عنصر المفاجأة والتكثيف.. واللمسة الأنثوية

القاصة السورية روعة يونس في مجموعتها «أعلى من السماء»

غلاف المجموعة
غلاف المجموعة
TT

عنصر المفاجأة والتكثيف.. واللمسة الأنثوية

غلاف المجموعة
غلاف المجموعة

تتطرق روعة يونس القاصة السورية في مجموعتها القصصية «أعلى من السماء» إلى مواضيع شتى، منها: النخوة وعذاب المواطن الفلسطيني والوجع والفقدان والحب. ويمكننا تقسيم مجموعتها إلى قسمين: القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا.
أما بالنسبة للقصص القصيرة فقد نجحت بشكل ملحوظ في القسم الأول والثاني من قصة «تمثال حلب» في عرضها لمعظم الأحداث والتصاعد الدرامي، ومن حيث خصوبة خيالها والإيحاءات التي تعكسها الشخصيات الأساسية في القصة. فالمشهد الأول كان لفتاة تجلس داخل الباص وتتأمل يوميا تمثالا كبيرا «يرمز للحب والحرية والسعادة يفتح ساعديه لكل القادمين إلى حلب».
ويتصاعد الخط الدرامي فيما بعد لندرك أن هذا التمثال الصامت الذي يعيش حالة انتظار دائمة هو البطلة العاشقة. تقول: «تصرّ أن هذا الحجر الفارغ والطالع في السماء، لا يمكن أن يكون إلا امرأة! لأن المرأة أكثر ثباتا على العشق، وصبرا على الانتظار». فبطلتنا هي تلك العاشقة الصامتة التي تنتظر طيلة سنوات «احتضان رجل تحبه».
لكن الكاتبة، في المقطعين الأخيرين، هبطت بالقيمة الرمزية للتمثال، وأسقطت الخط الدرامي حين تحدثت عن مجرد حادث سير قد يتعرض له آلاف البشر ولا يحمل أي دلالات فكرية أو إنسانية عميقة يمكن أن ترفع بخط القصة التي أوحى بها الجزء الأول والثاني.
أما بالنسبة للقصة القصيرة جدا، فأبدعت روعة يونس في قصة «الدرب»؛ فقد جمعت فيها أهم مميزات وخصائص القصة القصيرة التي يمكن تلخيصها، كما يقول الناقد نبيل المجلي بحق، في «الحكائية، والتكثيف، والوحدة، والمفارقة، وفعلية الجملة».
تبدأ هذه القصة بالعبارة التالية: «تمسك يد صغيرها بيمينها، وإكليل الزهور إلى يسارها، تودع الشمس قبر والده الشهيد..».
وهنا نرى فعليّة الجملة، حيث اختارت كلمة اليد الصغيرة لتحرك مشاعر القارئ وتشده لمتابعة القراءة والتعلق فيما بعد بالومضة الحكائية حين تحمل الأم إكليل الزهور في يسارها وهي اليد الأقرب إلى القلب.
وتأتي الجملة الأخيرة في القصة الضربة القوية التي تحمل في طياتها عنصر المفاجأة والتكثيف، فترفع القيمة الفنية والأدبية بشكل استثنائي حين تقول: «اليوم، ذهبت وحيدة في يدها إكليلان من الزهور».
وهنا يمكننا الإشارة إلى حسن اختيار روعة يونس للعنوان الذي «حفظ للخاتمة صدمتها» وكان قد تطرق إلى أهمية هذه النقطة الناقد سليم عباسي حين عرض ملامح القصة القصيرة جدا. وحافظت الكاتبة على تماسك الوحدة القصصية، فبدأت القصة وفي يد البطلة باقة من الزهور وانتهت ليصبح في يديها إكليلان من الزهور..
وهنا تعيدنا الكاتبة لأحداث المشهد الأول، ولكن مع تصاعد درامي حاد، وهو خسارة الأم لطفلها.
وتحمّل روعة يونس الأشياء المحسوسة دلالات ومعاني إنسانية كبيرة، كالفقدان والموت والانكسار والوجع والحسرة. فالأم لم تشهق في القصة ولم تبك ولم تخبرنا بغياب ابنها، فقد تولى عنها هذه المهمة إكليل الزهر الجديد! نشعر وكأننا نقرأ هذا النص من خلال عدسة مكبرة؛ فالنص بسيط التركيب، ولكن حين نسلط عدستنا المكبّرة عليه نرى عمق الكلمات والصور الدرامية الكبيرة المختبئة خلفها!
أما أسلوب روعة يونس فجاء بسيطا خاليا من التعقيدات اللغوية المفتعلة ليخدم سرد الأحداث من دون أن يخل بالمعنى، وكذلك تخلصت الكاتبة من الحشو الوصفي الذي لا يتناسب مع طبيعة هذا الأدب المقتضب.



