رواية تشيكية ترثي الوحدة والضعف الإنساني

بوهوميل هرابال يروي وقائع عايشها في «خدمت ملك إنجلترا»

رواية تشيكية ترثي الوحدة والضعف الإنساني
TT

رواية تشيكية ترثي الوحدة والضعف الإنساني

رواية تشيكية ترثي الوحدة والضعف الإنساني

يمزج الكاتب التشيكي بوهوميل هرابال في روايته «خدمت ملك إنجلترا» الصادرة حديثاً عن دار صفصافة القاهرية بين الخيال وبين وقائع حقيقية عايشها فعلياً، تتجلى التفاصيل فيها مفعمة بالتناقضات والسذاجة، والعبثية، والسخرية والدموع، والمواقف التي لا تُصدق. ورغم أن المؤلف التزم ببدايات تقليدية لكل فصول الرواية الخمسة، أو القصص الخمس التي تشكل الرواية، فإن النهايات جاءت جذابة ومدهشة.
في الرواية التي ترجمها الدكتور خالد البلتاجي وجه هرابال نصيحة أشبه بالتحذير لقرائه، يدعوهم فيها للانتباه لرسالته، حيث يقول في بداية كل فصل: «اسمعوا وعوا ما سأقصه الآن عليكم». وعند كل نهاية من الفصول الخمسة يختتم بعبارة: «هل اكتفيتم؟ هذا كل ما لدي اليوم». وقد جاء كل فصل من فصولها في مقطع واحد، وبجمل طويلة مركبة. وتجلت طريقة هرابال المعهودة القائمة على الانفراط في السرد، حيث تتبدل لغة الراوي حسب حالته النفسية، كما أن محاولاته الساذجة في ارتقاء درجات السلم الاجتماعي تترك أثرها في لغته حيث يحاول انتقاء الكلمات وتهذيبها، فيختلط ما هو دارج بما هو فصيح، كما تختلط العبارات الأجنبية بالتشيكية.
كتب هرابال «خدمت ملك إنجلترا» مطلع سبعينات القرن العشرين، وقد قامت السلطات بمنعها من النشر حتى سقوط الشيوعية في التشيك عام 1989. وكانت المشاهد الجنسية الصارخة من أسباب المنع الرئيسية عند ظهور الرواية عام 1971. لكنها لم تكن بكل تأكيد متسقة مع الآيديولوجية الشيوعية وقتها. حيث يسخر هرابال فيها من كل الأنظمة المستبدة، فهو لا يرى الإنسان التشيكي بمرآة وردية، كما يرفض رؤية الأحداث من وجهين لا ثالث لهما، بخاصة أحداث الحرب العالمية الثانية وما نتج عنها.
ويعمد هربال إلى إدهاش قرائه من خلال صراحته، والشخصيات التي تعبر عن نفسها بوضوح، ودون مواربة. يقول في إحدى صفحات الرواية: عندما يصل الطفل الراوي لسن 14 عاماً يعمل في فندق براغ، ثم ينتقل إلى فندق تيتشوتا وبعده يلتحق بفندق باريس، وكان رئيسه سكوفانيك يتمتع بإمكانيات كبيرة، وكان كلما سأله أحد كيف تعلمت كل هذا كان يفاخر بأنه خدم ملك إنجلترا، المدهش في أمر هذا الرجل أنه حظي بزيارة إمبراطور الحبشة ونال الطفل ديتيا إعجابه لكنه اتهم في نهاية الاستقبال بسرقة ملعقة ذهبية كاد يعاقب على أثرها، لكن أنقذه أنهم وجدوها في ركام المطبخ.
يتابع هرابال في الرواية سيرة بطل الرئيسي «ديتيا»، ومعناه «طفل» بالتشيكية. ويظل «ديتيا» مطارداً طيلة حياته تحت وطأة شعور بالدونية نتيجة قصر قامته، يحاول أن يباري وجهاء المدينة في جاههم ومالهم. يحالفه نجم سعده ويدفعه إلى الأمام إلى مجد ينشده، وثراء طالما حلم به، وحب امرأة جميلة، لكن كل هذا يأتيه في اللحظة الخاطئة. لم يشعر يوماً بأنه سعيد، وظل دائم السعي، ولا يكاد يبلغ هدفه حتى يتأكد أن مبتغاه لا قيمة له، ولا يرضيه. بل كان على العكس، كلما علا وارتفع تزايد تجاهل المجتمع له. فقد كان يراه إنساناً انتهازيّاً، يغتنم المواقف، ويقف في صف القوي.
تبدو الرواية وكأنها شكل من أشكال الرواية التاريخية. فالذات الساردة تتتبع نمو شخصية البطل، ويحيل المؤلف من خلالها إلى كتابات أدباء مثل جوته، وتوماس مان، وجونتر جراس وغيرهم. كما تنعكس في قصة حياة البطل لحظات حاسمة في تاريخ وسط أوروبا في القرن العشرين، تتقاطع فيها ظلال من حياة الكاتب نفسه، ويحكيها الراوي بأسلوب الثرثرة التي تشيع في المقاهي وجلسات الوحدة القاتلة.
