كتّاب مغاربة: الأدب العظيم لا يُنسى... بَقي وسيبْقى

حين اخترنا عنوان هذا الملف «لماذا ننسى كتابنا الراحلين سريعاً»، كنا نقصد به القطيعة شبه الكاملة تقريباً، خصوصاً بالنسبة للأجيال الجديدة، مع كتابنا، شعراء وروائيين وقاصين ونقاداً، قدامى ومحدثين، بمعنى أنهم لم يعودوا حاضرين بقوة في المشهد الثقافي بأعمالهم ونتاجاتهم، التي شكلت أساس ثقافتنا المعاصرة. قد نذكرهم، ونستشهد بهم في هذه المناسبة أو تلك، وفي هذا المقال أو ذلك، ولكن لا تزال معظم أعمالهم ساكنة فوق الرفوف، وقلما نعود إليها درساً وبحثاً وقراءة، على المستوى النقدي والأكاديمي والتربوي، مما خلق فجوة كبيرة بين ماضينا الثقافي وحاضرنا، وقطع الوصل بينهم وبين الأجيال اللاحقة إلى حد كبير.
هنا مداخلات حول الموضوع من كتاب ونقاد عرب، يطرحون فيها تصوراتهم وأفكارهم حول أسباب هذا الخلل في ذاكرتنا الثقافية، وما يمكن عمله لتجاوزه.
يموت الكاتب وتعيش كتاباته. هناك كُتاب ومبدعون ظلّ يَذكرهم التاريخ بنص نقدي أو سردي، بملحمة، حتى ببيت شعر. يقال إن الكاتب إما أن يذهب إلى قبره، وإما إلى التاريخ. لا شك أنه تبقى للحكم التاريخي على الأعمال الفنية والأدبية أهمية كبرى، من منطلق أن «هناك نجاحات عابرة مثل الفقاعات، لا ينبغي التوقف عندها. وهناك نجاحات تقاوم الزمن، وهذا هو المطلوب»، فيما يبقى «على النص الجيد أن يمتلك ما يتعذر سبره، حيزاً من السحر والغموض يتحدى الزمن»، على رأي الكاتب المغربي عبد الكريم جويطي.
هنا مساهمات ثلاثة من الكتاب المغاربة حول الكاتب والنسيان، وهم الروائي عبد الكريم جويطي، ومراد القادري الشاعر ورئيس «بيت الشعر في المغرب»، والشاعر أحمد لمسَيّح، والشاعر والباحث محمد الصالحي.

عبد الكريم جويطي: نكتب ضد النسيان
إننا حين نكتب، فإننا نكتب بالأساس ضد النسيان. فالأدب هو أعظم ما ابتكرته البشرية لمقاومة المحو، هذا الشيء الذي إذا ذهب لا يعود أبداً. إن كل هذه الحضارة التي نعيش في كنفها، بدينها وشعائرها وتحفها الفنية ونصبها المعمارية، ولدت كجواب عن سؤال ورعب الموت، كغياب مطلق لا أوبة ترجى معه، ولا عزاء يخفف حقيقته العارية. إننا سنموت، ولأننا سنتبدد فإننا لا نملك إلا ترك أثر وراءنا يقول إننا كنا هنا. لا يموت من يموت إلا حين لا يترك أثراً خلفه. من هنا بدأ الشعر؛ مجابهة الموت وقراءة الأثر؛ ملحمة جلجامش، قفا نبك من ذكرى، لخولة أطلال. لنا أن نتساءل؛ هل يطال النسيان مَن مهنتُه هي مقاومتُه والتصدي له؟ للوهلة الأولى يكاد يكون الجواب جاهزاً؛ الأدب العظيم لا يُنسى، فهو بقي وسيبقى، لأن هناك حاجة قائمة له، لفهم أسرار الحياة وتعقيداتها. لا يُنسى الأدب الكبير، لأنه لا يقيم في الأوراق، وإنما في وجدان الشعوب التي شكّل رؤيتَها للعالم، ومنحها مفاتيح التعاطي مع ما يقلق ويحزن ويثير. الأدب الذي يحتاج لمؤسسات وسدنة وخدمة معبدٍ ليبقى، ليس أدباً. وحين نتأمل تاريخ الأدب العالمي، نجد أن النصوص الجديرة بالبقاء هي التي تبقى. قد يحوز كاتب ما شهرة زائفة، وقد تباع ملايين النسخ من رواية ما، لكن محكمة التاريخ الأدبي لا تغتر بذلك، وسرعان ما تلقي بذلك إلى مستودع قمامة النسيان.