رحيل خالد القشطيني «برنارد شو العرب»

خالد القشطيني
خالد القشطيني
TT

رحيل خالد القشطيني «برنارد شو العرب»

خالد القشطيني
خالد القشطيني

نعت الأوساط الثقافية والصحافية العربية، الكاتب والصحافي العراقي خالد القشطيني، الذي رحل السبت في العاصمة البريطانية، عن عمر يناهز الـ94 عاماً. والقشطيني، كما هو معروف، أحد أعمدة صحيفة «الشرق الأوسط»، فقد واكب الصحيفة منذ الثمانينات، عبر عموده اليومي الساخر، الذي كان بعنوان «صباح الخير»، ولاحقاً باسم «أبيض وأسود»، والذي كان يتناول فيه مواضيع اجتماعية وسياسية وشؤوناً يومية تهم المواطن العربي عموماً بأسلوب مبسط، وحكائي غالباً، بعيداً عن التنظير والتعقيد والتقعر والإنشاء أيضاً، بل مادة صحفية مركزة وغنيّة بالمعلومات، وتتضمن حدثاً وتاريخاً وعبراً غير مباشرة.

وبذلك اشتهر هذا العمود في كل أرجاء الوطن العربي، حتى أن الناقد المصري محمد مندور، الملقب بـ«شيخ النقاد العرب»، كتب مراجعة نقدية لأحد أعداد المجلة التي تضمنت مقالاً للقشطيني قال عنها: «إن مقالة القشطيني يجب أن تكون مثالاً يحتذي به الكتاب والنقاد العرب الآخرون». يذكر القشطيني في إحدى المحاضرات التي ألقاها في «المنتدى الثقافي العراقي»، أن برنارد شو هو معلِّمه الأول ومرجعيته الأساسية في الكتابة الساخرة، وإنه، مثله، «ولد متعلماً لأنني لم أتذكّر أي شخص علّمني كيف أقرأ أو أكتب. وُلدتُ وأنا أمتلك قابلية القراءة والكتابة».

ويضيف ساخراً كعادته: «أعتقد أن أمي حينما أنجبتني كنت أحمل جريدة تحت إبطي! كما أن الفكاهة والسخرية تسريان في دمي منذ الطفولة». وهو يبرر لجوءه للسخرية بقوله: «العراقيون تنقصهم روح النكتة، ولا يضحكون كثيراً، ربما لأنهم يأخذون كل شيء مأخذ الجد». وظل القشطيني يفتخر دائماً بـلقب «برنارد شو العرب» الذي أطلقه عليه هشام الحافظ، أحد مؤسس جريدة «الشرق الأوسط».

وكتب القشطيني كذلك في عدة صحف ومجلات عربية كمجلة «المجلة» اللندنية، ومجلة «الآداب» اللبنانية، ومجلة «آفاق عربية» العراقية، ومجلة «العربي» الكويتية، ومجلة «القاهرة» المصرية، ومجلة «الناقد» اللبنانية. وبالإضافة إلى الصحافة، عُرف الفقيد أيضاً بمسرحياته ورواياته وقصصه القصيرة، التي أصدر بعضها باللغة الإنجليزية، منها «حكايات من بغداد القديمة - أنا وجدتي»، و«من شارع الرشيد إلى أكسفورد ستريت - حكايات للضحك والبكاء».

وأصدر القشطيني أيضاً عدة كتب سياسية وفكرية ومنها: «الحكم غياباً» و«فلسطين عبر العصور» و«نحو اللاعنف»، بل إنه عد نفسه «كاتباً وليس صحافياً»، كما ذكر مرة.

ولد خالد القشطيني في منطقة الكرخ، بغداد، عام 1929. وتخرج في كلية الحقوق في عام 1953، وفي معهد الفنون الجميلة قسم الرسم عام 1952، ثم حاز على بعثة حكومية لدراسة الرسم والتصميم المسرحي في بريطانيا، ودرس هاتين المادتين حتى عام 1957. عاد بعدها إلى العراق للتدريس في معهد الفنون الجميلة، ثم غادر العراق عام 1959، والتحق بالإذاعة البريطانية وبقي بها حتى 1964، ليتفرغ بعدها للصحافة، التي فاز بجائزتها في الإمارات عام 2015، عن عموده الصحافي.