سارت حياة البطل على هذه الوتيرة من الشعور بعدم التحقق والدونية، حتى الحب الذي ظهر في حياته لم يخرجه من ورطته النفسية والمجتمعية، كان تحولاً كبيراً عندما وقع في حب فتاة قادمة من أقلية ألمانية يكرها التشيك. ظن «ديتيا» أن حياته معها ستبدأ من جديد، وسيحقق معها المكانة التي ينشدها. تنتهي بها حالة القهر التي يعيشها، فقد كان منبوذاً، وحيداً على حافة المجتمع، معزولاً عن العالم الذي طالما أحبه، وقد تمنى أن ينهي تجواله في عالم أصدقائه الوحيدين من الحيوانات. لا يسعى إلى أن يضارع أحداً، بل يبحث عن نفسه التي ضاعت منه وافتقدها.
يقول المترجم البلتاجي في المقدمة: «من المؤكد أن مشاعر سلبية ستنتاب القارئ في البداية ضد بطل الرواية ديتيا، وربما سينفر منه البعض لحرصه الشديد على أن يصبح رجلاً ثريّاً ومرموقاً في المجتمع بأي ثمن، حتى لو تنازل عن شرفه وهويته. لكن ما إن نغوص في أعماق الرواية حتى نعرف أن البطل إنسان فشل في حياته. حاول أن يسير ضد طبيعته، فجاءت كل محاولاته بنتائج كارثية. نعم حالفه القدر وحقق له كل ما تمناه، لكن سرعان ما كان ذلك يتبدد. وهو في النهاية ما يجعل القارئ يتعاطف معه لأنه لم يقدر يوماً على أن يكون سعيداً، وأن يتجاوز عن كل سقطاته».
ومن خلال متابعة أعمال هرابال يمكن ملاحظة أنه استفاد من تجاربه الشخصية، فقد كانت ضمن مصادر استلهام قصص الرواية، وخاصة تجاربه في الفنادق والمطاعم الفخمة، وحكايات رئيس السعاة في فندق «مودرا هفايزدا» في مدينة ستِسكا بوسط إقليم «بوهيميا»، والذي ما زال موجوداً حتى اليوم. وقد كان كثير من شخوص الرواية أناساً حقيقيين من ضمن معارفه، ورغم ذلك يؤكد هرابال في نهاية الرواية أنه كتبها «تحت تأثير الذاكرة الكاذبة» لسلفادور دالي، ونظرية فرويد عن «الشعور المكبوت الذي يجد له في الحديث مُتنفساً».
ويعتبر بوهوميل هرابال (1914 - 1997) واحداً من أفضل ممثلي الأدب التشيكي في القرن العشرين، وأكثرهم ترجمة إلى اللغات الأجنبية. درس في كلية الحقوق بجامعة تشالز بمدينة براغ، كما تردد على محاضرات في تاريخ الأدب والفن والفلسفة، أنهى دراسته الجامعية عام 1946. وعمل إبان الحرب العالمية الثانية بهيئة السكة الحديد، واشتغل ساعي بريد ومندوب مبيعات، كما تطوع للعمل في شركة للحديد والصلب، وعمل في مصانع تعبئة المواد الخام، والمسرح.
وبدء هرابال نشاطه الأدبي عام 1963. وأصبح في عام 1965 عضواً باتحاد الكتاب التشيكوسلوفاك. وقد مُنع من الكتابة بعد ربيع براغ. لكنه بدأ بعدها ينشر أعماله في دور نشر سرية أو أجنبية، وعاود الكتابة بصور رسمية منذ عام 1975. وتحولت كثير من كتاباته إلى أعمال سينمائية، وحصل على العديد من جوائز النشر، اعتبر خليفة فرانز كافكا في الأدب التشيكي، خاصة بعد روايته «عزلة صاخبة للغاية».
توفي عام 1997 بعد سقوطه من نافذة حجرته بالطابق الخامس بالمستشفى التي كان يعالج فيها بمدينة براغ، ودفن في نفس المقبرة التي دفنت فيها أمه، وزوجها، وعمه وأخيه، وقد أوصى بوضعه في نعش من خشب البلوط. من أهم أعماله «حديث الناس - 1956»، و«قنبرة فوق الحبل - 1959»، و«لؤلؤة في القاع» وهي مجموعة قصصية نشرها 1963، و«الرغائون - مجموعة قصصية 1964»، و«قطارات تحت حراسة مشددة - 1965»، و«إعلان عن بيع بيت لا أريد العيش فيه - 1965»، و«وحدة صاخبة للغاية - 1989»، و«نهاية سعيدة - 1993»، و«الهمجي الرقيق - 1981».