مراد القادري: استدامة الحضور باستعادة المنجز
إن مسؤولية الحِفاظ على اسْتِـدامة حُضُور كتّابنا في الحياة اليومية لا تقع على جِهةٍ دون أخرى، بل هي مسؤوليةٌ جماعية، تقتضِي من القِطاع الرّسمي، كما القِطاع المدني والإعلامي، الانْـتظام في التـذكير بأثرهم واسْتعادة مُنجزهم الكتابي والأدبي، وذلك حتى لا يطالهم النّسيان.
يمكن لوزارات التعليم والتربية الوطنية إدراج مُؤلفاتهم الأدبية ضمن المُقررات الدّراسية، وذلك حتى تتسنّى للناشئة قراءة أعمالهم، فيما يُمكنُ للبلديات والمُحافظات إطلاقُ أسمائهم على المرافق الثقافية والبنايات المدرسية والجامعية، وكذا على الشوارع والجادات الكبرى في المدن. أما بالنسبة للهيئات الثقافية والأدبية المدنية، فيُمكنُها أنْ تستدعيَ تراث هؤلاء الكتاب من خِلال المداومة على قراءة أعماهم والاحتفاءِ بها من خلال إقامة الندوات والدورات الأكاديمية، كما فعل ويفعلُ بانتظام «بيت الشعر في المغرب».
وللتّمثيل على ما يقوم به «بيت الشعر في المغرب»، تكفي الإشارة إلى ما قام به، هذه السنة، بمناسبة الذكرى العاشرة لرحيل الشاعر والكاتب المغربي عبد الكبير الخطيبي، إحدى العلامات المتميزة والبارزة في المشهد الثقافي المغربي والعربي والإنساني؛ حيث تم الحرص على أن تحمِل مجموعُ منشورات «بيت الشعر» صورة للخطيبي، وذلك على شكل طابع بريدي، وضع على الغلاف الأخير لهذه المنشورات، تحيـة لهذا الكاتب الكبير، الذي إنْ توزّعت كتاباتُه بين الفلسفة والنقد والسوسيولوجيا، فإنه يظلّ واحداً من العلامات الشعرية البارزة، إبداعاً وتنظيراً، ممّن كان لهم دورٌ بارز في تأسيس وإنتاج رؤية حديثة لشعرنا المغربي، ذلك أن بدايات الخطيبي الإبداعية كانت عبر بوابة الشعر، وكان أول ديوان شعري صدر له هو «المناضل الطبقي على الطريقة الطاوية»، الذي ترجمه الشّاعر والمترجم العراقي كاظم جهاد. حتى وهو ينأى بنفسه عن كتابة الشعر، فقد ظل الخطيبي، وهو يُنتج في القارات المعرفية الأخرى، مرتبطاً بأسئلة الشعر ورهاناته الوجودية والفنيّة، ساعياً إلى القبض على أسراره وما يكشفُ كيمياءه السّحرية والمدهشة، وهو ما كان يتجسّد في رعايته لسؤال الكتابة وتعدّد المواقع اللغوية والثقافية التي تفـدُ منها.

أحمد لمسَيّح: «شكري» و«المجذوب»
لست من الذين يعتقدون بخلود المبدعين بصفة عامة، من منطلق أن الكتاب والفنانين، هذا «البلسم السيكولوجي»، قد خلقوا «لتحمل الإحساس بالخسارة والعزلة ولمقاومة الإحباط»، فيما لا تخلد ويخلد أصحابها إلا الأعمال الجذرية والتأسيسية التي تحدث انقلاباً وتغييراً في حقلها وفي مسار الإبداع، خاصة على المستوى الإنساني.
إن النسيان يطال شخصيات عمومية (رياضية وسياسية وفنية)، وبالأحرى الكتاب، خاصة أن الذاكرة الجمعية في بلادنا يشتغل فيها المحو أكثر من التكنيز. يُستحضرون في الأحاديث عرضاً، أو من له من يفكر الناس به، أو في الأطاريح. لكن هناك من يفرضون استحضارهم بقوة، لكنهم قلة. وفي هذا السياق، ممكن أن نستحضر محمد شكري وعبد الرحمن المجذوب. الأول خلده كتاب «الخبز الحافي» كما أنه كان ظاهرة غير مسبوقة في كتابة السير الذاتية، بل أصبح أيقونة، والثاني خلدته رباعياته وصارت تتناقلها الأجيال.

محمد الصالحي: أن نقرأهم ونعيد قراءتهم
النسيان كلمة «ملتبسة» و«مصطلح فلسفي ضارب بعمق في علم النفس، وله تواشجات مع علم الاجتماع والأنثروبولوجيا». ومن هنا، فـكل حديث عن نسيان سريع لكتابنا الراحلين، ولكل أعلامنا في المجالات الفنية والإبداعية؛ حيث التميز والابتكار، حديث محفوف بالمخاطر. فليس الصمت نسياناً، فقد يكون، في أغلب الأحايين، حدثياً ضاجاً وتذكراً موجعاً. كما أن السهو قد يكون انتباهاً، وقد يكون إغماض العين إمعاناً في النظر.
القول بنسيان كتابنا الراحلين ينطوي على إجحاف شديد الوقع في حق الكتاب أولئك، كما في حق أنفسنا؛ حيث لا يشترط حضور كتابنا الراحلين في الأبد الأبيد، بثقلهم الرمزي العظيم، الحديث عنهم في وسائل الإعلام، أو إقامة مآتم لهم تتلى فيها ورقات عن مناقبهم وأفضالهم، وتستحضر فيها الذكريات. كما أن إطلاق أسمائهم على مؤسسات ومبانٍ عملٌ خالٍ من المعنى. أن نقرأهم، ونعيد قراءتهم أجدى وأفيد.
الكاتب الكبير يحيا في وجدان محبيه، وتكبر صورته وتضيء وتزداد إشراقاً يوماً بعد يوم. ويأتي الكاتب الكبير الحق من جهات شتى، ومن أزمنة شتى، فيربك الجغرافيا ويمسح، برفق، على وجه التاريخ، فيزداد التاريخ نصوعاً، وترقص الجغرافيا. ثم إن القارئ الحق لا يأبه بالانتماء الضيق. نوغل في الجنون، جنون القراءة، فنكتشف انتماءنا الحق. إننا ننتمي إلى عالم آخر؛ حيث سلالتنا الحق. هناك نلاقي أجدادنا الأصلاء الحقيقيين.