المنتحر في لندن وجيه غالي... قصص ورسائل ويوميات في الطريق

أسئلة على هامش حفل استقبال الابن الغامض

وجيه غالي مع ديانا آتهيل
وجيه غالي مع ديانا آتهيل
TT

المنتحر في لندن وجيه غالي... قصص ورسائل ويوميات في الطريق

وجيه غالي مع ديانا آتهيل
وجيه غالي مع ديانا آتهيل

في ستينيات القرن العشرين، ظهرت مجموعة من الشباب في مصر يلتفون حول الأب نجيب محفوظ، متنقلين وراءه من مقهى إلى مقهى، يستظلون به ويحاولون فرض صوتهم المغاير لصوت الأب، وهم الذين سيشار إليهم فيما بعد بوصفهم جيل الستينيات.
في الوقت ذاته، كان هناك شاب اسمه وجيه غالي يعيش حياة تشرد في أوروبا، بين لندن ومدن إنجليزية وألمانية وهولندية، يجترح مغامرته الخاصة في الحياة والكتابة. يكتب نصاً في قلب الكتابة الغربية، يمكن وضعه ضمن الكتابة ما بعد الكولونيالية، وما بعد الحداثية. نص يصدر عن ذات تعي مكانها في الغرب الاستعماري، متقشف، بعيد عن الزخرفة، مرتاب من الآيديولوجيا.
زاول غالي ما وجده في طريقه من أشغال: مراسل صحافي، وأشغال يدوية باليومية، ووظائف كتابية مؤقتة؛ كل ذلك لفترات متقطعة محدودة، بينما كانت البطالة مهنته الأساسية مكفولاً من أصدقائه، وخاصة كاتبة السيرة الإنجليزية، ديانا آتهيل (Diana Athill)، وقد ربطته بها علاقة مركبة، فيها كثير من الأمومة، وقليل من الحب، وكثير من الحرج بين من يقدم الإحسان ومن يتلقاه، وفيها كذلك تعقيدات العلاقة بين المستعمِر والمُستعمَر (بكسر وفتح الميم).
لم ينشر غالي في حياته سوى رواية واحدة، هي «بيرة في نادي البلياردو»، صدرت بالتوازي عن أندريه دويتش (André Deutsch) في بريطانيا، ونوف (Knopf) في الولايات المتحدة الأميركية، عام 1964، وعدداً من القصص القصيرة في صحيفتين إنجليزيتين.
ما توقفت أمامه القاهرة الثقافية بخصوص وجيه غالي في تلك الفترة كان سياسياً، عندما زار إسرائيل بوصفه مراسلاً صحافياً. ثم وضع غالي حداً لحياته بالحبوب المهدئة في شقة صديقته الإنجليزية عام 1968، وسينام ذكره في الشرق والغرب لمدة عقدين، ليعود ذكره مجدداً في رواية دايانا آتهيل «بعد جنازة» التي نشرتها عام 1988، وبعد ذلك ستفرج الكاتبة عن مراسلاته ويومياته عقب أن حبستها طويلاً، رغم أنه كتب لها وصية قبل أن ينتحر أن تعتني بنشر يومياته، وأن تسدد من عائدها ديونه.
سمحت آتهيل للباحثة ديبورا ستار من جامعة كورنيل عام 1999 بتصوير نسخة من يوميات غالي ومراسلاته الموجودة بحوزتها، لتظهر مرقمنة على موقع مكتبة الجامعة عام 2013. وقد صدرت اليوميات عن قسم النشر بالجامعة الأميركية بالقاهرة، بتحرير مي حواس عام 2016. وكان من المفترض أن تصدر ترجمتها التي أنجزها محمد الدخاخني عن مكتبة «الكتب خان» هذه الأيام، ولكنها تأخرت بسبب كورونا، وتقترب اليوميات أكثر من عالم الكاتب وآرائه السياسية، وبينها رأيه في عبد الناصر، وموقفه من الصراع العربي - الإسرائيلي.
وأول نشر لغالي في اللغة العربية كان فصولاً من روايته في جريدة «أخبار الأدب» عام 2006، في ترجمة لإيمان مرسال وريم الريس. وفي العام ذاته، صدرت الرواية عن دار نشر «العالم الثالث»، بترجمة هناء نصير، وتقديم أستاذ الأدب الإنجليزي ماهر شفيق فريد. وفي 2012، أصدرت «دار الشروق» ترجمة مرسال - الريس للرواية، بينما أعادت دار «بتانة» الترجمة الأولى عام 2016.
ومنذ أشهر قليلة، صدرت ترجمتان لغالي عن «دار المحروسة»؛ الأولى مجموعة قصصية بعنوان «الورود حقيقية وقصص أخرى»، وتضم سبع قصص في كتيب من 65 صفحة؛ والثانية «رسائل السنوات الأخيرة» في 304 صفحات، والكتابان من تحرير وترجمة وائل عشري.
جمع عشري القصص من أرشيف جريدتي «الغارديان» و«مانشستر غارديان»، حيث نشرتها الجريدتان بين عامي 1957 و1965، بينما اعتمد في ترجمة الرسائل على أوراق جامعة كورنيل. ويُقدِّم الكتاب بدراسة ضافية، تتعدى وظيفة التعريف العادي بالرسائل وملاحظات المترجم، إلى تحليل خطابها لكشف الوعي الذي تنطوي عليه: وعي وجيه غالي بنفسه، بصفته شخصاً ملوناً في بلد استعماري، في مقابل حس الهيمنة والتفوق لدى آتهيل، كاشفاً عما بينهما من مشاعر مركبة: غالي لا يكن أي تقدير لكتابتها، وعليه أن يعبر عن امتنانه لكفالتها إياه، وهي في المقابل تتمسك بدور الراعي، دون أن تمنع نفسها من التذمر من عبئه.
وبالترجمة المنتظرة لليوميات، تكتمل نصوص غالي المعروفة حتى الآن في العربية، لكن ما انكشف عن شخصه وكتابته يتعلق بسنوات الهجرة، وهي عشر سنوات، حسب تاريخ نشر القصة الأولى والوفاة.
