فيروس «كورونا» يوزّع شظاياه على ضفّتي الأطلسي ويُزلزل الاقتصاد الغربي

مقر البنك المركزي الأوروبي في فرانكفورت (رويترز)
مقر البنك المركزي الأوروبي في فرانكفورت (رويترز)
TT

فيروس «كورونا» يوزّع شظاياه على ضفّتي الأطلسي ويُزلزل الاقتصاد الغربي

مقر البنك المركزي الأوروبي في فرانكفورت (رويترز)
مقر البنك المركزي الأوروبي في فرانكفورت (رويترز)

تنبئ كل المؤشرات المتوافرة حتى الآن بأن الأزمة التي سببها فيروس كورونا أو «كوفيد - 19»، ستستمر طويلاً، ليس من الناحية الصحية فحسب بل من الناحية الاقتصادية، وربما السياسية والاجتماعية أيضاً. ولعل الأسهل قياساً واحتساباً بين هذا كله هو الأثر الاقتصادي للكارثة الذي بدأت ملامحه القاسية تطل على العالم أجمع، خصوصاً في الغرب الذي يعتمد نظاماً ليبرالياً بمقدار ما يقدم فرصاً يحمل أخطاراً ويتعرّض لسقطات موجعة. والمشكلة أنه حتى لو تم احتواء التأثير الاقتصادي للوباء، فإن مشكلة ديون هائلة ستقع حتماً، بدءاً من العديد من الاقتصادات الآسيوية الناشئة والنامية التي تلقّت الضربات الأولى لـ «تسونامي» كورونا.
لنعد إلى الغرب المتمثل في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بوجه خاص، لأنه من المنطقي القول إن اقتصاد الصين التي احتوت الوباء بعد جهد، سيتحسّن، فيما استفادت روسيا من العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها منذ سنوات لتحصّن نفسها إلى حد كبير من المؤثّرات الخارجية. أما الغرب الذي اعتاد الرفاهية إلى حدّ الكسل، وفتح حدوده للعولمة الاقتصادية وغير الاقتصادية إلى حدّ إصابة الهويّات القومية بالضبابية، فسيتلقّى الجزء الأكبر من التداعيات الزلزالية للأزمة.

