سيرجيو مورو... مسيرة قاضٍ جريء نحو القمة

وزير العدل الشاب يهدد رئاسة بولسونارو في البرازيل

سيرجيو مورو... مسيرة قاضٍ جريء نحو القمة
TT

سيرجيو مورو... مسيرة قاضٍ جريء نحو القمة

سيرجيو مورو... مسيرة قاضٍ جريء نحو القمة

في أواخر العام 2014 كانت وسائل الإعلام البرازيلية قد بدأت تتناقل الأنباء عن «مآثر» القاضي الفيدرالي الشاب سيرجيو مورو الذي كان يدير قسم الجنايات المالية في محكمة ولاية بارانا البرازيلية الجنوبية، المعروفة بمنتجعاتها السياحية الفخمة، حيث اعتادت عائلات ثريّة من البرازيل وبعض بلدان أميركا اللاتينية تمضية فترات العطلة والاستجمام، وحيث تعيش جالية كبيرة من المتحدرين من أصول لبنانية.
قبل نهاية تلك السنة، وبعد أن كان مورو قد كشف عدداً من فضائح الفساد الضريبي والرشاوى وعمليّات غسل الأموال، وضع يده على قضية احتيال كبيرة بطلها المصرفي ألبرتو يوسف الذي كانت تحوم حولها شبهات كثيرة بتهريب الأموال وتبييضها.
مع التوغّل في التحقيقات في الفضائح الكبرى انكشفت للقاضي سيرجيو مورو حالات فساد واسعة تطال شخصيّات سياسية واقتصادية من الصف الأول. وعندها عقد العزم على تفكيكها فيما صار يعرف بعملية «لافا جاتو» Lava Jato - أي «غسل السيارات» - التي سرعان ما تحوّلت إلى أكبر قضية فساد مالي وسياسي في تاريخ البرازيل وأميركا اللاتينية.
هذه القضية أسقطت عدداً من رؤساء الجمهورية وكبار السياسيين ورجال الأعمال، ورفعت مورو إلى مصاف «البطل القومي»، ووضعته على منصّة الانطلاق نحو مستقبل سياسي لم يتأخر في الوصول إليه عندما عرض عليه الرئيس اليميني الجديد جاير بولسونارو، الآتي من رحم الغضب الشعبي العارم الذي ولّدته فضائح الفساد السياسي، حقيبة العدل والأمن العام وجعل منه أحد الرموز الأساسية لولايته.

