تغييرات ثقافية واجتماعية... ما الذي سيفعله «كورونا» بالعالم؟

أشخاص يرتدون كمامات للوقاية من فيروس كورونا (رويترز)
أشخاص يرتدون كمامات للوقاية من فيروس كورونا (رويترز)
TT

تغييرات ثقافية واجتماعية... ما الذي سيفعله «كورونا» بالعالم؟

أشخاص يرتدون كمامات للوقاية من فيروس كورونا (رويترز)
أشخاص يرتدون كمامات للوقاية من فيروس كورونا (رويترز)

في أعقاب تفشي فيروس كورونا المستجد والذي يجتاح العالم حالياً، ظهرت مجموعة من المقالات التي تنعي العولمة، مثل «تفشٍ عالمي يغذي رد الفعل العكسي ضد العولمة»، و«انتشار الفيروس قد يعجل بالانهيار الكبير للعولمة»، و«هل ينهي فيروس كورونا العولمة كما نعرفها؟».
وذكرت وكالة أنباء «بلومبرغ» الأميركية في تحليل، أن الإجابة باختصار هي: لا... لن يقضي فيروس كورونا على العولمة - على الأقل لن يحدث ذلك إذا ما تحدثنا عن العولمة على أنها أمر أكبر من مجرد سلاسل التوريد عبر القارات وسفن الحاويات الضخمة. وعلاوة على ذلك، تقوض إشعارات الوفاة المبكرة، الناجمة عن الفيروس، التحدي الذي تشكله إدارة العولمة في ظل تحول موازين القوى العالمية، وفقاً لما نقلته وكالة الأنباء الألمانية.
ويركز العديد من هذه التحليلات المحمومة على بُعد واحد من العولمة في إطار زمني ضيق: وهو النمو الهائل، وتكامل الأسواق العالمية على مدار العقود القليلة الماضية. وهذه التحليلات لا تتجاهل فحسب المكونات السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية للعولمة، ولكن أيضاً ما شهدته العولمة من مد وجزر خلال قرن ونصف قرن.
ويرى المحلل جيمس جيبني أنه على المرء أن يسترجع الأحداث التي وقعت خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عندما فتحت الإمبريالية العالمية مسارات جديدة للتجارة والاستثمار. وجرى عقد مؤتمرات جديدة شملت مجالات مثل الرياضيات والإحصاء والكيمياء والفلسفة. كما تعاونت السلطات الوطنية المعنية بالصحة العامة من أجل مواجهة أمراض مثل الحمى الصفراء التي انتشرت في رقعة كبيرة وسببت خسائر فادحة من مدريد، إلى هافانا وممفيس، خلال سبعينيات القرن التاسع عشر، وقد ساعد في ذلك الزيادة الكبيرة في التجارة. كما تعاونت أيضاً في مواجهة «الطاعون العقدي» أو «الطاعون النزفي»، الذي أصاب المدن الساحلية على نحو دوري خلال العقدين اللذين سبقا اندلاع الحرب العالمية الأولى.
ويقول إنه صحيح أن اندلاع الحرب العالمية الأولى قد حطم السوق العالمية الناشئة وحالة التراخي، أو الرضا عن النفس، التي اتسم بها دعاة الأممية السياسية.
وفي المقابل، أدت التداعيات السياسية والاقتصادية للسلام لاحقاً إلى «الكساد العظيم». ولكن حتى خلال هذه الحقبة، بحسب ما ذكرته المؤرخة إيميلي روزنبرج، «تسارعت وتيرة تمدد الشبكات العابرة للحدود الوطنية في مجالات العلوم والصحة والترفيه، وغيرها من فروع محددة».
ورغم تنامي النزعة الأهلانية (نهج سياسي يقوم على حماية مصالح أهل البلاد الأصليين وتقديمها على مصالح المهاجرين) وكراهية الأجانب، والتي أغلقت تقريباً الباب الذهبي للولايات المتحدة خلال عشرينيات القرن الماضي، شهدت سنوات ما بين الحربين العالميتين، ظهور منظمات غير حكومية ثرية مثل «مؤسسة كارنيجي» (1922)، و«مؤسسة فورد» (1936)، وقد ساهمت المنظمتان في إحداث العديد من التغيرات الاجتماعية والثقافية العالمية.
وعلاوة على ذلك، ورغم أن منظمة «عصبة الأمم» التي أُنشِئـت في فترة ما بين الحربين لم تفلح في الحيلولة دون اندلاع الحرب العالمية الثانية، شكلت العصبة مظلة حكومية عالمية لجميع الأمور، بداية من عقد مؤتمرات لنزع السلاح ومكافحة الاتجار الجنسي وتهريب المخدرات، إلى منظمة العمل الدولية. وقد جرى إحياء هذين العنصرين ضمن منظومة الأمم المتحدة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.
واستمر هذا النموذج حتى وقوع هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) في عام 2001. والركود الاقتصادي، المرحلة الأخيرة من الأزمة المالية العالمية.2007 - 2008 وفي الحقيقة، وصلت السياحة العالمية إلى معدلات قياسية بحلول عام 2004. واستمر الربط الإلكتروني عبر شبكة الإنترنت في الازدياد، كما توسع حلف شمال الأطلسي (ناتو) والاتحاد الأوروبي، وحدثت ارتفاعات كبيرة في معدلات التجارة العالمية والاستثمار.