أوروبا «العاجزة»؟
في هذا السياق، يقول الخبير الاقتصادي والسياسي ووزير المال اليوناني سابقاً يانيس فاروفاكيس، إن أوروبا غير مؤهّلة للتعامل مع الركود الذي سيؤدي إليه وباء كورونا. ويرى أن من أقل مؤسسات الاتحاد الأوروبي قدرة على التعامل مع الأزمات الاقتصادية هي مجموعة وزراء المال لدول منطقة اليورو التي تضم 19 دولة من أصل 27 في الاتحاد. وتوقّع أن تعمد هذه المجموعة، كعادتها، إلى «إطلاق تصريحات بطولية تبشّر بأرقام مذهلة لكنها تخفي عدم جدوى السياسات المتفق عليها وقصورها».
ويكشف فاروفاكيس أن الوزراء أنفسهم «يجدون صعوبة في الاتفاق على استجابة شمولية منسقة لجبه الآثار الهائلة التي سيخلّفها وباء كورونا». ويلفت في هذا الإطار إلى عدم جدوى حزمة المساعدات المالية التي أعلنت الحكومة الألمانية أخيراً تقديمها للقطاع الخاص. ففي حين يبلغ رقمها 550 مليار يورو (600 مليار دولار)، يبيّن التدقيق فيها أنها ليست أكثر من خطوة خجولة. ويوضح أن الرقم المعلَن عنه في الخطة يتضمن تأجيلات ضريبية وفتح خطوط ائتمان كبيرة، وهو ما ليس كافياً ويعبّر عن سوء فهم خطير لطبيعة الأزمة، تماماً كا حصل قبل عشر سنوات في خضم العاصفة المالية والاقتصادية التي ضربت العالم.
ويخلص الخبير اليوناني إلى القول إن التصدّي للأزمة الآتية، لا محالة، يتطلب تدخّلاً كبيراً وجريئاً من الحكومات عبر الإنفاق السخيّ لتوسيع الاقتصاد وتحريك عجلتَي الإنتاج والاستهلاك. غير أنه يتوقع أن تتصدى ألمانيا، ممثلة بوزير المال أولاف شولتس، لأي محاولة من هذا النوع، تماماً كما فعلت في الأزمة السابقة وفي أكثر من مناسبة، انطلاقاً من الخوف من تصاعد العجز في الموازنات كما حصل لليونان قبل سنوات، حين اضطرت ألمانيا لتحمل العبء الأكبر لانتشال شقيقتها الأصغر من الهاوية الاقتصادية.
والغريب أن الموقف الألماني المتحفّظ يناقض اعتراف البنك المركزي بأن الركود حاصل لا محالة، بل إن وزير الاقتصاد بيتر ألتماير قال إن الانكماش الذي سيسجله الناتج المحلي الإجمالي لن يقل عن معدل الانكماش الذي سجله إبّان أزمة 2008 – 2009 حين تراجع 5.7 في المائة.
وإذا خرجنا قليلاً من رحم البيت الأوروبي إلى مواقف المشككين في جدوى الاتحاد، سواء من خارج القارة مثل الرئيسين الأميركي دونالد ترمب والروسي فلاديمير بوتين، أو من داخلها مثل رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان والسياسيين الإيطالي ماتيو سالفيني والفرنسية مارين لوبن، من دون أن ننسى بريطانيا التي أكملت معاملات «الطلاق» مع التكتل، فإن الدعوات إلى استعادة القرار الاقتصادي السيادي ووضعه في «بيت الطاعة» القومي ستتزايد.
بالتالي، ستؤدي الأزمة الاقتصادية التي ستتكشّف أبعادها الحقيقية بعد انقشاع الغمامة الصحية السوداء، إلى ضغوط ضخمة على مؤسسات الاتحاد الأوروبي تصل إلى حدّ تعريضها للانحلال وتغيير الخريطة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للقارة العجوز، بحيث تعود الحدود الصلبة بين الدول. ونتيجة هذا الأمر لن تكون تحصيناً لأوروبا، بل تشريعاً لأبوابها أمام أي صراع دولي قد تهبّ رياحه على العالم باعتبار أن موقعها الجغرافي وسجّلها التاريخي يجعلانها المرشّح الأول لأن تكون مسرح المواجهة.

