المنتحر في لندن وجيه غالي... قصص ورسائل ويوميات في الطريق

أسئلة على هامش حفل استقبال الابن الغامض

وجيه غالي مع ديانا آتهيل
وجيه غالي مع ديانا آتهيل
TT

المنتحر في لندن وجيه غالي... قصص ورسائل ويوميات في الطريق

وجيه غالي مع ديانا آتهيل
وجيه غالي مع ديانا آتهيل

في ستينيات القرن العشرين، ظهرت مجموعة من الشباب في مصر يلتفون حول الأب نجيب محفوظ، متنقلين وراءه من مقهى إلى مقهى، يستظلون به ويحاولون فرض صوتهم المغاير لصوت الأب، وهم الذين سيشار إليهم فيما بعد بوصفهم جيل الستينيات.
في الوقت ذاته، كان هناك شاب اسمه وجيه غالي يعيش حياة تشرد في أوروبا، بين لندن ومدن إنجليزية وألمانية وهولندية، يجترح مغامرته الخاصة في الحياة والكتابة. يكتب نصاً في قلب الكتابة الغربية، يمكن وضعه ضمن الكتابة ما بعد الكولونيالية، وما بعد الحداثية. نص يصدر عن ذات تعي مكانها في الغرب الاستعماري، متقشف، بعيد عن الزخرفة، مرتاب من الآيديولوجيا.
زاول غالي ما وجده في طريقه من أشغال: مراسل صحافي، وأشغال يدوية باليومية، ووظائف كتابية مؤقتة؛ كل ذلك لفترات متقطعة محدودة، بينما كانت البطالة مهنته الأساسية مكفولاً من أصدقائه، وخاصة كاتبة السيرة الإنجليزية، ديانا آتهيل (Diana Athill)، وقد ربطته بها علاقة مركبة، فيها كثير من الأمومة، وقليل من الحب، وكثير من الحرج بين من يقدم الإحسان ومن يتلقاه، وفيها كذلك تعقيدات العلاقة بين المستعمِر والمُستعمَر (بكسر وفتح الميم).
لم ينشر غالي في حياته سوى رواية واحدة، هي «بيرة في نادي البلياردو»، صدرت بالتوازي عن أندريه دويتش (André Deutsch) في بريطانيا، ونوف (Knopf) في الولايات المتحدة الأميركية، عام 1964، وعدداً من القصص القصيرة في صحيفتين إنجليزيتين.
ما توقفت أمامه القاهرة الثقافية بخصوص وجيه غالي في تلك الفترة كان سياسياً، عندما زار إسرائيل بوصفه مراسلاً صحافياً. ثم وضع غالي حداً لحياته بالحبوب المهدئة في شقة صديقته الإنجليزية عام 1968، وسينام ذكره في الشرق والغرب لمدة عقدين، ليعود ذكره مجدداً في رواية دايانا آتهيل «بعد جنازة» التي نشرتها عام 1988، وبعد ذلك ستفرج الكاتبة عن مراسلاته ويومياته عقب أن حبستها طويلاً، رغم أنه كتب لها وصية قبل أن ينتحر أن تعتني بنشر يومياته، وأن تسدد من عائدها ديونه.
سمحت آتهيل للباحثة ديبورا ستار من جامعة كورنيل عام 1999 بتصوير نسخة من يوميات غالي ومراسلاته الموجودة بحوزتها، لتظهر مرقمنة على موقع مكتبة الجامعة عام 2013. وقد صدرت اليوميات عن قسم النشر بالجامعة الأميركية بالقاهرة، بتحرير مي حواس عام 2016. وكان من المفترض أن تصدر ترجمتها التي أنجزها محمد الدخاخني عن مكتبة «الكتب خان» هذه الأيام، ولكنها تأخرت بسبب كورونا، وتقترب اليوميات أكثر من عالم الكاتب وآرائه السياسية، وبينها رأيه في عبد الناصر، وموقفه من الصراع العربي - الإسرائيلي.