بداية التوتر
إلا أنه بعد مضي سنة ونصف على بداية تلك العلاقة التي شهدت فصولاً من التوتّر في الأشهر الأخيرة، انتهى «شهر العسل» السياسي بين الرجلين. وبينما أخذت تترنّح رئاسة بولسونارو وتتراجع شعبيته تحت وطأة جائحة «كوفيد - 19» وإدارته المتعثّرة لها، قرّر مورو أن ساعته قد أزفت لقطف ثمار شعبيته التي واصلت صعودها. وهكذا، فصل مساره عن مصير الرئيس الذي تحاصره الانتقادات من كل حدب وصوب ويتكاثر المطالبون بعزله، أعلن استقالته موجّها اتهامات خطيرة إلى بولسونارو بمحاولة التدخل في تحقيقات قضائية جارية حول قضايا تطال اثنين من أبنائه، دفعت المحكمة العليا إلى إصدار مذكّرة باستجوابه.
عندما عُيّن مورو قاضياً فيدراليّاً عام 1996. بعد نيله شهادة الدكتوراه في الحقوق من جامعة بارانا الفيدرالية، ودراسته لفترة في جامعة هارفارد الأميركية العريقة، فإنه كان لم يزل في الرابعة والعشرين من عمره. ويومذاك بدت عليه ملامح جرأة كانت مثار إعجاب وغيرة بين زملائه، الذين غالباً ما اتهموه برغبة جارفة في الظهور وبالسعي للاستفادة من منصبه للوصول إلى مآرب سياسية.
وبالفعل، تمكّن خلال سنوات من كشف العديد من قضايا الفساد المالي التي أودت بمسؤولين كثيرين إلى السجن، وأطلقته نحو الشهرة في بلد موصوف بالفساد المستشري في مؤسساته وأجهزته الرسمية وإفلات المسؤولين عنه من العقاب.
وعندما باشر مورو تحقيقاته في قضية «بانيستادو» Banestado حول شبكة مصرفية واسعة لتبييض الأموال، تبيّن له أن المسؤول الرئيسي عن هذه العمليات هو ألبرتو يوسف، الذي وصفته الـ«نيويورك تايمز» يومها بأنه «المصرفي البرازيلي المركزي في السوق المالية السوداء» وقالت عنه «بلومبيرغ» بأنه «المبيّض الرئيسي للأموال في البرازيل».
أيضاً، كشفت التحقيقات مع يوسف أنه كان أيضا الوسيط الرئيسي الذي يوزّع العمولات والرشاوى التي كانت تدفعها شركة النفط البرازيلية العملاقة «بتروبراس» Petrobras على المسؤولين السياسيين والإداريين للحصول على عقود مشاريع تنفذها في البرازيل والخارج. ولقد عرض عليه مقايضة تخفيف العقوبات باعترافات وأدلة سرعان ما فجّرت أكبر قنبلة قضائية وسياسية في تاريخ البرازيل الحديث، وجعلت من مورو أحد الأشخاص الأكثر تأثيراً في بلاده حسب استطلاع قامت به صحيفة «أو غلوبو» O Globo الواسعة الانتشار.
أُطلق على تلك القضية التي هزّت البرازيل وما زالت تداعياتها السياسية تتردد إلى اليوم اسم Lava Jato – ويرتبط الاسم (غسل السيارات) بمجموعة من المحطات لغسل السيارات كانت رأس خيط التحقيقات التي أوصلت إلى الكشف عن شبكة واسعة من الفساد السياسي والإداري. ومن ثم، أودت بالعشرات من نخبة من السياسيين ورجال الأعمال إلى السجن، وطالت كل الأحزاب السياسية، خاصة حزب العمّال اليساري الذي كان في الحكم منذ العام 2003.

شخصية تنقسم حولها الآراء
وبينما كانت شعبية مورو تصعد بقوة، ويرى فيه أنصاره «بطلاً قومياً ضد الفساد»، في حين يتهمه خصومه بأنه «وصولي متعطّش للشهرة والسلطة»، أصدر القاضي الشاب أوامره إلى الشرطة القضائية الفيدرالية بمداهمة منزل لويس ايغناسيو لولا، رئيس الجمهورية اليساري السابق والسياسي الأوسع شعبية في تاريخ البرازيل، واقتياده للتحقيق بتهمة الفساد فجر الرابع من مارس (آذار) 2016.
ذلك المشهد الذي ظهر فيه لولا محاطاً برجال الشرطة، ومقيّداً يساق إلى التحقيق، كان نقطة مفصليّة في التاريخ السياسي البرازيلي الحديث. وما زال ذلك المشهد محفوراً في ذاكرة البرازيليين الذين انقسموا بين أقليّة تناصبه العداء وأكثريّة تعتبره «المخلِّص من الفساد».

وبعد جلسة أوليّة للتحقيق، أصدر مورو مذكّرة بإرسال لولا إلى الحبس الاحترازي. وأجهض كل المحاولات التي قام بها الرئيس السابق لإخراج القضية من قبضة مورو، الذي نشر تسجيلات هاتفية تكشف مساعي لولا للتهرّب من العدالة.
وعلى الأثر، أدت مراحل التحقيق الأولى والمحاكمات التي عقبتها إلى سجن عشرات النواب، وطالت عدداً من رؤساء الجمهورية وكبار المسؤولين في بلدان أميركية لاتينية مثل البيرو وبوليفيا وتشيلي. كذلك أودت إلى السجن بزوجة رئيس مجلس النواب بتهمة غسل الأموال وإلى تعليق رئاسة زوجها. وقبل نهاية ذلك العام كان مجلس الشيوخ يقرّر أيضاً عزل رئيسة الجمهورية اليسارية ديلما روسّيف بعد إدانتها بتهمة «هندمة» الموازنة العامة والتوقيع على مراسيم اقتصادية من غير موافقة البرلمان. وكانت روسّيف قبل وصولها إلى الرئاسة من أقرب السياسيين إلى لولا، وكانت تولّت إدارة مكتبه وعدداً من الحقائب الوزارية في حكوماته.