على الضفة الأميركية
في الولايات المتحدة، قائدة الاقتصاد الرأسمالي ورافعة رايته، لا يحتاج إثبات وجود اعتلال الاقتصاد إلى تحليل عميق. فمن الواضح أن أزمة الفيروس رمت الاقتصاد في حالة من الفوضى التي أصابت كل القطاعات. كما سجلت سوق الأوراق المالية خسائر فادحة وتقلبات يومية حادة، لدرجة أن التداول في البورصات عُلّق أكثر من مرة.
وفي اقتصاد يُنتج أقل، وينفق الناس ويستهلكون فيه أقل، من المحتّم أن تزول وظائف وتختفي أعمال وتتراكم ديون. وهكذا حلّ «موسم» الركود في الولايات المتحدة بعد أكثر من عقد من النموّ.
تقول الخبيرة الاقتصادية والأكاديمية في جامعة ميتشيغن بتسي ستيفنسون التي شغلت أكثر من منصب رسمي في عهد الرئيس السابق باراك أوباما: «الحقيقة هي أنه حتى من دون بيانات ومعطيات، هذه المرة الوحيدة التي يمكننا فيها أن ننظر حولنا ونقول: أولاً وقبل أي شيء آخر على كل شخص أن يلازم المنزل... وثانياً لن نعرف قبل وقت طويل الحجم الكامل للتدهور» الاقتصادي.
والواقع أن ثمة إجماعاً في أوساط خبراء الاقتصاد الأميركيين على أن الركود حلَ، وأنه سيتعمّق ويتفاقم بسرعة. ويقول بيل دوبور، نائب رئيس الاحتياط الفدرالي في مدينة سانت لويس بولاية ميزوري، إن الاقتصاد الأميركي كان قوياً قبل الأزمة، «لكن لم يكن بدّ من إقفال قطاعات واسعة من أجل مصلحة عامة هي صحة الناس». ويجدر التفسير هنا أن البنك المركزي المذكور يشكّل مع 11 بنكاً آخر ومجلس الإدارة في واشنطن، البنك المركزي الأميركي المعروف باسم الاحتياط الفدرالي.
لا شك في أن هذه الأزمة الاقتصادية مختلفة عن سواها لأنها مرتبطة بوباء لا يستطيع أهل القرار الاقتصادي والمالي وقفه، لذا فإن أي خطط تجترحها إدارة الرئيس دونالد ترمب أو الكونغرس أو الاحتياط الفدرالي لن تكفي لوقف التدهور، قبل إيجاد الحلّ الطبي لوقف التفشّي، وهو أمر ليس سهلاً على الإطلاق.
في علم الاقتصاد الكلّي، يُعتبر الركود واقعاً عند حصول انكماش في الناتج المحلي الإجمالي لفصلين متتالين، أي ستة أشهر. غير أن هذا الركود بالذات يخالف كل القواعد والمعايير العلمية. ويكفي هنا القول إن جيمس بولارد، رئيس الاحتياط الفدرالي في سانت لويس، توقّع أن تصل نسبة البطالة في الولايات المتحدة إلى 30 % من القوة العاملة مع نهاية الفصل الثاني من السنة، أي أن حوالى 48 مليون شخص سيكونون بلا عمل!
وقدّر المصرف الاستثماري جيه بي مورغان أن ينكمش الاقتصاد الأميركي بنسبة 14 % في الربع الثاني. فيما تحدّث غولدمان ساكس عن تراجع بنسبة 24%. وتوقع كلاهما انتعاشاً كبيراً في الربعين الثالث والرابع، على افتراض أن فيروس كورونا سيكون تحت السيطرة بحلول ذلك الوقت، وهو أمر لا يبدو أن أحداً يستطيع أن يضمنه حتى الآن.
بالتالي، يبدو الوضع الاقتصادي في الولايات المتحدة قاتماً، وكل ما تستطيع سلطات الولايات والإدارة الفدرالية القيام به هو ضخ الأموال اللازمة لإبقاء رأس الاقتصاد فوق سطح الماء بدلَ أن يغرق بكليّته.
وإذا عطفنا ما يحصل في أوروبا على ما يحصل في الولايات المتحدة من تدهور، نستنتج من دون كبير عناء أن هذه الجائحة تُظهر افتقار الغرب إلى المرونة والتعاون في الوقت الذي تشتد فيه الحاجة إلى كليهما. كما تُبيّن غياب الاستعداد على جانبي المحيط الأطلسي للتعامل مع حالة طارئة بهذه الخطورة.
ختاماً ليس أبلغ من كلمات مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجييفا: «الآثار الاقتصادية كبيرة وستكون كذلك مستقبلاً، لكن كلما أوقفنا إنتشار الفيروس بسرعة كان النهوض أسرع وأقوى».
أي إن الكارثة الاقتصادية هي في الواقع بين أيدي الأطباء والباحثين العلميين...