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر
TT

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر

تشهد منطقة الباحة، جنوب السعودية، انطلاقة الملتقى الأول للأدب الساخر، الذي يبدأ في الفترة من 22-24 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، وينظمه نادي الباحة الأدبي.

وأوضح رئيس النادي، الشاعر حسن الزهراني، أن محاور الملتقى تتناول «الأدب الساخر: المفهوم، والدلالات، والمصادر»، و«الاتجاهات الموضوعية للأدب الساخر، والخصائص الفنية للأدب الساخر في المملكة»، وكذلك «مستويات التأثر والتأثير بين تجارب الكتابة الساخرة محلياً ونظيراتها العربية»، و«حضور الأدب الساخر في الصحافة المحلية قديماً وحديثاً»، و«أثر القوالب التقنية الحديثة ومواقع التواصل في نشوء أشكال جديدة من الأدب الساخر محلياً»، و«سيميائية الصورة الصامتة في الكاريكاتير الساخر محلياً».

بعض المطبوعات الصادرة بمناسبة انعقاد أول ملتقى للأدب الساخر (الشرق الأوسط)

وشارك في صياغة محاور الملتقى لجنة استشارية تضم: الدكتور عبد الله الحيدري، والدكتور ماهر الرحيلي، والقاص محمد الراشدي، ورسام الكاريكاتير أيمن يعن الله الغامدي.

