جائحة العصر... العيش في زمان الخوف

كأن الناس مهيأون للهلع منذ وقت طويل وكانوا فقط بانتظار اللحظة المواتية

باري غلاسنر
باري غلاسنر
TT

جائحة العصر... العيش في زمان الخوف

باري غلاسنر
باري غلاسنر

عندما كان العالم (الغربيّ) يقترب من الألفيّة الأولى، تقول المصادر التاريخيّة، شاعت في الناس نبوءة بأنها القيامة الموعودة، فساد مزاجٌ من الهلع والقنوط، هُجرت الأراضي، وتفرقت الأسر، وتوقّف كثيرون عن ممارسة أعمالهم المُعتادة، فيما تعددت الطرائق الدينية المنعزلة وتناثر المُهرطقون.
وإذا أردنا أن نحكم على تلك الفترة اليوم، حصراً من خلال مصادرنا التاريخيّة، فإنّه يسهل القول عندها بأن البشر إذا ألمّت بهم الجوائح مالوا إلى هجران التعقل، ولاذوا من خوفهم بالأفكار الغيبيّة والشّعوذة والأساطير. والحقيقة أن معظم الرّوايات التي وصلتنا إنما كُتبت بعد حركة الإصلاح الديني في أوروبا على أيدي رهبان بروتستانت كان ديدنهم وصم رفاقهم الكاثوليك من قبلهم بالجمود والانغلاق وانعدام الحكمة، فيما شرع مؤرخون علمانيون لاحقون في عصر النهضة بافتعال أشياء عن انعطاف الألفيّة ليس عليها من دليل -وعلى الأعمّ الأرجح أنّها لم تحدث قط- سعياً منهم لإبراز زحف «العقل»، وانتصاره على ظلاميّات العصور السابقة.
ويبدو أن بعض كتّاب الصحف المعاصرة يريدون لعب أدوار مماثلة بدعواتهم الناس للاعتصام بالعقل، وعدم السّقوط في لجة الهلع، بعد تفشي القاتل الخفي الجديد الذي يقف على باب الكون كله، فلا هو يعترف بحدود ولا إمبراطوريّات، ولا يفرّق بين زعماء وصعاليك.
لكن التدقيق فيما وراء النّصوص الكلاسيكيّة عن انعطاف الألفيّة الأولى يشير إلى تجذّر القابليّة للهلع لدى ناس المرحلة، إذ وهم في أغلبهم فقراء تعساء أقنان كثرت عليهم موجات الأوبئة، وتكررت غزوات البرابرة على الحواضر والنجوع، وسادت المجاعات، مع الشّروخ التي بدأت تمسّ نظام الإقطاع، وتراجع قدرته على الإنتاج. لقد كانوا يعيشون مناخاً من الخوف الحقيقي المستند إلى الوقائع، متعبين من الحياة، لكنّهم يخشون الموت. ولذا كان أمر هلعهم العريض بنبوءة نهاية العالم أشبه بتحصيل الحاصل.
وقياساً على ذلك، فإن تفكيك الحالة المعاصرة من الهلع الكوروني ينبغي أن يُستهل في مناخ الخوف الذي كنّا فيه أصلاً عبر أدوات الإعلام والميديا والمنتجات الثقافيّة على تعدد أشكالها. وفي ذلك يقول باري غلاسنر، بروفسور السيسيولوجيا الأميركي مؤلّف كتاب «ثقافة الخوف» (Culture of Fear)، إننا «نعيش في أسوأ مناخ رهاب عاشه البشر خلال تاريخهم الطويل، ولعل السبب الأساسي لذلك كامن في حقيقة أن هنالك تراكماً من الرأسمال والنفوذ لدى جهات وأفراد