الحرم المكي في اللحظة «الكورونية»... صورة تذكارية

تعليق التعبد في أقدس الأماكن ليس مقتصراً على المسلمين وإنما لقطة ضمن سياق كوني

صحن المطاف خالٍ من المعتمرين
صحن المطاف خالٍ من المعتمرين
TT

الحرم المكي في اللحظة «الكورونية»... صورة تذكارية

صحن المطاف خالٍ من المعتمرين
صحن المطاف خالٍ من المعتمرين

وهكذا تُضاف صورة الحرم المكي الخالي من المصلين إلى مستودع الصور الأيقونية المختزنة في متحف الذاكرة الإنسانية. هذه الصورة المرعبة بسكونيتها وما يترتب عليها من هجوم جمالي مربك. حيث الفراغ الفيزيائي الذي يحيل إلى فراغ روحي موحش. وكأن الصورة ذاتها كحقل علامات بصرية لا تكتفي بالإشارة إلى خلو الحرم من البشر فقط، بل من الحركة، والصوت. وبالتالي فهي صورة توحي بخلو هذا الفضاء الروحاني من شحنات الإيمان، إذ لا صلوات ولا تضرع ولا طواف. بمعنى أن الفراغ كمضاد لأصل الامتلاء هو القيمة الجمالية المهيمنة. أجل، جمالية الرعب المتأتي من تفريغ المكان من العنصر البشري بما هو روح المكان.
هذا الفراغ الهائل أدى بالمفهومين: الفلسفي والفني، إلى انكشاف الكعبة ككتلة تخاطب وساعات الفراغ، وهو مشهد موجع يحدث للمرة الأولى، وفي لحظة ميديائية قصوى ضاعفت أثر الحدث على المتلقي، سواء كان من المتعالقين روحياً بالحرم أو كان مجرد كائن معولم يتابع الفضائيات ووكالات الأنباء. لأن تعليق الصلاة في الحرم ليس حدثاً مستقلاً بذاته ومقتصراً على المسلمين، بقدر ما هو لقطة ضمن سياق كوني فرضته اللحظة الكورونية. هذه اللحظة الساطية التي بددت ألبوم صورها المرعبة، حيث الميادين العالمية الخالية من البشر، والطائرات الهاجعة في مرابضها، ومدرجات الملاعب الرياضية الخرساء، وضحايا الوباء الذين لا يملك أحبتهم لحظة وداع لائقة بكرامتهم، وحيث الوجوه الملفعة بأقنعة الوقاية من المرض وهكذا.
صورة الحرم الخاوي هي أداة الفضائيات لتذكير المؤمنين بمعنى وفداحة جائحة كورونا، وفي الآن ذاته، يبدو عرضها المتكرر بمثابة جَلد لأرواحهم التائهة. فهي صورة موجعة كصور الحروب والكوارث الطبيعية، وإن كان خطابها البصري أقرب إلى النعومة منه إلى البشاعة. فهي صورة من دون دماء ولا أشلاء ولا أطراف مبتورة، بل حتى المبنى ذاته لم يتعرض لقصف أو دمار بأي آلة حربية فتاكة. إلا أن الألم المتأتي من النظر المتكرر إلى الصورة، ومن خلال قنوات إعلامية متنوعة، يشي بمعركة من نوع ما يمكن لهذه الصورة أن تكون تأريخاً فجائعياً لها. فهي صورة تنطق بصمتها، وبطاقتها الرمزية العالية، كما أن الفراغ الروحي الذي يستبطن مهادها على درجة من الجموح من الوجهة الخيالية، وبالتالي فهو يستديم حالة التوتر الدرامي ليحفظ للحدث طزاجته وارتداداته النفسية داخل الزمان والمكان.
إنها صورة من صور الويلات، وإن بدت هادئة وخالية من آثار العنف المباشر، ربما لأنها لا توخز الضمير وحسب، بل تخاطب العقل أيضاً، فهي صورة مرآوية لجائحة شرسة تقتضي التعامل معها بعقلانية لا بفائض العواطف. ولذلك يتمدد أثر تعليق العبادة في كل مفاصل الصورة. وذلك ضمن نظام علاقات بصري يحفظ للعناصر التشكيلية مواضعاتها الجمالية ووظائفها الأدائية. حيث السياج الذي يحيط بالكعبة في مسرح الحدث الذي يحد من مراودات الملامسة، لكنه يسمح بالنظر فقط، أي الإبصار بما هو الحد الأدنى للتماس الروحي. وهو الأمر الذي يعطيها سمة الديمومة، حيث المشهد الذي ينحفر في الذاكرة ويصعب محوه.