مقالات ذات صلة

انخفاض العقود الآجلة للأسهم الأميركية قبيل بيانات التضخم الرئيسة

الاقتصاد متداولون في قاعة بورصة نيويورك (رويترز)

انخفاض العقود الآجلة للأسهم الأميركية قبيل بيانات التضخم الرئيسة

انخفضت العقود الآجلة للأسهم الأميركية، يوم الأربعاء، مع انتظار المستثمرين بيانات اقتصادية رئيسة، خصوصاً تقرير التضخم الشهري الرئيس.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
جيمسون غرير يحضر منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ في تشيلي 17 مايو 2019 (رويترز)

ترمب يختار جيمسون غرير لمنصب ممثل التجارة للولايات المتحدة

اختار الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، الثلاثاء، جيمسون غرير، المحامي والمسؤول السابق في ولايته الأولى، ليشغل منصب كبير مفاوضي التجارة في إدارته المقبلة.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
الاقتصاد مبنى «الاحتياطي الفيدرالي» في واشنطن (رويترز)

محضر «الفيدرالي»: المسؤولون أيَّدوا وتيرة تدريجية لخفض أسعار الفائدة

أيَّد مسؤولو بنك الاحتياطي الفيدرالي التحرك «تدريجياً» نحو خفض أسعار الفائدة، في ظل النمو الاقتصادي الأميركي الأقوى من المتوقع.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الاقتصاد الرئيس الأميركي جو بايدن يوقع على قانون الاستثمار في البنية التحتية بالبيت الأبيض 15 نوفمبر 2021 (رويترز)

البيت الأبيض: سياسات بايدن تجذب استثمارات اقتصادية أميركية بقيمة تريليون دولار

أعلنت الإدارة الأميركية يوم الاثنين أن الشركات تعهدت باستثمار أكثر من تريليون دولار في قطاعات صناعية أميركية، مثل أشباه الموصلات والطاقة النظيفة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الاقتصاد متداولون يعملون في بورصة نيويورك (رويترز)

ترشيح بيسنت يدفع عقود «داو جونز» الآجلة لأعلى مستوياتها على الإطلاق

سجلت عقود «داو جونز» الآجلة أعلى مستوى لها على الإطلاق يوم الاثنين، محققة مكاسب ملحوظة بين عقود مؤشرات الأسهم الأميركية.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

«المركزي» التركي: سنواصل سياسة التشديد النقدي للسيطرة على التضخم

البنك المركزي التركي (رويترز)
البنك المركزي التركي (رويترز)
TT

«المركزي» التركي: سنواصل سياسة التشديد النقدي للسيطرة على التضخم

البنك المركزي التركي (رويترز)
البنك المركزي التركي (رويترز)

قال رئيس البنك المركزي التركي فاتح قره خان، اليوم الأربعاء، إن البنك سيبقي على سياسة التشديد النقدي لدعم جهود خفض التضخم.

وتوقع أن يبلغ التضخم السنوي 44 في المائة بنهاية العام الحالي و21 في المائة بنهاية 2025.

وفي كلمة ألقاها في إسطنبول، قال قره خان إن طبيعة الطلب في النمو أصبحت أكثر توازناً، وإن البنك يتوقع أن يستمر هذا في بيانات النمو للربع الثالث التي ستصدر يوم الجمعة.

كان البنك المركزي قد كشف الثلاثاء، عن «توقعات التضخم القطاعي» لشهر نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي. وجاءت التوقعات نتيجة لتحليل بيانات توقعات التضخم الاستهلاكي السنوي للأسرة وشركات الصناعات التحويلية وخبراء القطاع الحقيقي والمالي، واستطلاع الاتجاه الاستهلاكي الذي يتم إعداده بالتعاون مع هيئة الإحصاء التركية واستطلاع الاتجاه الاقتصادي واستطلاع المشاركين بالسوق.

وعكست النتائج تراجع توقعات التضخم السنوي بعد 12 شهراً بنحو 0.2 نقطة ليسجل 27.2 في المائة على صعيد المشاركين بالسوق وبنحو 1.7 في المائة ليسجل 47.8 في المائة على صعيد القطاع الحقيقي وبنحو 3.1 نقطة ليسجل 64.1 في المائة على صعيد الأسرة.

هذا وتراجعت أيضاً نسبة الأسر التي تترقب انخفاض التضخم خلال الاثني عشر شهراً المقبلة بنحو 2 في المائة لتسجل 26.3 في المائة.