تتوافق مصالحها في الهيمنة على تعظيم الخوف، ونشر عملته على أوسع نطاق في المجتمعات الحديثة». «التخويف»، يقول نيل ستراوش، الصحافي الأميركي «صناعة تعني مزيداً من نقل الثروة بالمليارات إلى جيوب النافذين السّمان». وبالفعل، فإن صناعة الإعلام، وشركات التأمين، وجماعات الضغط المستأجرة، وكبريات صناعة الأدوية، وتجار الأسلحة، والمحامون والسياسيون، إنما تزدهر أعمالهم كلّما اشتدت الخُطوب على الناس، وظنّوا أن الحظ الحسن هجرهم.
وتبدو مهمّة تجار الخوف هؤلاء يسيرة بحكم التكوين البيولوجي والسيكولوجي للبشر، إذ تبدو أدمغتنا، على حد وصف البروفسور أندرو هوبرمان، أستاذ البيولوجيا العصبيّة بستانفورد، أقرب إلى «ماكينة استجابة للأخطار، مهمتها العمليّة أن تُبقينا أحياء فور تقييمها لأي مؤثر بصفته خطراً بشكل ما، وإشعارنا بالخوف». ومن المعروف بالطبع أن الشّعور بالخطر يدفع إلى وقف أنشطة الدّماغ الخلاّقة جميعها، ويمنح نوعاً من السّيطرة لأدمغتنا البدائيّة القائمة على إدارة الرّهاب بأساليب دفاعيّة. وهي المقاربة الأساسيّة التي يقوم عليها منهج منتجي الخوف الجمعي المعاصرين، إذ هم «يحوّلون الخوف من شيء مرتبط فعلياً بتهديد ملموس إلى ضباب هلع كثيف معمم معقّد من تزايد احتمالات التعرّض إلى تهديد جدي في المستقبل يتسبب بالفناء. قلقٌ مقيم من شيء لم يحدث بعد، ولربّما لن يحدث قطعاً. خبرة يوميّة من عدم تيقّن أبديّ». فبدلاً من شعور المواطن بالخوف -الطبيعي- إذا ما وقع حادث إطلاق نار في مكان عام، يتولاه شعور هلع مستدام من تصاعد إمكانيّة حدوث إطلاق نار في أي وقت.
وتقول دراسة مهمّة حول خوف الأميركيين العاديين، أجرتها جامعة تشابمان (2017)، إن أعداداً متزايدة من المواطنين تعيش في ظلّ خليط من قلق مركّب: خوف من هيمنة حكومات فاسدة تخدم أجندات مشبوهة، وحروب سيبيريّة تستهدف أساسيات الحياة المعاصرة من كهرباء وماء وأنترنت وأجهزة إلكترونيّة، كما مراقبة الشركات الكبرى للمعلومات الشخصيّة، وحوادث الإرهاب العُنفيّ.
ويتمّ بناء هذا القلق المركّب عبر مزيج رّسائل متتابعة ومحفزات متتاليّة يتلقاها أفراد المجتمع من خلال وسائل الإعلام ومنتجي الثقافة الّذين تتضافر جهودهم -وإن ظهرت لغير العين المراقبة متباعدة غير منسّقة- في خدمة ذوي الأجندات السياسيّة والاقتصادية لبناء تراكم كمي تدريجي في عقول الأفراد، قبل أن يؤدي ذلك -بحكم الوقت- إلى ما يشبه تماماً مفعول غسل الأدمغة.