وعلى النقيض من «الكساد العظيم» في ثلاثينيات القرن الماضي، لم تسفر الأزمة المالية في 2007 - 2008 عن تراجع في معدلات التجارة العالمية أو الاستثمار. وإذا كان هناك تأثير قد وقع بالفعل، فهو أن الأزمة أجبرت صناع السياسات في العالم على أن يدركوا أن الاعتماد المتبادل يتطلب المزيد من التنسيق على المستوى العالمي.
وليس هناك سبيل لإنكار مظاهر الخلل الضخمة التي تسبب فيها فيروس كورونا فيما يتعلق بسلاسل التوريد والتجارة العالمية، وجميع أشكال السفر، ناهيك عن الحياة اليومية (العمل من المنزل). ولكن سلاسل التوريد كانت تمر بتغيرات بالفعل، وقد صارت أقصر وأكثر إقليمية حتى قبل ظهور «كوفيد - 19».
وبالإضافة إلى ذلك، جعل تطور الاقتصاد العالمي الخدمات أكثر أهمية، على نحو نسبي، من السلع. كما صارت الشركات أكثر فيما يتعلق بكونها متعددة الجنسيات، وصار الابتكار أكثر عالمية. والأمر الأكثر جوهرية، هو أن التواصل واسع النطاق والطفرات المتعاقبة في المعلومات الرقمية قد أديا إلى مزيد من تدفق الأفكار والروابط الافتراضية، سواء كان ذلك بين الأفراد أو المؤسسات أو الدول. وهذا أمر لا يمكن عزله.
ورغم ذلك، فإن العولمة في حاجة لإدارتها. ولسوء الحظ، كما أظهر رد فعل أميركا الذي اتسم مرة أخرى بالفشل في مواجهة تفشي «كورونا»، لم يكن ذلك رغبة من الرئيس الأميركي دونالد ترمب، أو نقطة قوة لديه.
ورفض ترمب وصف وباء «كورونا» الذي كان في طور الاندلاع على أنه كذبة حزبية، كما كان نفى تماماً في وقت سابق الأهمية الملحة لقضية التغير المناخي. ويرى الرئيس الأميركي خبرة التكنوقراط على أنها مجرد شكل من أشكال «الدولة العميقة» التي تقاوم جدول أعماله. وفي هذا الإطار، تعد المنظمات متعددة الأطراف التي جرى تأسيسها من أجل التأقلم مع العولمة، سواء كانت الأمم المتحدة أو منظمة التجارة العالمية، انتهاكات لسيادة أميركا، وليست سبيلاً لتعزيز النفوذ الأميركي، وزيادة تقاسم الأعباء. إن «الأهلانية» ورهاب الأجانب ومهاجمة البيروقراطية الحكومية والمؤسسات العالمية بنود ثابتة في السياسات الأميركية. ولكن في عصر تعاظم المنافسة بين القوى العظمى، وتراجع نفوذ الولايات المتحدة، غير العسكري، فإن هذه البنود لها نتائج عكسية على نحو متزايد. وتعمل الصين التي تتسم بالسلطوية بقوة من أجل إعادة تشكيل النظام العالمي، بهدف تعزيز مصالحها واتباع نهج حاسم، عبر قبضة حديدية، من أجل احتواء تفشي فيروس كورونا، وهو ما جذب لها مزيداً من المؤيدين.
ولكن لا يجب على المعجبين بالنموذج الصيني أن يخدعوا أنفسهم: فسوف تقوم قيادة الحزب الشيوعي الصيني في سعادة بـ«شرذمة الإنترنت»، وخفض الشفافية، ونزع الأولوية عن حقوق الإنسان، وترتيب النظام العالمي الليبرالي لصالح بكين.
ويتعين على الولايات المتحدة من أجل التعامل مع هذه الحقيقة تعزيز تحالفاتها، وتقوية المؤسسات متعددة الأطراف التي أسستها من أجل دفع القيم المشتركة، وتبوأ موقع القيادة في مواجهة التحديات العالمية.
نعم، كانت الجهود التي استمرت على مدار عقود لتعظيم الاستفادة من العولمة وتقليل تكلفة ذلك إلى أدنى حد ممكن، مبالغاً فيها، إن لم تكن مضللة. ولكن جهود «المملكة الوسطى» (الصين) من أجل ملء الفراغ لن يجدي نفعاً يرضي الولايات المتحدة. ولكنه، في الحقيقة، سيكون نهاية العولمة كما نعرفها.
ويؤكد المحلل جيبني في نهاية تحليله أنه ليس واحداً من المبشرِين بالعولمة، والتي هي في جوهرها محايدة فيما يتعلق بالقيم. ويراها سبيلاً يقدم فرصاً متساوية، سواء لتحقيق البؤس أو السعادة: الأوبئة، واللقاحات، والأنشطة الإجرامية، والأعمال المشروعة، والجهادية، والفاشية، والشيوعية، وأيضاً حقوق الإنسان والديمقراطية. ولكن إقامة علاقات ترابط أوثق، سواء من أجل الخير أو الشر، ليست فحسب ضرورية على كوكب صغير في ظل نظام بيئي متهاو، بل هي أمر حتمي.


