقاليد العائلة اليهودية التي ينتمي إليها وينخرط في سلك الغناء، بنى جزءا كبيرا من سمعته على هذا الأساس. لكن، هناك عدم دقة في هذا الاعتبار سها عنها الكثير من الكتاب وحتى المؤرخين. فالفيلم الذي قام ببطولته آل جولسن وأنتجته وورنر، كان - ولا يزال - فيلما صامتا في الأساس. الناطق هو أجزاء من الفيلم تحتوي على قيام جولسن بتقديم فقرات غنائية.
كذلك، سبق لألان كروسلاند أن غمر تجربة الصوت في فيلمه الأسبق «دون جوان» (1926) من دون أن يثير ذلك أي اهتمام لدى الباحثين. ذلك الفيلم لم يكن غنائيا، لكنه تضمن مشاهد ناطقة على أي حال.
لكن الأهم أن الفرنسي كليمان موريس حقق عام 1900 (أي قبل 26 سنة كاملة على إطلاق «دون جوان» نسخته من «سيرانو دو برجيراك» الذي صاحبه حوار صوتي واضح). طبعا في كل هذه الأفلام، كان الصوت مصاحبا على شريط منفصل وعلى هيئة تجارب، هذا من بعد الكثير من المحاولات ذات الأثر المحدود التي أقدم عليها مهندسون وفنيون غربيون بغاية تحقيق أفلام ناطقة بدأت قبل نهاية القرن التاسع عشر، أي بعد سنوات قليلة من إطلاق السينما ذاتها.

* جيل جديد صامت

* غاية الصمت لم تكن اختيارا في ذلك الحين، بل أمرا مفروضا. تلك التجارب، وحتى عام 1927، كانت جادة في سبيل تقديم فيلم ناطق كما هو مصور. «مغني الجاز» هو أول استقطاب تجاري (كما أن أفلام لوميير كانت أول استقطاب تجاري وإن لم تكن أول الأفلام، بل بعد 7 سنوات من اختراع الفيلم) لهذه المحاولة، ومع نجاحها بدأ تحول تدريجي سريع من الفيلم الصامت إلى الناطق. المخرجون الذين تمنعوا آنذاك في الإنجراف صوب النطق (ومن بينهم ألفرد هيتشكوك ولاحقا تشارلي تشابلن) أدركوا أنه لا يمكن مقاومة عوامل التغيير. السينما الناطقة وجدت لتبقى وبقيت من حينها السائدة.
على ذلك، نتابع اليوم عددا ملحوظا من الأفلام التي تختار الصمت سبيلا. على عكس أفلام الأمس، هذا الصمت الذي يعرض عبره المخرجون تجاربهم، هو اختيار وليس فرضا. وليس صحيحا أن عودة الفيلم الصامت بدأت مع «الفنان» للفرنسي ميشيل هازانافيشوس سنة 2011. هذا لأن الروسي ألكسندر سوخوروف قام به كاملا سنة 1997 عندما حقق «أم وابن».
وقبل ذلك، قام الكوميدي الفرنسي جاك تاتي بتحقيق بعض أعماله صامتة (من بينها «عمي» و«عطلة السيد أولو» في الخمسينات)، والمخرج الهندي سينغيتام شرينفازا راو قام سنة 1987 بتقديم فيلم كوميدي بعنوان «بوشباك» صامتا.
الموجة الجديدة تتضمن أفلاما عربية: «فرش وغطا» لأحمد عبد الله و«باب الوداع» لكريم حنفي. الأول استخدم الأصوات البشرية وحوارات، إنما من شخصيات ثانوية وألزم بطله آسر ياسين الصمت المطبق. الثاني كله بلا حوار. هناك تعليقات مسموعة، لكن الحوار ملغى من الاعتبار.
كذلك تتضمن فيلما هنديا جديدا هو «شغالو الحب» Labour of Love لأديتا فيكرام سنغوبتا، وفيلما روسيا بعنوان «تجربة» لألكسندر كوت، وآخر من جورجيا (بمساهمة دول أوروبية وآسيوية أخرى) عنوانه «جزيرة الذرة» لمخرجه جورج أفاشفيلي. هذه الثلاثة عرضها مهرجان «أبوظبي» السينمائي الأخير وكانت حديث المشتغلين بالنقد وثقافة السينما.

