رحاب أبو زيد: أحاول التحرر مما يجذب الجماهير وأسعى إلى الخروج عن السائد

قالت إنها استطاعت اكتشاف عقلها الشعري من خلال الرواية

الروائية السعودية رحاب أبو زيد
الروائية السعودية رحاب أبو زيد
TT

رحاب أبو زيد: أحاول التحرر مما يجذب الجماهير وأسعى إلى الخروج عن السائد

الروائية السعودية رحاب أبو زيد
الروائية السعودية رحاب أبو زيد

رحاب أبو زيد، التي تعمل في شركة «أرامكو» السعودية النفطية اختصاصية علاقات إعلامية، بدأت الكتابة مبكراً، عام 1996، بنشر المقالات في الجرائد والمجلات.
صدرت لها خمسة كتب، بينها روايتها الأولى «الرقص على أسنة الرماح» الصادرة عام 2010، تلاها كتاب «بجناح واحد»، وهو مجموعة من الرسائل الوجدانية، كتب مقدمته الكاتب الراحل نجيب الزامل، ثم أصدرت كتاباً ضم مجموعة مقالات ومشاركات صحافية سبق نشرها في الصحافة المحلية، وحمل الكتاب عنوان «بتوّنس بيك». كما صدرت لها مجموعة قصصية بعنوان «حليب وزنجبيل»، وصدرت روايتها الثانية «كيرم» عام 2018، عن دار ملهمون.
ورغم المحتوى الرصين الذي تتميز به كتابات رحاب، فإنها تختار عناوين لكتبها يبدو بعضها صادماً، مثل عنوان: «بتوّنس بيك»، لكتاب ضمّ مجموعة كبيرة من مقالاتها المتعددة في الصحافة خلال الفترة من 1997 حتى 2015، ويقع الكتاب في 500 صفحة، وصدر عن الدار العربية للعلوم ناشرون. والعنوان «بتوّنس بيك» مقطع من أغنية مشهورة للفنانة وردة الجزائرية، كذلك روايتها الثانية «كيرم» التي يرمز اسمها إلى لعبة شعبية معروفة، ومجموعتها القصصية «حليب وزنجبيل»، وفي ردّ على سؤال لـ«الشرق الأوسط» عن سرّ هذه العناوين التي تختارها على رأس مؤلفاتها، تقول رحاب أبوزيد: «أقدم العنوان كلغز ومفتاح للغز في الوقت ذاته. العنوان يفسر مغزى النص أو يتممه، أو هكذا يفترض، ففي (كيرم) مفردة واحدة كانت بحجم حبة البندق تختبئ وتنكشف في قلب قطعة شوكولاتة لصالح متذوق واحد، هو القارئ الذي يستطيع فك شفرة العنوان وارتباطه بالحكاية».
وتكمل قائلة: «أستمتع بالمناسبة عندما تتنحى (ال) التعريف عن اعتبار نفسها نجمة الحفل، ففي عنوان روايتي الأولى (الرقص على أسنة الرماح)، يطل العنوان جامعاً شتات المعنى لتخصيص الرقص، لم يكن بالإمكان الاكتفاء بالرقص وحده كمفردة، ثم يشتت ما جمع في (الرماح) بعيداً عن المعاني المباشرة للكلمات؛ تستحوذ عليّ وتأسرني الطاقة الكامنة في المفردات، وأومن أنها قادرة على حمل القارئ لأبعاد أخرى غير معانيها، لذلك السمع يسيطر على الحواس».
ونسألها: ألا تبدو العناوين وكأنها استراحة أفكار، وليست مدخلاً لعالم روائي متشابك الأحداث؟
فتجيب: «كي أتجنب هذا الظن، أحاول التحرر من وطأة ما يجذب الجماهير، لا أسعى مطلقاً للوصول لإعجاب كل الجماهير. من هنا أبحث عن كيفية الخروج عن السياق العام السائد، من أفكار نمطية تقليدية يتعامل بها المتلقي تلقائياً، دون طرح تساؤل مهم: كم من أعمال استندت إلى صاروخية وجدلية العنوان، ثم كشفت عن محتوى ردئ!».
وحظيت رواية رحاب أبوزيد الأولى (الرقص على أسنة الرماح) باهتمام في المغرب العربي، وترجمت للغة الفرنسية، وهي رواية تحمل همّ المرأة المكافحة رغم القيود والتقاليد الاجتماعية المكبلة لحركتها، التي تقاوم نزعة التسلط الأبوي لمجتمع ذكوري لا يمنحها الفرصة للتعبير عن ذاتها، رواية استغرق تأليفها نحو عشر سنوات، وجاءت بلغة شاعرية وإطار فني، إلى جانب عمق فكري وفلسفي.