مقالات ذات صلة

مصر: تطمينات رسمية بشأن انتشار متحور جديد لـ«كورونا»

شمال افريقيا الزحام من أسباب انتشار العدوى (تصوير: عبد الفتاح فرج)

مصر: تطمينات رسمية بشأن انتشار متحور جديد لـ«كورونا»

نفى الدكتور محمد عوض تاج الدين مستشار الرئيس المصري لشؤون الصحة والوقاية وجود أي دليل على انتشار متحور جديد من فيروس «كورونا» في مصر الآن.

أحمد حسن بلح (القاهرة)
العالم رجلان إندونيسيان كانا في السابق ضحايا لعصابات الاتجار بالبشر وأُجبرا على العمل محتالين في كمبوديا (أ.ف.ب)

الاتجار بالبشر يرتفع بشكل حاد عالمياً...وأكثر من ثُلث الضحايا أطفال

ذكر تقرير للأمم المتحدة -نُشر اليوم (الأربعاء)- أن الاتجار بالبشر ارتفع بشكل حاد، بسبب الصراعات والكوارث الناجمة عن المناخ والأزمات العالمية.

«الشرق الأوسط» (فيينا)
صحتك امرأة تعاني من «كورونا طويل الأمد» في فلوريدا (رويترز)

دراسة: العلاج النفسي هو الوسيلة الوحيدة للتصدي لـ«كورونا طويل الأمد»

أكدت دراسة كندية أن «كورونا طويل الأمد» لا يمكن علاجه بنجاح إلا بتلقي علاج نفسي.

«الشرق الأوسط» (أوتاوا)
صحتك «كوفيد طويل الأمد»: حوار طبي حول أحدث التطورات

«كوفيد طويل الأمد»: حوار طبي حول أحدث التطورات

يؤثر على 6 : 11 % من المرضى

ماثيو سولان (كمبردج (ولاية ماساشوستس الأميركية))

إردوغان يتحدث عن «اتفاق تاريخي» بين إثيوبيا والصومال لإنهاء التوترات

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان متوسطا الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود ورئيس الوزراء الإثيوبي أبيي أحمد في أنقرة بعيد انتهاء المحادثات (رويترز)
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان متوسطا الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود ورئيس الوزراء الإثيوبي أبيي أحمد في أنقرة بعيد انتهاء المحادثات (رويترز)
TT

