ملحمة عائلية عن الهجرة والانتماء

«بتلة البحر الطويلة» لإيزابيل الليندي

ملحمة عائلية عن الهجرة والانتماء
TT

ملحمة عائلية عن الهجرة والانتماء

ملحمة عائلية عن الهجرة والانتماء

صدرت في مطلع عام 2020 رواية إيزابيل الليندي العشرين «بتلة البحر الطويلة» التي ترجمها إلى اللغة الإنجليزية كل من نيك كايستور وأماندا هوبكنسون. إنها ملحمة عائلية تنقلنا إلى حقبة نهاية الثلاثينات إبان فرار العديد من اللاجئين من الحرب الإسبانية في عهد الجنرال فرانكو، إثر هزيمته لأنصار الجمهورية وصعود الفاشية.
واستندت إيزابيل الليندي في هذا العمل إلى شخصيات واقعية وقصص مبنية على حقائق فعلية، لا سيما أنها عاشت تجربة الهجرة والترحال، إذ وُلِدت في البيرو وترعرعت في تشيلي، واضطرت إلى الانتقال للعيش لفترة في فنزويلا قبل استقرارها في كاليفورنيا في الولايات المتحدة. ومن هنا، جاء تعاطفها مع محن اللاجئين والمنفيين من أوطانهم. وكذلك عشقها لمسقط رأسها تشيلي، وهي تسرد ما يجري في عملها الأخير من أحداث في سانتياغو، وافتتان الشخصيات المحورية لمدينتها، وإسقاطها لشخصية عمها سلفادور الليندي الرئيس الاشتراكي الذي يتعرض لانقلاب عسكري، ويظهر دوره في الرواية في عدد من الأحداث، أبرزها اشتراطه لفيكتور أن يلاعبه الشطرنج.
إيزابيل التي رُشحت لجائزة نوبل العالمية وذاع صيتها من خلال عدة أعمال روائية، منها: «بيت الأرواح»، تُعدّ صوتاً أنثوياً صارخاً في الأدب اللاتيني، بالأخص فيما تميزت به كتاباتها بميلها إلى ثيمات أقرب للواقعية السحرية، وقد وصفت مراراً تأثرها بأعمال الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، والشاعر التشيلي بابلو نيرودا، إلا أن هذا التأثر ظهر مؤخراً في عملها الروائي الأخير، بدءاً من عنوانه: «بتلة البحر الطويلة»، الذي تم اقتباسه من إحدى قصائد الشاعر نيرودا، كتوصيف لتشيلي، ومن ثم تتوغل إيزابيل في وصف دور الشاعر والدبلوماسي التشيلي بابلو نيرودا الفعلي في تهريب ألفي لاجئ إسباني عبر متن سفينة «ويني بيج»، ويظهر هنا كإحدى الشخصيات المحتبسة في متن روايتها تارة ويظهر الاستشهاد بعدد من أبيات شعره في بداية كل فصل من العمل الروائي تارة أخرى، وتتطرق أبيات شعره إلى الدموية التي جرت أثناء الحروب، وألم المنفى والانتماء للوطن والتطلع إلى مستقبل أفضل، مثل اشتراطه حين يجري مقابلة لاختيار الطبيب دالماو وجود حس فني أو ما يمكن الاستفادة منه في تشيلي، فيختار زوجته روزر لمهاراتها كعازفة بيانو، ولتقدير نيرودا للفن، ورغبته في انتشاره في تشيلي.
ورغم أن الرواية تحمل بين طياتها أحداثاً تاريخية مكثفة، وتتطرق لشخصيات عاصرت قارتين تجلى فيهما صراع وحرب أهلية من جهة وانقلاب من جهة أخرى في دولتين، في ملحمة تتجاوز ستين عاماً. فإن القارئ ينشغل في الغوص في ثنايا الشخصيات وصراعها الداخلي والمقاومة في ظل المتغيرات واللااستقرار، ابتداء بإسبانيا وانتهاء بأميركا اللاتينية، حيث ملحمة الحب تطغى على كل شيء، وصراع البقاء يُعدّ الشغل الشاغل للجميع، ومن ثم يصعب الوقوع في ثقل الأحداث السياسية التي تذوب في ثنايا الشخصيات التي تعاني من التهجير والمعاناة، في ظل الحروب الأهلية والصراعات وشظف العيش، وما يظهر أشبه بتكرار المآسي والتشرذم، فما حدث في إسبانيا يتكرر في تشيلي فيما بعد بصورة أخرى من خلال الانقلاب العسكري.
إلا أن ذلك لا يمنع من ظهور حب عقلاني صامت ما بين فيكتور وروزر اللذين يمثلان عائلة مثقفة من الطبقة الوسطى، يتطور ما بينهما ببطء ولا يتوقف عند عمر معين؛ إذ يزهو حين يشعر أحدهما بحاجته للآخر وعدم قدرته على مفارقته، وذلك رغم المغامرات وقصص الحب الوقتية التي عاشها كل واحد منهما دون الآخر حتى انحسرت.
جمال الرواية يتجلى في التعمق في الصراع الوجودي للشخصيات المحورية دون السقوط في هوة السرد التاريخي، حيث يتعلق القارئ بشخصية فيكتور دالماو وما يعانيه في حياته من اضطهاد وتشتت أسري وعدم استقرار عاطفي وعملي ومقاومته المستمرة في معترك الحياة حتى أرذل العمر، حتى يصل مع زوجه إلى قناعة بأن الانتماء إلى الوطن ليس بالضرورة حيث وُلدا وترعرعا، حيث يشعران لاحقاً بالانتماء لتشيلي، وهنا يظهر مجدداً إسقاط الروائية لتجاربها الشخصية، وذلك من خلال ملحمة عائلية تمتد لستين عاماً وعلى مر عدة أجيال.