ولعلّ مما يفاقم من تأثير هذه الرّسائل في العقدين الأخيرين تشظّي استعمال وسائل التواصل الاجتماعي، وما ينتج عنها من استقطاب متصاعد، وفق ما يسميه علماء السيسيولوجيا بقانون «الاستقطاب الجمعيّ»، ويسجّل -مخبريّاً- نزوعاً لدى البشر الذين يقضون أوقاتاً مطوّلة في غرف صدى افتراضية تجمع المتشابهين بالأفكار والخبرات إلى تبني وجهات نظر أكثر تطرفاً ورجعيّة وقناعة بشأن المخاوف المشتركة الخاضعة للنقاش. وهو الأمر الذي قد يفسّر بصيغة ما صعود الفاشيات في أوقات التزعزع الاقتصادي والاجتماعي، وانتشار نظريّات المؤامرة بشكل ملحوظ، مقارنة بأوقات الرّخاء.
ويبدو أنّ التقدّم غير المسبوق في العلوم الاجتماعية خلال الثلاثين سنة الأخيرة قد وفّر لتجار الخوف أدوات بسيطة شديدة الفعاليّة لتعظيم ثقافة الخوف وتوسيعها، إذ إن حادثة إرهابيّة معزولة -مصطنعة كانت أو حقيقيّة- تؤدي إلى مقتل عدد قليل من الأبرياء يمكن توظيفها في وضع شعوب بأكملها في مزاج الرّعب والهلع من خلال وسائل الإعلام وتصريحات السياسيين. هذا في الوقت الذي يموت فيه يومياً مئات الأشخاص في كل مدينة بسبب السرطان أو الكحول أو جرعات مخدرات زائدة أو بسبب السمنة أو حوادث الطرق أو سوء التغذية أو غياب الخدمات الصحيّة الكافية، وهذه كلّها وفيّات يمكن التقليل منها دراماتيكيّاً لو أن جهد السلطات كان أساساً موجهاً لخدمة الأكثريّة، لا مصالح القلّة. ومن المثبت علميّاً الآن أن الخائفين أكثر من غيرهم تقبلاً للخضوع إلى سلطات استثنائيّة، وللتنازل عن حقوقهم الأساسيّة، مقابل استعادة نوع من أمان مؤقّت. ويُطلق البروفسور هوبرمان على هذه الممارسة اسم «الحرب العصبيّة البيولوجيّة»، وصنّفها ضمن الأسلحة الاستراتيجيّة المتوفرّة للحكومات.
وتلحظ مارغي كيرّ، في كتابها «الصّرخة: مغامرات مرعبة في علم الخوف»، أن أفراد المجتمعات المعاصرة هم في مزاج أسوأ من الخوف، مقارنة بأسلافهم قبل مائتي سنة مثلاً. وهي تربط ذلك بكثرة الأحداث التي يتم وضعها إعلامياً في سياق التخويف، فتتابَع التحديثات عنها لحظيّاً عبر الهواتف النقالة وقنوات الإعلام التقليديّة والميديا الحديثة، مما يخلق شعوراً زائفاً بالانخراط بالحدث. وحتى عندما يهرب المرء في نهاية يومه إلى فضاء الترفيه، فإن بانتظاره سيل لا يتوقف من أفلام الحروب، ومطاردات الشرطة، والتحليل الجنائي والجرائم الحقيقيّة والمتخيّلة، والزومبيّات، ونظريّات المؤامرة، والديستوبيّات. وتقول كيرّ إن هذا التعرّض المكثّف لجرعة العنف اليومي ليس له من نتيجة سوى تسربه إلى اللاوعي وكأنه حقيقة موضوعيّة قد تحدث للمرء في أي لحظة.
وهكذا، عندما تسقط شعوب الغرب المتقدّم بالهلع بعد انتشار أنباء وباء كورونا، ويتقاتل الناس لشراء مستلزمات أساسيّة لم يحتاجوها بالفعل، فإن لا شيء يثير الاستغراب. فكأن الناس مهيأون للهلع منذ وقت، وكانوا فقط بانتظار اللحظة المواتيّة.