إردوغان يتحدث عن «اتفاق تاريخي» بين إثيوبيا والصومال لإنهاء التوترات

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان متوسطا الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود ورئيس الوزراء الإثيوبي أبيي أحمد في أنقرة بعيد انتهاء المحادثات (رويترز)
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان متوسطا الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود ورئيس الوزراء الإثيوبي أبيي أحمد في أنقرة بعيد انتهاء المحادثات (رويترز)

أعلن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أنّ الصومال وإثيوبيا توصلتا، أمس الأربعاء، في ختام مفاوضات جرت بوساطته في أنقرة إلى اتفاق "تاريخي" ينهي التوترات بين البلدين الجارين في القرن الأفريقي.

وخلال مؤتمر صحافي مشترك مع الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود ورئيس الوزراء الإثيوبي أبيي أحمد في أنقرة، قال إردوغان إنّه يأمل أن يكون هذا "الاتفاق التاريخي الخطوة الأولى نحو بداية جديدة مبنية على السلام والتعاون" بين مقديشو وأديس أبابا.

وبحسب نص الاتفاق الذي نشرته تركيا، فقد اتّفق الطرفان على "التخلّي عن الخلافات في الرأي والقضايا الخلافية، والتقدّم بحزم في التعاون نحو رخاء مشترك". واتّفق البلدان أيضا، وفقا للنص، على العمل باتجاه إقرار ابرام اتفاقيات تجارية وثنائية من شأنها أن تضمن لإثيوبيا وصولا إلى البحر "موثوقا به وآمنا ومستداما (...) تحت السلطة السيادية لجمهورية الصومال الفدرالية". وتحقيقا لهذه الغاية، سيبدأ البلدان قبل نهاية فبراير (شباط) محادثات فنية تستغرق على الأكثر أربعة أشهر، بهدف حلّ الخلافات بينهما "من خلال الحوار، وإذا لزم الأمر بدعم من تركيا".

وتوجّه الرئيس الصومالي ورئيس الوزراء الإثيوبي إلى أنقرة الأربعاء لعقد جولة جديدة من المفاوضات نظمتها تركيا، بعد محاولتين أوليين لم تسفرا عن تقدم ملحوظ. وخلال المناقشات السابقة التي جرت في يونيو (حزيران) وأغسطس (آب) في أنقرة، أجرى وزير الخارجية التركي هاكان فيدان زيارات مكوكية بين نظيريه، من دون أن يتحدثا بشكل مباشر. وتوسّطت تركيا في هذه القضية بهدف حل الخلاف القائم بين إثيوبيا والصومال بطريقة تضمن لأديس أبابا وصولا إلى المياه الدولية عبر الصومال، لكن من دون المساس بسيادة مقديشو.

وأعرب إردوغان عن قناعته بأنّ الاتفاق الذي تم التوصل إليه الأربعاء، بعد ثماني ساعات من المفاوضات، سيضمن وصول إثيوبيا إلى البحر. وقال "أعتقد أنّه من خلال الاجتماع الذي عقدناه اليوم (...) سيقدّم أخي شيخ محمود الدعم اللازم للوصول إلى البحر" لإثيوبيا.

من جهته، قال رئيس الوزراء الإثيوبي أبيي أحمد، وفقا لترجمة فورية إلى اللغة التركية لكلامه "لقد قمنا بتسوية سوء التفاهم الذي حدث في العام الماضي... إثيوبيا تريد وصولا آمنا وموثوقا به إلى البحر. هذا الأمر سيفيد جيراننا بنفس القدر". وأضاف أنّ المفاوضات التي أجراها مع الرئيس الصومالي يمكن أن تسمح للبلدين "بأن يدخلا العام الجديد بروح من التعاون والصداقة والرغبة في العمل معا".

بدوره، قال الرئيس الصومالي، وفقا لترجمة فورية إلى اللغة التركية لكلامه إنّ اتفاق أنقرة "وضع حدا للخلاف" بين مقديشو وأديس أبابا، مشدّدا على أنّ بلاده "مستعدّة للعمل مع السلطات الإثيوبية والشعب الإثيوبي". وإثيوبيا هي أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان لا منفذ بحريا له وذلك منذ انفصلت عنها إريتريا في 1991.