ونشر خالد القشطيني في السنوات الأخيرة كتاباً عن سيرته بعنوان «زمن في العراق وإنجلترا»، تحدث فيه عن شخصيته منذ ولادته ونشأته في بغداد. وهو يقول فيه إن زوجته الإنجليزية قد شاركت الكثيرين في التساؤل عن هذا الرجل الذي جاءها من بلاد ألف ليلة وليلة وتزوجها وأنجب منها ولدين، دون أن تلم بكل جوانب حياته وحياة أسرته في العراق. ولذلك دعته لكتابة بضع صفحات للأولاد يشرح فيها خلفيته وهويته ومنشأه. فعل ذلك، ولكنه لاحظ أن ما كتبه لم يكن مجرد عرض لحياته، وإنما عرض لحياة المجتمع العراقي والعراق ككل. يقول: «إذن، لم لا أتوسع في الموضوع ليكون كتاباً للجميع»، وهذا ما فعله. السيرة مكتوبة باللغة الإنجليزية، وتضمنت الكثير من الطرائف والمفاجآت. وكان فيها خالد القشطيني جريئاً، كما في عموده الصحافي وكتاباته الأخرى، فهو لم يتردد في ذكر «الحقائق الصعبة والمرة» حتى عن حياته الشخصية.

حقائق

أبرز أعمال خالد القشطيني

  • «فكاهات الجوع والجوعيات» دار الحكمة، لندن، 2011.
  • «على ضفاف بابل» دار الكوكب، 2008.
  • «من شارع الرشيد إلى أكسفورد ستريت، قصص للضحك والبكاء» دار الحكمة، لندن، 1999.
  • «أيام عراقية» الدار العربية للعلوم - ناشرون، المجلس العراقي للثقافة، الجزائر، 2011.
  • «السخرية السياسية العربية» دار الساقي، لبنان، 1992.
  • «حكايات من بغداد القديمة» دار الحكمة، لندن، 2006.
  • «الظُرف في بلد عَبوس» دار المدى، العراق، 2012.
  • «ما قيل وما يقال» دار الحكمة، لندن، 2001.
  • «من جد لم يجد» دار الحكمة، لندن، 2003.
  • «من أجل السلام والإسلام» الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2017.
  • «عالم ضاحك... فكاهات الشعوب ونكاتها» دار الحمراء، 1991.
  • «الساقطة المتمردة: شخصية البغي في الأدب التقدمي» دار الحمراء، 1991.
  • «تكوين الصهيونية» المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1996.
  • «أيام فاتت» دار الحكمة، لندن، 2004،.
  • «التجربة الديمقراطية في عمان» دار الحكمة، لندن، 2006.
  • «الجذور التاريخية للعنصرية الصهيونية» المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1981.
  • «نحو اللاعنف» دار الحكمة، لندن، 2018.


رحيل خالد القشطيني «برنارد شو العرب»

خالد القشطيني
خالد القشطيني
TT

رحيل خالد القشطيني «برنارد شو العرب»

خالد القشطيني
خالد القشطيني

نعت الأوساط الثقافية والصحافية العربية، الكاتب والصحافي العراقي خالد القشطيني، الذي رحل (السبت) في العاصمة البريطانية، عن 94 عاماً. والقشطيني، كما هو معروف، أحد أعمدة صحيفة «الشرق الأوسط»؛ إذ واكب الصحيفة منذ ثمانينات القرن الماضي، عبر عموده اليومي الساخر، الذي كان بعنوان: «صباح الخير»، ولاحقاً باسم «أبيض وأسود».

ويذكر القشطيني دائماً أن برنارد شو هو معلِّمه الأول ومرجعيته الأساسية في الكتابة الساخرة، وكان يفتخر دائماً بـلقب «برنارد شو العرب» الذي أطلقه عليه هشام الحافظ، أحد مؤسسي جريدة «الشرق الأوسط».

وبالإضافة إلى الصحافة، عُرف الفقيد بمسرحياته ورواياته وقصصه القصيرة، التي أصدر بعضها باللغة الإنجليزية، كما أصدر كتباً سياسية وفكرية عدة، منها: «الحكم غياباً» و«فلسطين عبر العصور» و«نحو اللاعنف».

وُلد خالد القشطيني في منطقة الكرخ ببغداد عام 1929، وتخرج في كلية الحقوق في عام 1953، وفي معهد الفنون الجميلة قسم الرسم عام 1952، ثم حاز بعثة حكومية لدراسة الرسم والتصميم المسرحي في بريطانيا. عاد بعدها إلى العراق للتدريس في معهد الفنون الجميلة، ثم غادر العراق عام 1959، والتحق بالإذاعة البريطانية التي بقي فيها حتى 1964، ليتفرغ بعدها للصحافة، التي فاز بجائزتها عام 2015، عن عموده الصحافي.