* قواعد سينما الأمس

* على أن الغاية من استخدام الصمت تختلف من فيلم إلى آخر، كذلك مقدار الصمت نفسه. على عكس الأفلام الصامتة الأولى التي كانت لا تستطيع تسجيل تعليق أو استخدام الأصوات والمؤثرات الطبيعية، هذه الحديثة لا تستطيع أن تنتج فيلما صامتا فعليا. لا يوجد سبب فني (ناهيك بضرورة درامية) للامتناع عن تسجيل صوت الباب إذا تم فتحه أو إغلاقه، أو صوت السيارات في الشوارع أو الموسيقى الآتية من المذياع وما سواها. ما تختاره غالبا هو أن تبقي أبطالها صامتين. الحوار سيقلل، في هذه الحالة، من قيمة أي بعد نفسي، عاطفي أو وجداني يختاره المخرج لفيلمه. وفي حالات أخرى، لن يضيف شيئا على ما كان الحوار سيقوم به.
«الفنان» في واقعه تقليد لأفلام العشرينات الصامتة. والتبرير موجود بالفعل: تقع أحداثه في عهد السينما الصامتة، مما يجعل صمته متماشيا مع صمت السينما القديمة التي يقلدها. وحين ينطق في مشهد واحد، فهو في المشهد الذي يعرضه المخرج كشريط مصور داخل فيلمه.
الإسباني بابلو برغر صنع فيلما أكثر أصالة من حيث إنه لم يكن تقليدا، بل اختيارا: «سنو وايت» (2012) مصنوع على قواعد السينما الصامتة. وحين السؤال عن ذلك الاختيار، فإن الجواب الذي يبديه الفيلم هو حرية المخرج في اختيار فن التعبير.
ما يميز هذا الفيلم أيضا هو أنه ليس مجرد حكاية مؤلفة، بل هي استعادة لرواية أطفال شهيرة لا يمكن تصورها من دون حوارات وربما أغان تقوم شخصيات الفيلم بتقديمها. بذلك، خرج بابلو بالفعل على كل تقليد.
وهذا نراه ينطلي على تجربة المخرجين المصريين أحمد عبد الله في «فرش وغطا» وكمال حنفي في «باب الوداع» مع اختلاف أن الأول يضع بطله في وسط الجماعات البشرية التي ينخرط بها والثاني يختار شكلا منتميا إلى الروسيين أندريه تاركوفسكي وألكسندر سوخوروف و(المجري) بيلا تار يلج فيه الحل الصامت الذي يرغب في استخدامه.

* بلا إضافة
* في مرات كثيرة، لا يمكن إلا ملاحظة أنه ليس من الممكن لفيلم صامت حديث تجاهل واقع الحياة. هل يمكن لأب وابنته في «تجربة» أن يعيشا في مكان واحد كل الوقت من دون أن يتكلما معا؟ كذلك الحال بالنسبة لـ«جزيرة الذرة»: عجوز وابنته (ولاحقا رجل آخر) يتشاركون في الحياة فوق مرتفع صغير من الأرض لا تزيد مساحته على بضعة أمتار و... لا يتحدث أي منهم للآخر. هنا ما على الشكل المختار أن يتدخل: «باب الوداع» مشغول بأسره كفيلم وجدانيات وتصميم مناظره ولقطاته يجيء ليؤكد الفواصل بين عوالم الجدة والأم والابن. كذلك، فإن موضوع «شغالو الحب» مناسب: هذان زوجان لا يلتقيان. هو ينام في النهار ويعمل في الليل وهي تعمل في النهار وتنام في الليل. يعملان دائما (ولو في مصنع واحد). الصمت هنا يجيء لإثبات حال عائلي واجتماعي، بالإضافة إلى حقيقة أن أي حوار بين شخصيتيه وأناس آخرين لا قيمة له لو تم ولا إضافة.
في «تانغو الشيطان» لبيلا تار (1994)، هناك حوار مترام هنا وهناك على مدى 7 ساعات و45 دقيقة هي مدة عرض الفيلم. هذا قمة في استخدام الصمت الذي يؤلف ويلف غالبية المشاهد. وهو عاد إلى المنوال نفسه في فيلمه الأخير «حصان تورينو» (2013). السؤال الرئيس في حالته لا يختلف عنه في معظم الأعمال الأخرى: ماذا كان الحوار سيضيف إلى المشاهد أو إلى المشاهد: ويأتي الجواب حاسما: لا شيء، وذلك حسب الحكمة التي تقول «إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب».