وكشف الزهراني أن النادي تلقى ما يزيد على 40 موضوعاً للمشاركة في الملتقى، وأقرت اللجنة 27 بحثاً تشمل؛ ورقة للدكتورة دلال بندر، بعنوان «حمزة شحاتة... الأديب الجاد ساخراً»، والدكتور محمد الخضير، بعنوان «الخصائص الفنية في الأدب الساخر عند حسن السبع في ديوانه ركلات ترجيح - دراسة بلاغية نقدية»، والدكتور صالح الحربي، بعنوان «المجنون ناقداً... النقد الأدبي في عصفورية القصيبي»، والدكتور عادل خميس الزهراني، بعنوان «الصياد في كمينه: صورة الحكيم في النكت الشعبية بمواقع التواصل الاجتماعي»، والدكتور حسن مشهور، بعنوان «الكتابة الساخرة وامتداداتها الأدبية... انتقال الأثر من عمومية الثقافة لخصوصيتها السعودية»، والدكتورة بسمة القثامي، بعنوان «السخرية في السيرة الذاتية السعودية»، والدكتورة كوثر القاضي، بعنوان «الشعر الحلمنتيشي: النشأة الحجازية وتطور المفهوم عند ابن البلد: أحمد قنديل»، والدكتور يوسف العارف، بعنوان «الأدب الساخر في المقالة الصحفية السعودية... الكاتبة ريهام زامكة أنموذجاً»، والدكتور سعد الرفاعي، بعنوان «المقالة الساخرة في الصحافة السعودية... الحربي الرطيان والسحيمي نموذجاً»، والدكتور عمر المحمود، بعنوان «الأدب الساخر: بين التباس المصطلح وخصوصية التوظيف»، والدكتور ماجد الزهراني، بعنوان «المبدع ساخراً من النقاد... المسكوت عنه في السرد السعودي»، والمسرحي محمد ربيع الغامدي، بعنوان «تقييد أوابد السخرية كتاب: حدثتني سعدى عن رفعة مثالاً»، والدكتورة سميرة الزهراني، بعنوان «الأدب الساخر بين النقد والكتابة الإبداعية... محمد الراشدي أنموذجاً». والدكتور سلطان الخرعان، بعنوان «ملخص خطاب السخرية عند غازي القصيبي: رؤية سردية»، والدكتور محمد علي الزهراني، بعنوان «انفتاح الدلالة السيميائية للصورة الساخرة... الرسم الكاريكاتوري المصاحب لكوفيد-19 نموذجاً»، والكاتب نايف كريري، بعنوان «حضور الأدب الساخر في كتابات علي العمير الصحافية»، والدكتور عبد الله إبراهيم الزهراني، بعنوان «توظيف المثل في مقالات مشعل السديري الساخرة»، والكاتب مشعل الحارثي، بعنوان «الوجه الساخر لغازي القصيبي»، والكاتبة أمل المنتشري، بعنوان «موضوعات المقالة الساخرة وتقنياتها عند غازي القصيبي»، والدكتور معجب الزهراني، بعنوان «الجنون حجاباً وخطاباً: قراءة في رواية العصفورية لغازي القصيبي»، والدكتور محمد سالم الغامدي، بعنوان «مستويات الأثر والتأثير بين تجارب الكتابة الساخرة محلياً ونظرياتها العربية»، والدكتورة هند المطيري، بعنوان «السخرية في إخوانيات الأدباء والوزراء السعوديين: نماذج مختارة»، والدكتور صالح معيض الغامدي، بعنوان «السخرية وسيلة للنقد الاجتماعي في مقامات محمد علي قرامي»، والدكتور فهد الشريف بعنوان «أحمد العرفج... ساخر زمانه»، والدكتور عبد الله الحيدري، بعنوان «حسين سرحان (1332-1413هـ) ساخراً»، ويقدم الرسام أيمن الغامدي ورقة بعنوان «فن الكاريكاتير»، والدكتور يحيى عبد الهادي العبد اللطيف، بعنوان «مفهوم السخرية وتمثلها في الأجناس الأدبية».

بعض المطبوعات الصادرة بمناسبة انعقاد أول ملتقى للأدب الساخر (الشرق الأوسط)

وخصص نادي الباحة الأدبي جلسة شهادات للمبدعين في هذا المجال، وهما الكاتبان محمد الراشدي، وعلي الرباعي، وأعدّ فيلماً مرئياً عن رسوم الكاريكاتير الساخرة.

ولفت إلى تدشين النادي 4 كتب تمت طباعتها بشكل خاص للملتقى، وهي: «معجم الأدباء السعوديين»، للدكتورين عبد الله الحيدري وماهر الرحيلي، وكتاب «سامحونا... مقالات سعد الثوعي الساخرة»، للشاعرة خديجة السيد، وكتاب «السخرية في أدب علي العمير» للدكتور مرعي الوادعي، و«السخرية في روايات غازي القصيبي» للباحثة أسماء محمد صالح.