ويتضمن كتاب الرسائل خمسين رسالة، أربع وأربعون منها للكاتب نفسه، وواحدة من الكاتب الأميركي فيليب روث إلى آتهيل، يطلب منها حث غالي على السفر من ألمانيا إلى الولايات المتحدة من أجل منحة أيوا، وخمس من ديانا آتهيل إلى وجيه، وتغطي الفترة من 1963 إلى يوم الرحيل في نوفمبر (تشرين الثاني) 1968.
ويبقى وجود غالي في مصر ضبابياً؛ لا معلومات مؤكدة عنه. تاريخ الميلاد إما أن يكون 1929 أو 1930. وتاريخ مغادرته مصر غير محدد، ربما خرج عقب حرب 1956، حيث لا تُعرف له عائلة، ويعتقد بعضهم أن اسمه ربما يكون مستعاراً، لكن مصدراً وحيداً، هو موقع إلكتروني للثقافة القبطية بالإنجليزية، ينسب وجيه غالي إلى عائلة غالي السياسية العريقة التي تبوأ رجالها مناصب سياسية رفيعة على مدى مائتي عام، دون تأكيد لهذه المعلومة.
وكان وجيه غالي يتحرك بجواز سفر «لاجئ في ألمانيا». وفي ظل غياب المعلومات، فهناك ميل إلى استقائها من روايته، على فرضية أنها سيرة ذاتية.
«رام» بطل الرواية شاب عاطل يتحرك بين مقهى جروبي في وسط القاهرة وبارات الأجانب ونوادي القمار، ابن لعائلة برجوازية مفلسة، باستثناء خالته، الأكثر ثروة وسلطة في تلك العائلة، حيث تبدأ الرواية بمشهد رام منتظراً عمته ليطلب منها مساعدة مالية، بينما جلست توقع تنازلات للفلاحين عن ملكيتها الزراعية التي تبلغ عشرة آلاف فدان، بعد أن حددت ثورة يوليو (تموز) 1952 ملكيتها بمائتي فدان. أجواء الرواية تدور في أوساط أجنبية، وجود المصريين فيها شبحي، كما في رباعية الإسكندرية للورنس داريل.
وإذا كان رام هو وجيه غالي الكاثوليكي حقاً، فقطعاً هو ليس ابن العائلة القبطية المعروفة التي لم يبلغ بها التدهور إلى هذا الحد في يوم من الأيام.
أياً من يكون الكاتب الذي يحمل اسم وجيه غالي، فهل ما ظهر فعلاً هو كل ما كتب؟ وكيف أنجز نصوصاً على هذا المستوى السامي فنياً بمجرد وصوله إلى المهجر؟ وهل من كتابة سابقة في مصر لم نعرف طريقها؟
والملاحظة الثانية تنبع من لغة كتابته «الإنجليزية»، والانتماء الفني للغرب، وعالم روايته المنفصل عن واقع عموم المصريين، تطرح علامات استفهام حول تاريخ الثقافة المصرية في الحقبة الكولونيالية، وربما يكون على مؤرخي الأدب أن يبحثوا عن إجاباتها، فيما يتعلق بالإنكار المتبادل بين المتن الثقافي المصري والحركات الثقافية في أوساط البرجوازية المصرية المتفرنجة والأجانب الذين كانوا جزءًا من حركات ثقافية أوروبية كبرى، كالمستقبلية والسوريالية.
استطاع السورياليون المصريون، بقيادة جورج حنين، أن يفتحوا ثغرة -ولو صغيرة- بفضل صخبهم واستماتتهم في الدفاع عن الحركة ومنطلقاتها، لكن مصر كانت عامرة بأسماء وحركات ثقافية أخرى ظلت مجهولة للواقع الثقافي المصري، أو إنه كان يتجاهلها.
من مواليد الإسكندرية، على سبيل المثال، واحد من كبار الشعراء الإيطاليين، وهو جوزيبي أونغاريتي (1888-1970)، عاش بها حتى الرابعة والعشرين، ومن مواليدها كذلك فليبي توماسو إميليو مارينيتي، الشخصية الأكثر نفوذاً في جماعة المستقبلية الأوروبية (Futurism) وكاتب بيانها التأسيسي عام 1909. وإن كان أونغاريتي ومارينيتي قد غادرا الإسكندرية في مرحلة الشباب، فإن انتسابهما لمصر بالمولد لم يثر فضول المثقفين المصريين بشأنهما، فضلاً بالطبع عن اليوناني السكندري كفافيس، وسيرته أكثر من معروفة، ومتحفه بالمدينة اليوم يحكي قصته.
وفي الإسكندرية، أقام لورانس داريل نحو ثلاث سنوات (1943-1945). وكتب رباعيته عن المدينة التي تنتمي في تقنياتها لتقاليد الحداثة، وتتطابق فترة إقامته مع الحياة القصيرة لمجلة «الكاتب المصري» التي أصدرها طه حسين، صاحب العلاقات مع أدباء الغرب، وهناك من كتب للمجلة خصيصاً من باريس وروما، لكن صدى المجلة لم يصل داريل، ولا صدى داريل وصلها.
الانفصال نفسه عن عالم الأجانب والحركات الحديثة الوافدة معهم مارسته باقي مجلات وصحف القاهرة والإسكندرية طوال النصف الأول من القرن العشرين، رغم أن معظم الفاعلين الثقافيين درسوا في الغرب، من سلامة موسى إلى محمد حسين هيكل وطه حسين ويحيى حقي، لكنهم انحازوا للاتجاهات الكلاسيكية في الفكر والإبداع الغربيين، ولم يتبنوا القفزات الجديدة، حتى عندما كانت بين ظهرانيهم على الأرض المصرية!
ويمكننا اعتبار الاختلاف بين عوالم وانشغالات وحساسية وجيه غالي وعوالم وانشغالات وحساسية مجايليه المصريين آخر تجلٍ للانفصال بين عالمين ثقافيين عاشا على أرض واحدة متوازيين لا يلتقيان.



رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله
TT

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله

فجع الوسط الثقافي والتشكيلي العراقي بالرحيل المفاجئ والمأساوي للنحات مكي حسين، الذي مات وحيداً في شقته التي كان يقطنها بالملجأ الألماني، ولم تكتشف جثته إلا بعد أربعة أيام بعدما اقتحمت الشرطة الشقة، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله يواجه مصيراً مجهولاً.

ولد الراحل في مدينة البصرة عام 1947، ودرس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه عام 1968. وأصبح عضواً في جمعية التشكيلين العراقيين منذ سنة تخرجه، ثم عضواً في هيئتها الإدارية في عام 1971. غادر العراق، مثل مئات المثقفين العراقيين، بعد حملة النظام العراقي السابق على معارضيه، ثم التحق بحركة الأنصار اليسارية المسلحة في كردستان العراق، وبعدها رحل إلى سوريا ثم إلى منفاه الأخير في ألمانيا.

في عقد السبعينات من القرن الماضي، شارك مكي حسين مع فنانين عراقيين في معارض عديدة، وواصل نشاطه بعد مغادرته العراق عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله «صرخة من عمق الجبال» الذي أدان فيه مجزرة «بشتاشان» ضد فصائل الأنصار في كردستان.

من أعماله

تميزت تجربة مكي حسين، كما يتفق معظم النقاد، بـ«قدرة استثنائية» على جعل «البرونز» قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول «الرجل صاحب الجناح» انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع «الجسد المحاصر». إن منحوتاته، كما يقول أحد النقاد، لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي «أجساد منتزعة من عذابات الضحايا، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته».

ويقول الناقد العراقي عادل كامل عن أعماله: «لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءاً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم العلمي لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، حقوق المرأة... إلخ، كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي، ذاكرته الجمعية، كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني».


هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.