* الصامت لا يغني

* في عام 1930، كان لا يزال من الممكن مشاهدة أفلام صامتة، لكن من ينظر إلى أفلام ذلك الحين سيجد أن المستفيد الأول من نطق السينما كانت السينما الغنائية. «مغني الجاز» برهن على أن الصوت مصدر إقبال وأن الجمهور سيُسَرّ لأفلام أخرى تغنى، فما كان من «وورنر» و«مترو غولدوين ماير» و«باراماونت» إلا أن اندفعت لتحقيق أفلام ناطقة لمجرد أنها استعراضية وغنائية، من بينها «مسرح هوليوود 1929» و«لحن بروداي» و«استعراض الحب» من بين أخرى.



شاشة الناقد: جود سعيد يواصل سعيه لتقديم البيئة الرّيفية في سوريا

عبد اللطيف عبد الحميد وسُلاف فواخرجي في «سلمى» (المؤسسة العامة للسينما)
عبد اللطيف عبد الحميد وسُلاف فواخرجي في «سلمى» (المؤسسة العامة للسينما)
TT

شاشة الناقد: جود سعيد يواصل سعيه لتقديم البيئة الرّيفية في سوريا

عبد اللطيف عبد الحميد وسُلاف فواخرجي في «سلمى» (المؤسسة العامة للسينما)
عبد اللطيف عبد الحميد وسُلاف فواخرجي في «سلمى» (المؤسسة العامة للسينما)

سلمى التي تحارب وحدها

(جيد)

يواصل المخرج السوري جود سعيد سعيه لتقديم البيئة الرّيفية في سوريا من خلال أحداث معاصرة يختار فيها مواقف يمتزج فيها الرسم الجاد للموضوع مع نبرة كوميدية، بالإضافة إلى ما يطرحه من شخصيات ومواقف لافتة.

وهذا المزيج الذي سبق له أن تعامل معه في فيلمي «مسافرو الحرب» (2018)، و«نجمة الصباح» (2019) من بين أفلام أخرى تداولت أوضاع الحرب وما بعدها. في «سلمى» يترك ما حدث خلال تلك الفترة جانباً متناولاً مصائر شخصيات تعيش الحاضر، حيث التيار الكهربائي مقطوع، والفساد الإداري منتشرٌ، والناس تحاول سبر غور حياتها بأقلّ قدرٍ ممكن من التنازل عن قيمها وكرامتها.

هذا هو حال سلمى (سُلاف فواخرجي) التي نجت من الزلزال قبل سنوات وأنقذت حياة بعض أفراد عائلتها وعائلة شقيقتها وتعيش مع والد زوجها أبو ناصيف (عبد اللطيف عبد الحميد الذي رحل بعد الانتهاء من تصوير الفيلم). أما زوجها ناصيف فما زال سجيناً بتهمٍ سياسية.

هذه انتقادات لا تمرّ مخفّفة ولا ينتهي الفيلم بابتسامات رِضى وخطب عصماء. قيمة ذلك هي أن المخرج اختار معالجة مجمل أوضاعٍ تصبّ كلها في، كيف يعيش الناس من الطبقة الدنيا في أسرٍ واقعٍ تفرضه عليها طبقة أعلى. وكما الحال في معظم أفلام سعيد، يحمل هذا الفيلم شخصيات عدة يجول بينها بسهولة. سلمى تبقى المحور فهي امرأة عاملة ومحرومة من زوجها وعندما تشتكي أن المدرسة التي تُعلّم فيها بعيدة يجد لها زميل عملاً في منزل رجل من الأعيان ذوي النفوذ اسمه أبو عامر (باسم ياخور) مدرّسة لابنته. لاحقاً سيطلب هذا منها أن تظهر في فيديو ترويجي لأخيه المرّشح لانتخابات مجلس الشعب. سترفض وعليه ستزداد حدّة الأحداث الواردة مع نفحة نقدية لم تظهر بهذه الحدّة والإجادة في أي فيلمٍ أخرجه سعيد.