التغيير اليميني بعد إسقاط اليسار
بعد سقوط روسّيف نهاية أغسطس (آب) 2016 وتولّي نائبها رئيس مجلس النواب ميشال تامر - المتهم هو أيضا بقضايا فساد - رئاسة الجمهورية، وضع البرازيليون كل آمالهم بالتغيير وتجديد الحياة السياسية وتطهيرها من الفساد في سيرجيو مورو، بينما كانت البلاد تستعدّ لانتخابات رئاسية حاسمة في أجواء من الاهتراء السياسي والنقمة الشعبية العارمة. غير أن شعبية لولا بقيت هي الأوسع رغم وجوده في السجن والاتهامات الموجهة إليه والأحكام الصادرة بحقه، وأصرّ على ترشيحه للرئاسة في انتظار صدور أحكام قضايا الاستئناف التي كان قد رفعها.
في هذه الأثناء كانت أسهم مرشّح يميني متطرف مغمور اسمه جاير بولسونارو ترتفع بشكل سريع ومفاجئ. وكان وراء صعوده دعم مجموعات اقتصادية ودينية (إنجيلية خصوصاً) نافذة تريد التخلّص من حكم حزب العمال اليساري بأي ثمن، وبنقمة شعبية عارمة ضد حزب العمّال وقيادته بعد فضائح الفساد التي كشفها مورو وكانت الطبق الذي قدّم رئاسة الجمهورية إلى بولسونارو.
وحقاً، بعد فوز بولسونارو في الانتخابات الرئاسية عام 2018، بادر الأخير إلى إسناد حقيبة وزارة العدل والأمن العام لمورو الذي تحوّل إلى إحدى الركائز الأساسية في حكومته. وما كان الرئيس يوفّر مناسبة كي يشيد بإنجازات مورو في مكافحة الفساد وتجديد العمل السياسي. كذلك كانت وسائل الإعلام تتحدث عن «شهر عسل سياسي» بين الاثنين واحتمالات قويّة بخوضهما سويّة معركة الرئاسة في انتخابات العام 2022.
ولكن مع بداية العام الجاري، وبينما كانت إدارة بولسونارو لأزمة الـ«كوفيد - 19» تتعرّض لانتقادات شديدة في الداخل والخارج، وتتراجع شعبية الرئيس حتى في الأوساط التي كانت تؤيده، بدأت تظهر بوادر التوتّر في العلاقات بين مورو وبولسونارو. وازداد التوتر عندما فصل بولسونارو الأمن العام عن الوزارة التي يتولّاها مورو، فقاوم الأخير بشدة تلك المحاولات، إلى أن عاد عنها الرئيس خشية الدخول في مواجهة علنية مباشرة مع وزيره، الذي كان قد أصبح السياسي الأوسع شعبية في البرازيل.