«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر
TT

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

هي رواية تتنقل بخفة ولغة ساخرة بين المعاناة والحب والسياسة والفانتازيا والأساطير، تحمل اسم «عورة في الجوار»، وسوف تصدر قريباً عن دار «نوفل» للنشر والتوزيع، وتقع في 140 صفحة.

عن عوالمها وفضائها السردي، يقول تاج السرّ لـ«الشرق الأوسط»: «تروي هذه الرواية التحولات الاجتماعية، وحياة الريف المكتنز بالقصص والأساطير، وانتقال البلد إلى (العصرنة) والانفتاح ورصد التأثيرات الثقافيّة التي تهبّ من المدن إلى الأرياف، لكنها ترصد أيضاً تأثير الأوضاع السياسية المضطربة في السودان على حياة الناس العاديين وما تسببه الانقلابات العسكرية من معاناة على السكان المحليين، خاصة في الأرياف... إلى جانب اهتمامها بتفاصيل الحياة اليومية للناس، في سرد مليء بالفكاهة السوداء».

حمل غلاف الرواية صورة الكلب، في رمزية مغوية إلى بطل الرواية، الذي كان الناس يطلقون عليه لقب «كلب الحرّ» كتعبير عن الشخص كثير التنقلّ الذي لا يستقرّ في مكان. كان كثير التنقّل حيث يعمل سائق شاحنة لنقل البضائع بين الريف والعاصمة وبقية المدن، والزمان هو عام 1980، وفي هذا الوقت يلتقي هذا السائق، وكان في العشرينات من عمره بامرأة جميلة (متزوجة) كانت تتبضع في متجر صغير في البلدة التي ينحدرُ منها، فيهيمُ فيها عشقاً حتى إنه ينقطع عن عمله لمتابعتها، وتشمم رائحتها، وكأنها حلم من أحلام الخلود.

وعن الريف السوداني الذي توليه الرواية اهتماماً خاصاً، ليس كرحم مكاني فحسب، إنما كعلاقة ممتدة في جسد الزمان والحياة، مفتوحة دائماً على قوسي البدايات والنهايات. يتابع تاج السر قائلاً: «الريف السوداني يلقي بحمولته المكتنزة بالقصص والأساطير حتى الفانتازيا في أرجاء الرواية، حيث ترصد الرواية ملامح وعادات الحياة الاجتماعيّة... لتنتقل منها إلى عالم السياسة، والانقلابات العسكرية والحروب الداخلية، حيث تسجل صراعاً قبلياً بين قبيلتَين خاضتا صراعاً دموياً على قطعة أرض زراعية، لا يتجاوز حجمها فداناً واحداً، لكنّ هذه الصراعات المحلية تقود الكاتب إلى صراعات أكبر حيث يتناول أحداثاً تاريخيّة كالوقائع العسكريّة والحروب ضدّ المستعمِر الإنجليزي أيّام المهدي محمد أحمد بن عبد الله بن فحل، قائد الثورة المهديّة، ومجاعة ما يعرف بـ(سنة ستّة) التي وقعت عام 1888، حيث تعرض السودان عامي 1889 – 1890 إلى واحدة من أسوأ المجاعات تدميراً».

وعلى الصعيد الاجتماعي، ترصد الرواية الغزو الثقافي القادم من المدن إلى الأرياف، وكيف استقبله الناس، خاصة مع وصول فرق الموسيقى الغربية، وظهور موضة «الهيبيز»، وصولاً إلى تحرر المرأة.

رواية جديدة تتنقل بخفة ولغة ساخرة بين المعاناة والحب والسياسة والفانتازيا والأساطير، سوف تصدر قريباً عن دار «نوفل» للنشر.

يشار إلى أن أمير تاج السر روائي سوداني ولد في السودان عام 1960، يعمل طبيباً للأمراض الباطنية في قطر. كتب الشعر مبكراً، ثم اتجه إلى كتابة الرواية في أواخر الثمانينات. صدر له 24 كتاباً في الرواية والسيرة والشعر. من أعماله: «مهر الصياح»، و«توترات القبطي»، و«العطر الفرنسي» (التي صدرت كلها عام 2009)، و«زحف النمل» (2010)، و«صائد اليرقات» (2010)، التي وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية عام 2011، تُرجمَت أعماله إلى عدّة لغات، منها الإنجليزيّة والفرنسيّة والإيطاليّة والإسبانيّة والفارسيّة والصينيّة.

نال جائزة «كتارا» للرواية في دورتها الأولى عام 2015 عن روايته «366»، ووصلتْ بعض عناوينه إلى القائمتَين الطويلة والقصيرة في جوائز أدبيّة عربيّة، مثل البوكر والشيخ زايد، وأجنبيّة مثل الجائزة العالميّة للكتاب المترجم (عام 2017 بروايته «العطر الفرنسي»، وعام 2018 بروايته «إيبولا 76»)، ووصلت روايته «منتجع الساحرات» إلى القائمة الطويلة لجائزة عام 2017.

صدر له عن دار «نوفل»: «جزء مؤلم من حكاية» (2018)، «تاكيكارديا» (2019) التي وصلتْ إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب (دورة 2019 – 2020)، «سيرة الوجع» (طبعة جديدة، 2019)، «غضب وكنداكات» (2020)، «حرّاس الحزن» (2022). دخلت رواياته إلى المناهج الدراسيّة الثانويّة الإماراتيّة والبريطانيّة والمغربية.