«سلمى» هو نشيدٌ لامرأة وعزفٌ حزين لوضع بلد. النبرة المستخدمة تراجي - كوميدية. التمثيل ناضج من الجميع، خصوصاً من فواخرجي وياخور. وكعادته يعني المخرج كثيراً بتأطير مشاهده وبالتصوير عموماً. كاميرا يحيى عز الدين بارعة في نقلاتها وكل ذلك يكتمل بتصاميم إنتاج وديكورٍ يُثري الفيلم من مطلعه حتى لقطاته الأخيرة. هذا أنضج فيلم حققه سعيد لليوم، وأكثر أفلامه طموحاً في تصوير الواقع والبيئة وحال البلد. ثمة ثغرات (بعض المشاهد ممطوطة لحساب شخصيات ثانوية تتكرّر أكثر مما ينبغي) لكنها ثغراتٌ محدودة التأثير.

لقطة من «غلادياتير 2» (باراماونت بيكتشرز)

Gladiator II

(جيد)

ريدلي سكوت: العودة إلى الحلبة

السبب الوحيد لعودة المخرج ريدلي سكوت إلى صراع العبيد ضد الرومان هو أن «غلاديايتر» الأول (سنة 2000) حقّق نجاحاً نقدياً وتجارياً و5 أوسكارات (بينها أفضل فيلم). الرغبة في تكرار النجاح ليس عيباً. الجميع يفعل ذلك، لكن المشكلة هنا هي أن السيناريو على زخم أحداثه لا يحمل التبرير الفعلي لما نراه وإخراج سكوت، على مكانته التنفيذية، يسرد الأحداث بلا غموض أو مفاجآت.

الواقع هو أن سكوت شهِد إخفاقات تجارية متعدّدة في السنوات العشر الماضية، لا على صعيد أفلام تاريخية فقط، بل في أفلام خيال علمي (مثل Alien ‪:‬ Covenant في 2017)، ودرامية (All the Money in the World في العام نفسه) وتاريخية (The Last Duel في 2021)؛ آخر تلك الإخفاقات كان «نابليون» (2023) الذي تعثّر على حسناته.

يتقدم الفيلم الجديد لوشيوس (بول ميسكال) الذي يقود الدفاع عن القلعة حيث تحصّن ضد الجيش الروماني بقيادة الجنرال ماركوس (بيدرو باسكال). لوشيوس هو الأحق بحكم الإمبراطورية الرومانية كونه ابن ماكسيموس (الذي أدّى دوره راسل كراو في الفيلم السابق)، وهو ابن سلالة حكمت سابقاً. يُؤسر لوشيوس ويُساق عبداً ليدافع عن حياته في ملاعب القتال الرومانية. يفعل ذلك ويفوز بثقة سيّده مكرينوس (دنزل واشنطن) الذي لديه خطط لاستخدام لوشيوس ومهارته القتالية لقلب نظام الحكم الذي يتولاه شقيقان ضعيفان وفاسدان.

هذا كلّه يرد في الساعة الأولى من أصل ساعتين ونصف الساعة، تزدحم بالشخصيات وبالمواقف البطولية والخادعة، خصوصاً، بالمعارك الكبيرة التي يستثمر فيها المخرج خبرته على أفضل وجه.

فيلم ريدلي سكوت الجديد لا يصل إلى كل ما حقّقه «غلاديايتر» الأول درامياً. هناك تساؤل يتسلّل في مشاهِد دون أخرى فيما إذا كان هناك سبب وجيه لهذا الفيلم. «غلاديايتر» السابق كان مفاجئاً. جسّد موضوعاً لافتاً ومثيراً. أفلام سكوت التاريخية الأخرى (مثل «مملكة السماء» و«روبِن هود») حملت ذلك السبب في مضامينها ومفاداتها المتعددة.

لكن قبضة المخرج مشدودة هنا طوال الوقت. مشاهدُ القتال رائعة، والدرامية متمكّنة من أداءات ممثليها (كوني نيلسن وبيدرو باسكال تحديداً). في ذلك، سكوت ما زال الوريث الشّرعي لسينما الملاحم التاريخية التي تمزج التاريخ بالخيال وكلاهما بسمات الإنتاجات الكبيرة.

عروض تجارية.