وأول نشر لغالي في اللغة العربية كان فصولاً من روايته في جريدة «أخبار الأدب» عام 2006، في ترجمة لإيمان مرسال وريم الريس. وفي العام ذاته، صدرت الرواية عن دار نشر «العالم الثالث»، بترجمة هناء نصير، وتقديم أستاذ الأدب الإنجليزي ماهر شفيق فريد. وفي 2012، أصدرت «دار الشروق» ترجمة مرسال - الريس للرواية، بينما أعادت دار «بتانة» الترجمة الأولى عام 2016.
ومنذ أشهر قليلة، صدرت ترجمتان لغالي عن «دار المحروسة»؛ الأولى مجموعة قصصية بعنوان «الورود حقيقية وقصص أخرى»، وتضم سبع قصص في كتيب من 65 صفحة؛ والثانية «رسائل السنوات الأخيرة» في 304 صفحات، والكتابان من تحرير وترجمة وائل عشري.
جمع عشري القصص من أرشيف جريدتي «الغارديان» و«مانشستر غارديان»، حيث نشرتها الجريدتان بين عامي 1957 و1965، بينما اعتمد في ترجمة الرسائل على أوراق جامعة كورنيل. ويُقدِّم الكتاب بدراسة ضافية، تتعدى وظيفة التعريف العادي بالرسائل وملاحظات المترجم، إلى تحليل خطابها لكشف الوعي الذي تنطوي عليه: وعي وجيه غالي بنفسه، بصفته شخصاً ملوناً في بلد استعماري، في مقابل حس الهيمنة والتفوق لدى آتهيل، كاشفاً عما بينهما من مشاعر مركبة: غالي لا يكن أي تقدير لكتابتها، وعليه أن يعبر عن امتنانه لكفالتها إياه، وهي في المقابل تتمسك بدور الراعي، دون أن تمنع نفسها من التذمر من عبئه.
وبالترجمة المنتظرة لليوميات، تكتمل نصوص غالي المعروفة حتى الآن في العربية، لكن ما انكشف عن شخصه وكتابته يتعلق بسنوات الهجرة، وهي عشر سنوات، حسب تاريخ نشر القصة الأولى والوفاة.
ويتضمن كتاب الرسائل خمسين رسالة، أربع وأربعون منها للكاتب نفسه، وواحدة من الكاتب الأميركي فيليب روث إلى آتهيل، يطلب منها حث غالي على السفر من ألمانيا إلى الولايات المتحدة من أجل منحة أيوا، وخمس من ديانا آتهيل إلى وجيه، وتغطي الفترة من 1963 إلى يوم الرحيل في نوفمبر (تشرين الثاني) 1968.
ويبقى وجود غالي في مصر ضبابياً؛ لا معلومات مؤكدة عنه. تاريخ الميلاد إما أن يكون 1929 أو 1930. وتاريخ مغادرته مصر غير محدد، ربما خرج عقب حرب 1956، حيث لا تُعرف له عائلة، ويعتقد بعضهم أن اسمه ربما يكون مستعاراً، لكن مصدراً وحيداً، هو موقع إلكتروني للثقافة القبطية بالإنجليزية، ينسب وجيه غالي إلى عائلة غالي السياسية العريقة التي تبوأ رجالها مناصب سياسية رفيعة على مدى مائتي عام، دون تأكيد لهذه المعلومة.
وكان وجيه غالي يتحرك بجواز سفر «لاجئ في ألمانيا». وفي ظل غياب المعلومات، فهناك ميل إلى استقائها من روايته، على فرضية أنها سيرة ذاتية.
«رام» بطل الرواية شاب عاطل يتحرك بين مقهى جروبي في وسط القاهرة وبارات الأجانب ونوادي القمار، ابن لعائلة برجوازية مفلسة، باستثناء خالته، الأكثر ثروة وسلطة في تلك العائلة، حيث تبدأ الرواية بمشهد رام منتظراً عمته ليطلب منها مساعدة مالية، بينما جلست توقع تنازلات للفلاحين عن ملكيتها الزراعية التي تبلغ عشرة آلاف فدان، بعد أن حددت ثورة يوليو (تموز) 1952 ملكيتها بمائتي فدان. أجواء الرواية تدور في أوساط أجنبية، وجود المصريين فيها شبحي، كما في رباعية الإسكندرية للورنس داريل.