وككل الصور التي تفقد طاقتها الموجعة بفعل التكرار، بدت صورة الحرم الخاوي بعد موجات من التكرار صورة مألوفة أقرب إلى العادية، يتلقاها المشاهدون باختلاف منسوب روحانيتهم بشيء من الحياد، وكأنها مجرد صورة أرشيفية تسجيلية لحدث ما زال في طور التشكُّل، بمعنى أن مخزون الصدمة العاطفية فيها قد استنفد، أو ربما تحولت إلى فكرة قابلة للتأمل في مختبرات الوعي، مثلها مثل سقوط برجي التجارة مثلاً. وهذه هي طبيعة الصور الفجائعية، إذ ينبغي أن تكون مكتملة البناء من الوجهة الجمالية، ومستفزة للوعي من الوجهة الفكرية، بمعنى قدرتها على بث رسائل متناقضة لترتقي إلى مستوى الوثيقة. فجمال أي صورة من صور الخراب يكمن في الأنقاض، والمفارقة هنا أن أنقاض صورة الحرم المفرغ من المصلين تبدو على درجة من النقاء والاكتمال وكأنها لقطة تحنيطية للمكان الساكن، الفارغ، الصامت، القابل للحركة والامتلاء واللهج بذكر الله بمجرد انقضاء مفاعيل اللحظة الكورونية.
قبل جائحة كورونا لم يتصور أحد أن تحنيط هذا الفضاء الروحي المتمثل في تعليق العبادة مسألة ممكنة من الوجهة العقلية. وأي تفكير بهذا المآل هو بمثابة صورة فوق - واقعية غير قابلة للتخيّل، إلا أن وكالات الأنباء أقامت الدليل على هذه الإمكانية من خلال صورة أربكت حواس المتلقي، وذلك بهز أركان صورة الحرم الراسخة في الوجدان بما تختزنه من قيم القداسة الزهد والأبهة والعظمة. فالعين التي اعتادت أن تبتهج برؤية امتلاء الحرم بالأجساد المحتشدة المبتهلة إلى الله، ستظل حتى حين تعاني من حالة إنكار حسّي، ولن تتقبل الفكرة الجمالية القائلة بأن للفراغ المادي متعته البصرية والعاطفية والفكرية، لأن الراحة البصرية للذوات المروحنة لا تتأتى إلا من رؤية الامتلاء، كدلالة على الفيض الروحي. وكل فراغ هو طمس لعلامات الإيمان وتصفير للشعور.
الفراغ لغة، فهو يشبه السكتات والشقوق في النصوص الأدبية. وهو جسد بالمعنى الروحي وكتلة بالمعنى الفيزيائي أيضاً، ولذلك تتداعى أجساد المصلين إلى بعضها البعض ليسدوا ثغرات الفراغ التي يمكن للشيطان أن ينفذ منها. وهذا هو ما يضاعف أثر الصورة الناطقة باحتلال شيطان كورونا فراغ الحرم. بمعنى أنها صورة من صور تجليات الفراغ والامتلاء. كما قد تكون بالنسبة للإنسان المعولم تجربة جديدة تماماً لمشاهدة صورة فجائعية تتجوهر قيمة الدمار فيها بغياب الإنسان، ومن خلال صورة وصفية غير موظّفة أيديولوجياً، صورة تقول إن المكان قد تجمد، والزمان توقف، وهو قابل للاستئناف والامتلاء وسد كل ذلك الفراغ الموحش بالبشر والإيماءات والأصوات بمجرد انقضاء مفاعيل الحدث الكوروني.
في الذاكرة تتجمد الصور على شكل وحدات منفردة. وهذه الصورة التي انغرزت بعمق في وجدان إنسان اللحظة استحقت أن تكون أحد مداخل فهم الحدث الكوروني، فهي تختصر الخطر الذي يشكله على حياة البشر، كما تتسلط على الخيال. وبمجرد أن يشاهدها أي شخص في جميع أنحاء العالم يلتقط معناها ومغزاها، لكأنها صورة من صور الفن المفاهيمي. فهي صورة محقونة بالمعنى الثقافي، ولا غنى للعالم عنها للتعرّف على أثار كورونا كحالة حربية ضد اعتيادية الحياة. فأوراق اعتمادها هو موضوعها، وهي أشبه ما تكون بالبيان. حيث التبليغ الجمالي من خلال الفراغ. حتى حدود التأويل تبدو محدودة بالنظر إلى صراحة عناصرها، وعلو المنسوب الدرامي في سياقها.
هكذا تبدو منظومة صور الحرم المفرّغ من المصلين، حيث البياض الشاسع الذي يشي بصورة قد خضعت لعملية مونتاج جراحية في العمق لمحو العنصر البشري. فهي صور تعاند كونها مادة إعلامية خام للإخبار عن حدث طارئ. وبتوقيع كورونا تنزاح نحو جماليات الرعب. حيث ما يُعرف بالجمال السامي، المزدحم بالمشاعر الأخلاقية، وبالتعبير الصريح والجريء عن الحقيقة. وذلك من خلال قدرتها على تجميد الزمن، والإمساك بالفراغ. أجل، الفراغ بما هو انحراف عن المألوف المتمثل في الامتلاء. وهذا هو ما يؤهلها لأن تكون صورة واخزة للضمير، مستفزة للحواس، تلفت الانتباه إلى موضوعها في المقام الأول. فهي صورة عاطفية، أخلاقية، تخليدية، وبالضرورة رثائية.
- ناقد سعودي



ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون
TT

ما بال العالم كله ينعم بالسلام ونحن من حرب لحرب؟

أفلاطون
أفلاطون

في اليوم العالمي للتسامح الذي صادف أمس، ينبغي لنا، نحن العرب تحديداً، أن نتساءل: ما بال العالم كله ينعم بالسلام ويتقلب في رغد العيش، ونحن نخرج من حرب لنلبس لأمة الحرب من جديد؟ وإن كانت أوكرانيا قد خرقت القاعدة، إلا أن الأعم الأغلب من دول العالم يعيش حياة طبيعية، تختلف عما نراه في أفلام السينما. بمناسبة اليوم، سنمر بمحطات تاريخية ذات علائق بالموضوع، ولعل أول رمز للتسامح في تاريخ الفكر هو سقراط، كما تجلّى في محاورات تلميذه أفلاطون، وتجلّت معه روح التسامح في أسلوبه الحواري كجزء من بحثه عن الحقيقة.

في المحاورات، كان متسامحاً للغاية مع محاوريه، ويدعوهم للسعي وراء الحقيقة أينما انطلق بهم هذا السعي. ولطالما شجّع خصومه على تفنيد كل ما يقول، وأن هذه هي الطريقة المُثلى للكشف عن وجه الحقيقة. وفي إحدى المحاورات يصف نفسه بأنه يبتهج بدحض الآخرين لأقواله أكثر من ابتهاجه بدحضه أقوال الآخرين، لأن النجاة من الشر خير من إنقاذ الآخرين.

السعي وراء الحقيقة، بالنسبة إلى سقراط، مرتبط بالعقل المنفتح، وهذا الشكل من التسامح الحواري يفترض بالطبع أن يؤدي إلى رؤية موحدة للحقيقة. لا بد أن تشعر في بعض الأحيان بأن تسامح سقراط مبالغ فيه للغاية، لكن ربما هذا هو أساس فكرة «المحاورات»، أن تخلق الإنسان الكامل المرجعي في كل شيء، مع أننا نعلم أنه في النهاية إنسان، ولا بد أن يكون غضب ذات مرة، بل مرات.

محطة التسامح الثانية يمكن أن نراها واضحة وأكثر تطوراً في رواقية إبكتيتوس وماركوس أوريليوس وسينيكا، فالفكرة الرواقية هي وجوب التركيز على تلك الأشياء التي يمكننا التحكم فيها، مثل آرائنا وسلوكياتنا، مع تجاهل تلك الأشياء التي لا يمكننا التحكم فيها، وخاصة آراء وسلوكيات الآخرين. ترتبط الفكرة بالاستسلام واللامبالاة، كما هو واضح في حالة إبكتيتوس، الذي قد يفسر وضعه الاجتماعي نصائحه بالتحرر الذهني، لا الجسدي، فقد نشأ مستعبداً عند الرومان.