«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد
TT

«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد

صدرت حديثاً عن «منشورات تكوين» في الكويت متوالية قصصية بعنوان «سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد. وتأتي هذه المتوالية بعد عدد من الروايات والمجموعات القصصية، منها: «نميمة مالحة» (قصص)، و«ليس بالضبط كما أريد» (قصص)، و«الأشياء ليست في أماكنها» (رواية)، و«الإشارة برتقاليّة الآن» (قصص)، «التي تعدّ السلالم» (رواية)، «سندريلات في مسقط» (رواية)، «أسامينا» (رواية)، و«لا يُذكَرون في مَجاز» (رواية).

في أجواء المجموعة نقرأ:

لم يكن ثمّة ما يُبهجُ قلبي أكثر من الذهاب إلى المصنع المهجور الذي يتوسطُ حلّتنا. هنالك حيث يمكن للخِرق البالية أن تكون حشوة للدُّمى، ولقطع القماش التي خلّفها الخياط «أريان» أن تكون فساتين، وللفتية المُتسخين بالطين أن يكونوا أمراء.

في المصنع المهجور، ينعدمُ إحساسنا بالزمن تماماً، نذوب، إلا أنّ وصول أسرابٍ من عصافير الدوري بشكلٍ متواترٍ لشجر الغاف المحيط بنا، كان علامة جديرة بالانتباه، إذ سرعان ما يعقبُ عودتها صوتُ جدي وهو يرفع آذان المغرب. تلك العصافير الضئيلة، التي يختلطُ لونها بين البني والأبيض والرمادي، تملأ السماء بشقشقاتها الجنائزية، فتعلنُ انتهاء اليوم من دون مفاوضة، أو مساومة، هكذا تتمكن تلك الأجنحة بالغة الرهافة من جلب الظُلمة البائسة دافعة الشمس إلى أفولٍ حزين.

في أيامٍ كثيرة لم أعد أحصيها، تحتدُّ أمّي ويعلو صوتها الغاضب عندما أتأخر: «الغروبُ علامة كافية للعودة إلى البيت»، فأحبسُ نشيجي تحت بطانيتي البنية وأفكر: «ينبغي قتل كلّ عصافير الدوري بدمٍ بارد».

وهدى حمد كاتبة وروائيّة عُمانيّة، وتعمل حالياً رئيسة تحرير مجلة «نزوى» الثقافية.