وإذا كان رام هو وجيه غالي الكاثوليكي حقاً، فقطعاً هو ليس ابن العائلة القبطية المعروفة التي لم يبلغ بها التدهور إلى هذا الحد في يوم من الأيام.
أياً من يكون الكاتب الذي يحمل اسم وجيه غالي، فهل ما ظهر فعلاً هو كل ما كتب؟ وكيف أنجز نصوصاً على هذا المستوى السامي فنياً بمجرد وصوله إلى المهجر؟ وهل من كتابة سابقة في مصر لم نعرف طريقها؟
والملاحظة الثانية تنبع من لغة كتابته «الإنجليزية»، والانتماء الفني للغرب، وعالم روايته المنفصل عن واقع عموم المصريين، تطرح علامات استفهام حول تاريخ الثقافة المصرية في الحقبة الكولونيالية، وربما يكون على مؤرخي الأدب أن يبحثوا عن إجاباتها، فيما يتعلق بالإنكار المتبادل بين المتن الثقافي المصري والحركات الثقافية في أوساط البرجوازية المصرية المتفرنجة والأجانب الذين كانوا جزءًا من حركات ثقافية أوروبية كبرى، كالمستقبلية والسوريالية.
استطاع السورياليون المصريون، بقيادة جورج حنين، أن يفتحوا ثغرة -ولو صغيرة- بفضل صخبهم واستماتتهم في الدفاع عن الحركة ومنطلقاتها، لكن مصر كانت عامرة بأسماء وحركات ثقافية أخرى ظلت مجهولة للواقع الثقافي المصري، أو إنه كان يتجاهلها.
من مواليد الإسكندرية، على سبيل المثال، واحد من كبار الشعراء الإيطاليين، وهو جوزيبي أونغاريتي (1888-1970)، عاش بها حتى الرابعة والعشرين، ومن مواليدها كذلك فليبي توماسو إميليو مارينيتي، الشخصية الأكثر نفوذاً في جماعة المستقبلية الأوروبية (Futurism) وكاتب بيانها التأسيسي عام 1909. وإن كان أونغاريتي ومارينيتي قد غادرا الإسكندرية في مرحلة الشباب، فإن انتسابهما لمصر بالمولد لم يثر فضول المثقفين المصريين بشأنهما، فضلاً بالطبع عن اليوناني السكندري كفافيس، وسيرته أكثر من معروفة، ومتحفه بالمدينة اليوم يحكي قصته.
وفي الإسكندرية، أقام لورانس داريل نحو ثلاث سنوات (1943-1945). وكتب رباعيته عن المدينة التي تنتمي في تقنياتها لتقاليد الحداثة، وتتطابق فترة إقامته مع الحياة القصيرة لمجلة «الكاتب المصري» التي أصدرها طه حسين، صاحب العلاقات مع أدباء الغرب، وهناك من كتب للمجلة خصيصاً من باريس وروما، لكن صدى المجلة لم يصل داريل، ولا صدى داريل وصلها.
الانفصال نفسه عن عالم الأجانب والحركات الحديثة الوافدة معهم مارسته باقي مجلات وصحف القاهرة والإسكندرية طوال النصف الأول من القرن العشرين، رغم أن معظم الفاعلين الثقافيين درسوا في الغرب، من سلامة موسى إلى محمد حسين هيكل وطه حسين ويحيى حقي، لكنهم انحازوا للاتجاهات الكلاسيكية في الفكر والإبداع الغربيين، ولم يتبنوا القفزات الجديدة، حتى عندما كانت بين ظهرانيهم على الأرض المصرية!
ويمكننا اعتبار الاختلاف بين عوالم وانشغالات وحساسية وجيه غالي وعوالم وانشغالات وحساسية مجايليه المصريين آخر تجلٍ للانفصال بين عالمين ثقافيين عاشا على أرض واحدة متوازيين لا يلتقيان.



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!