بطبيعة الحال، صبر المستعبد ليس مثل تسامح المتسامح الذي يملك القدرة على الرفض، قدرة لا يمتلكها المستعبد، فالتسامح فضيلة القوي، كما يقول الإمبراطور ماركوس أوريليوس. وقد يرتبط الأمر بفضائل أخرى مثل الرحمة والإحسان، غير أن نظرة الرواقيين إلى التسامح لا تصل إلى درجة احترام الاستقلالية وحرية الضمير، كما الحال في الليبرالية الحديثة، إذ لم تكن الحياة السياسية الرومانية متسامحة مثل الحياة السياسية الحديثة، وعلى الرغم من أن «تأملات» ماركوس تحتوي على نصوص كثيرة تستحضر روح التسامح، فإن ماركوس نفسه كان مسؤولاً بشكل شخصي عن سحق واضطهاد المسيحيين في زمنه.

ولم يصبح التسامح موضوعاً جدياً للاهتمام الفلسفي والسياسي في أوروبا حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر، بل قبل ذلك خلال عصر النهضة والإصلاح في القرنين الخامس عشر والسادس عشر رفع الإنسانيون من مثل إيراسموس ودي لاس كاساس ومونتين شعار استقلالية العقل البشري ضد دوغمائية الكنيسة التي كانت توقد نيران محاكم التفتيش وتلقي بالناس فيها وتقتل المخالف.

في أعقاب الانقسامات التي خلّفها مشروع الإصلاح اللوثري والإصلاح «الكاثوليكي» المضاد، دُمرت أوروبا بسبب الحرب التي أثيرت باسم الدين، حروب بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاماً (1618 - 1648). بسبب هذه الحرب الشنيعة، وكل الحروب كذلك، أدرك العلماء والحكماء حجم القوة التدميرية الكامنة في التعصب، فنهضوا لاجتثاث ذلك التدمير من خلال استعادة نصوص التسامح وإعادة النظر في العلاقة بين المعتقد الديني والسلطة السياسية.

لافونتين

وكان هناك تأثير ثقافي للتيار الذي قام من أجل تعريف معنى السيادة وتطهير الدين في بريطانيا مما علق به خلال الحروب الأهلية البريطانية (1640 - 1660)، ويضاف إلى كل ذلك تكاثر المعلومات عن الاختلافات الثقافية مع بداية عهد الرحلات واكتشاف العالم، وكان لاكتشاف الصين تحديداً أعظم الأثر، فقد صُدم المسيحيون صدمة فكرية عنيفة عندما وجدوا شعباً أخلاقياً لا يؤمن بدين، بمعنى أنهم وصلوا إلى أن الدين ليس مصدر الأخلاق. ورفع الإنسانيون في حركة الإصلاح شعاراً يقول: هل لديكم معرفة منقولة عن الله معصومة من الخطأ تبرر قتل من يُتهم بالزندقة؟ ولم يلبث هذا القلق بشأن قابلية الإنسان للخطأ أن فتح الطريق إلى ما يعرف باسم «التسامح المعرفي»، ومع اقتران الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ وانتقاد السلطة الكنسية، نشأت أشكال جديدة وأكثر عمقاً، من التسامح السياسي. وأخذ التسامح في القرن السابع عشر صورة الممارسة العملية في أجزاء معينة من أوروبا.

ربما حدث هذا نتيجة زيادة التجارة والحراك الاجتماعي. وصاغ سبينوزا حجة للتسامح ترتكز على 3 دعاوى، أولاً، تقييد حرية الفكر مستحيل. ثانياً، السماح بحرية الفكر لا يمس بسلطة الدولة. وثالثاً، يرى سبينوزا أن السلطة السياسية يجب أن تركز على التحكم في الأفعال، وليس على تقييد الفكر. هذا التركيز على الفرق بين الفكر والفعل أصبح قضية جوهرية في مناقشات المفكرين اللاحقة حول التسامح، خصوصاً عند لوك، وميل، وكانط. ويمكن العثور على صورة مختلفة إلى حد ما عن رؤى سبينوزا الأساسية في رسالة لوك الشهيرة حول التسامح (1689)، وهي مقالة كتبها أثناء منفاه في هولندا. وتركز حجة لوك بشكل خاص على الصراع بين السلطة السياسية والمعتقدات الدينية. لقد عبّر عن وجهة نظر مبنية على دعواه بأنه من المستحيل على الدولة فرض المعتقد الديني بالإكراه. وقال إن الدولة يجب ألا تتدخل في المعتقدات الدينية التي يختارها الأفراد، إلا عندما تؤدي هذه المعتقدات الدينية إلى سلوكيات أو مواقف تتعارض مع أمن الدولة. رسالة جون لوك اليوم لا تزال هي المانيفستو الأساس لكل مطالب التسامح، رغم أنها لم تكن كاملة في البداية.