المواجهة والاستقالة
وبعد إقالة وزير الصحة، الذي كان يعترض علناً على إدارة بولسونارو أزمة جائحة «كوفيد - 19»، عادت المواجهة بين الرئيس ومورو إلى الواجهة عندما قرّر بولسونارو إقالة مدير الشرطة الفيدرالية الذي كان مورو قد عيّنه، وحاول تعيين مدير جديد مقرّب منه. عندئذ قرر مورو فتح باب المواجهة مع الرئيس على مصراعيه، وفجّر قنبلة استقالته في أصعب الظروف التي يمرّ بها بولسونارو منذ وصوله إلى رئاسة الجمهورية، ممهداً لمعركة تنتظر تحديد موعد لبدايتها.
ولم يكتفِ مورو بإعلان قرار استقالته من الحكومة التي كان إحدى ركائزها الأساسية، بل دعا إلى مؤتمر صحافي حاشد وجّه فيه اتهامات خطيرة ضد بولسونارو. وقال إنه يحاول التدخّل في التحقيقات الفيدرالية التي تتناول قضايا فساد تتعلّق باثنين من أبنائه. كذلك كشف مورو عن رسائل نصّية تبادلها مع بولسونارو تبيّن أن الرئيس حاول التدخّل في تلك القضايا. أدت هذه الاتهامات إلى إصدار المحكمة العليا قراراً بفتح تحقيق ضد بولسونارو، كما أمرت بتعليق تنفيذ قرار تعيين قائد جديد للشرطة الفيدرالية قبل ساعات من حفل تنصيبه، الذي كان من المقرر أن يتمّ في قصر رئاسة الجمهورية.
في المقابل، في محاولة لتطويق مضاعفات استقالة «نجم» حكومته وحملته الانتخابية ظهر بولسونارو، محاطاً ببقيّة أعضاء الحكومة، ليدحض الاتهامات الموجهة إليه. وقال بأنه منذ اليوم الأول ضمن لوزير العدل استقلالية القرار عن رأس هرم السلطة، نافياً أن يكون قد حاول التدخّل في تحقيقات تتعلْق بأفراد أسرته، وتابع أن المعلومات التي قدّمها مورو عارية عن الصحة.

برنامج سياسي فعلي
في أي حال، كان لافتاً أن بيان الاستقالة الذي تلاه مورو في مؤتمره الصحافي جاء بمثابة برنامج سياسي للرجل الذي أصبح النجم الصاعد في المشهد السياسي البرازيلي الذي يحاصر بولسونارو من كل الجهات، ويضعف حظوظه حتى بإكمال ولايته. وبعد توجيه سلسلة من الاتهامات ضد الرئيس انصرف مورو للدفاع عن سجلّه في مكافحة الفساد والعنف. وتحدّث عن المحاولات المتكررة التي قام بها بولسونارو للحد من استقلالية القضاء والتدخّل في شؤون المؤسسات الرقابية. وقال إنه عندما تجاوب مع عرض الرئيس لتولّي وزارة العدل والأمن العام كان على أساس مواصلة حملته ضد الفساد «لكن الرئيس حنث بوعده عندما تعلّق الأمر بعائلته». وأردف «كان يريد مديراً للشرطة يتصّل به ليعطيه تعليمات ويطلب إليه تزويده بالمعلومات وتقارير المخابرات، الأمر الذي يشكّل انتهاكاً لمبدأ الفصل بين السلطات وخرقاً لاستقلالية السلطة القضائية». واستطرد مورو قائلاً بأنه حاول حتى اللحظة الأخيرة التوصّل إلى حل يمنع انفجار هذه الأزمة في مثل هذه الظروف، وأن «مثل هذا التدخّل السافر لم يحصل من طرف الحكومات السابقة عندما كان بعض أعضائها يخضعون لتحقيقات قضائية».
هذا، وتجدر الإشارة إلى أن مورو كان قد رفض طلباً تقدّم به فلافيو - أحد أبناء الرئيس والعضو في مجلس الشيوخ، وهو متهّم بغسل الأموال - لتقييد استخدام البيانات المالية في التحقيقات القضائية. كما أن ابن بولسونارو الآخر إدواردو - وهو عضو في البرلمان الفيدرالي الذي سعى والده لتعيينه سفيراً لدى الولايات المتحدة - يواجه أيضا تهماً بالفساد المالي وتنظيم حملات لنشر معلومات مزيّفة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
ختاماً، لم يكشف مورو بعد عن أوراقه السياسية التي لا يشكّ أحد في أنه لن يتأخر في طرحها عندما تنتهي الجائحة الصحيّة، التي ليس معروفاً كيف سيخرج بولسونارو من كابوسها. وإذ يكثر الحديث منذ أيام عن احتمال استقالة وزير الاقتصاد باولو غيديس، وهو نجم آخر في الحكومة، يرجّح المراقبون أن يكون هذا الثنائي الذي يتمتع بشعبية واسعة في الداخل وبدعم كبير في الأوساط الاقتصادية الدولية، هو العنوان الرئيسي للمشهد السياسي البرازيلي على أبواب الانتخابات الرئيسية المقبلة.



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.