قضية المرأة تتكرر، وإن بشكل مختلف، في روايتها الثانية «كيرم»؛ تعيد المؤلفة التذكير بقضية المرأة من خلال بطل الرواية الذي يتنقل بعلاقاته النسائية بين مجموعة من الفتيات، تعبيراً عن استغلال ذكوري ضارب في الفوضى، وهي تطرح سؤالاً مصيرياً عن مفهوم الخيانة، والحبّ، وتسليع جسد المرأة.
سألت رحاب أبوزيد: أين تصنفين روايتك «كيرم»... هل هي شكل من الأدب الاجتماعي - الرومانسي أم هي محاولة لاقتحام «التابوه»؟
أجابت: «إنني أبحث عن قارئ يقبلني دون تأطير، ويقرأني دون تصنيفات وأحكام مطلقة. هل تصدق أن قلة هم الذين التقطوا الحس الساخر في العمل، وهم فقط الذين أدركوا أنه كوميديا سوداء بأسلوب خفيف قصير، وإن كان لا يخلو من كثافة وملامسة مناطق شديدة الحساسية».
لكن ثمة جرأة في تناول بعض الموضوعات «الجنس مثلاً» التي تظهر في أجواء الرواية، رغم أن توظيف هذا «التابوه» أصبح مستهلكاً في موضة روايات بداية الألفية، ثم تلاشى، لكن رحاب أبوزيد لا ترى ذلك: «هل تصدقني لو قلت لك إن مكاشفة الشخصيات لأنفسها، سواء أمام مرآة أو صديق أو قارئ متربص، هي أكثر خطورة من التابوهات المتفق عليها، تخيفني المشاعر الصادقة وانزياحات طبقات الكذب التي انسجمت معنا وانسجمنا معها حتى لا يكاد يبين الخيط بين الزائف والحقيقي.
عندما قررت كتابة (كيرم) جاءت نتيجة لحظة اهتزاز قوي اعتراني في مواجهة الذاكرة المثقوبة، والاستسلام الذي ألمسه من حولي للنسيان، وكأن النسيان هو الأصل والتذكر هو الاستثناء! كانت نتاج تبدل مكانيّ: الغربة والائتلاف، بفعل التلاعب الزمني والثقافي في وعي البشرية بالقيم الثابتة التي رسختها التربية والخرافات».
وتكمل قائلة: «رواية (كيرم) هي في حسباني رواية معاصرة تشاكس اختياراتنا وضمائرنا، قراراتنا الواعية وغير المدركة. أما فيما يتعلق بالموضة، فأنا لا أتبعها في سلوكياتي اليومية حتى أتبعها في كتابتي؛ منطقتي الحرة».
سألتها: بالنسبة إليك، ماذا يعني لك بصفتك كاتبة أن يجئ السرد على لسان رجل، أو تدور حول سيرة ذكور يعيشون علاقات متشابكة؟!
تقول: «ارتبطت مهمة التفكير بعقل الرجل، وتدفق الإحساس بقلب المرأة، وللخروج بعمل فكري بامتياز كان لا بد من استحضار شخصية وصوت الرجل الذي لا يقل في معاناته عن المرأة في مشاعره، لكنه يبرع في إخفائها والهروب من مواجهتها، هناك صدام مقصود بين مقتضيات العقل وصراعات القلب. سلطان الذكورية ينهار هنا، ويثبت أنه ليس بأفضل حال في المعارك التي تخوضها الأنوثة. استعمالي لشخصية ذكورية بطلاً للعمل يجيء لطرح التساؤل حول ماهية الضحية في المجتمعات العربية، وإعادة تعريف المدين والمدان في كل هذا الزخم من التشابك النفسي للإنسان عموماً، بغض النظر عن نوعه».
لكن ماذا أضافت هذه الرواية لتجربة رحاب أبوزيد؟ تقول: «أضافت كثيراً من الجرأة والصعود لمستوى آخر من الصدق والحدة والرهافة، فأداة الكتابة الروائية تحديداً هي شعوري بالفكرة، وفكرتي حول الشعور، ودورانهما في مدارات متلازمة متوازية لا تصطدم لزمن معين إلى أن يُقدّر لها الالتقاء في نقطة ما، سواء أدى ذلك لظهور مذّنب (هالي) في النص أو اختفاء كوكب المشتري. لقد استطعت اكتشاف عقلي الشعري الذي يصفه الشاعر العراقي خزعل الماجدي بالعقل الرابع للعقل الديني والفلسفي والعلمي، بل ويتقدم عليهم بصفته مركز انطلاق للجمال والإبداع، أنا أتفق تماماً مع الشعر بصفته ناتجاً إنسانياً يعكس دمج عبقري بين العقل والقلب، ولا أعيد إنجازات العلوم للعقل والشعر للقلب، وهذه من التصنيفات المريضة، فالعالم لولا حدسه وإيمانه بالميتافيزيقيات والماورائيات لما اخترعوا المجهر! والشاعر هو رسول الميتافيزيقيات، فكم أساء هذا الفصل للأدب بإيعاز ابتكاراته إلى القلب وحده!».



رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله
TT

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله

فجع الوسط الثقافي والتشكيلي العراقي بالرحيل المفاجئ والمأساوي للنحات مكي حسين، الذي مات وحيداً في شقته التي كان يقطنها بالملجأ الألماني، ولم تكتشف جثته إلا بعد أربعة أيام بعدما اقتحمت الشرطة الشقة، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله يواجه مصيراً مجهولاً.

ولد الراحل في مدينة البصرة عام 1947، ودرس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه عام 1968. وأصبح عضواً في جمعية التشكيلين العراقيين منذ سنة تخرجه، ثم عضواً في هيئتها الإدارية في عام 1971. غادر العراق، مثل مئات المثقفين العراقيين، بعد حملة النظام العراقي السابق على معارضيه، ثم التحق بحركة الأنصار اليسارية المسلحة في كردستان العراق، وبعدها رحل إلى سوريا ثم إلى منفاه الأخير في ألمانيا.

في عقد السبعينات من القرن الماضي، شارك مكي حسين مع فنانين عراقيين في معارض عديدة، وواصل نشاطه بعد مغادرته العراق عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله «صرخة من عمق الجبال» الذي أدان فيه مجزرة «بشتاشان» ضد فصائل الأنصار في كردستان.

من أعماله

تميزت تجربة مكي حسين، كما يتفق معظم النقاد، بـ«قدرة استثنائية» على جعل «البرونز» قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول «الرجل صاحب الجناح» انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع «الجسد المحاصر». إن منحوتاته، كما يقول أحد النقاد، لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي «أجساد منتزعة من عذابات الضحايا، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته».

ويقول الناقد العراقي عادل كامل عن أعماله: «لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءاً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم العلمي لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، حقوق المرأة... إلخ، كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي، ذاكرته الجمعية، كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني».


هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.