اقرأ أيضاً


198 مجموعة قصصية في مسابقة «الملتقى» للقصة العربية

الكاتب طالب الرفاعي رئيس مجلس أمناء الجائزة
الكاتب طالب الرفاعي رئيس مجلس أمناء الجائزة
TT

198 مجموعة قصصية في مسابقة «الملتقى» للقصة العربية

الكاتب طالب الرفاعي رئيس مجلس أمناء الجائزة
الكاتب طالب الرفاعي رئيس مجلس أمناء الجائزة

أعلنت «جائزة الملتقى للقصة القصيرة العربية»، عن تلقّيها 198 مجموعة قصصية تمثل 23 بلداً عربياً وأجنبياً للترشيح لدورتها السادسة 2023/2022، التي ترعاها جامعة الشرق الأوسط الأميركية في الكويت (AUM).

واحتلت مصر المركز الأول في عدد المشاركات بـ80 مجموعة قصصية تقدمت لهذه الدورة، تلتها سوريا بـ17 مجموعة، فالعراق بـ15 مجموعة، والمغرب بـ12 مجموعة، وتونس والأردن بـ10 مجموعات قصصية لكل منهما، فالجزائر والكويت والسعودية بـ7 مجموعات لكل منها، والبحرين وفلسطين وسلطنة عمان بـ5 مجموعات لكل منها، وجاءت لبنان والسودان واليمن بـ3 مجموعات لكل منها. ومجموعة واحدة لكل من موريتانيا وإريتريا.

ومن الدول غير العربية، شاركت السويد بمجموعتين، والولايات المتحدة وتركيا وبريطانيا وهولندا وجمهورية الدومينيكان بمجموعة واحدة لكل منها.

ولقد بلغ عدد الكتّاب 143 كاتباً، بينما بلغ عدد الكاتبات 55، وبنسبة مشاركة نسائية 28 بالمئة. وبلغ عدد ترشيحات المؤلف 176 كاتباً، بينما بلغ عدد ترشيحات الناشر 22. وتظهر هذه الدورة مشاركة كتّاب خليجيين واضحة بلغت 27 كاتباً.

واختارت إدارة الجائزة لجنة تحكيم الدورة السادسة مكونة من: الدكتورة شهلا العجيلي (الأردن) رئيساً، والدكتور شعيب حليفي (المغرب) عضواً، والدكتورة سعداء الدعاس (الكويت) عضواً، والدكتور فهد حسين (البحرين) عضواً، والدكتورة ميشيل هارتمان (كندا) عضواً.

وسيتم الإعلان عن القائمة الطويلة في الأول من شهر ديسمبر (كانون الأول) المقبل. والقائمة القصيرة في الأول من شهر يناير (كانون الثاني) 2024، بينما تُقام احتفالية الجائزة السنوية في الحرم الجامعي لجامعة الشرق الأوسط بالكويت.

وبدوره قال الكاتب طالب الرفاعي، رئيس مجلس أمناء الجائزة، إن «جائزة الملتقى للقصة القصيرة العربية» باتت تمثل باقتدار مشاركة دولة الكويت الأهم في مشهد الجوائز العربية، وفي «منتدى الجوائز العربية».

وأضاف: «إن المسابقة أصبحت حلم كل كاتب قصة عربي، خصوصاً والترجمات الأجنبية التي شملت جميع نصوص الفائزين بالجائزة».

وتمنح الجائزة الفائز مبلغ 20 ألف دولار ودرع وشهادة الجائزة، إضافة إلى منح الكتّاب الأربعة المتأهلين للقائمة القصيرة مبلغ 5 آلاف دولار مع درع وشهادة الجائزة.

هذا وتقيم الجائزة احتفاليتها في حرم جامعة الـ«AUM»، إضافةً إلى برنامج ثقافي يشارك فيه مجموعة كبيرة من كتّاب القصة العرب والنقّاد والمترجمين.


خالد الفرج... هوية المثقف الخليجي ودوره

خالد الفرج
خالد الفرج
TT

خالد الفرج... هوية المثقف الخليجي ودوره

خالد الفرج
خالد الفرج

ترافق مع التكوين السياسي لدول منطقة الخليج العربي في العقود الأولى من القرن العشرين تبلور تدريجي لدور فاعل اضطلع به أبناء المنطقة وغيرهم من أبناء الدول العربية في تحقيق ذلك التكوين ودعمه بصور مختلفة، كان منها الدور الاستشاري والمؤازرة المعنوية وشغل الوظائف المختلفة التي احتاجتها الحكومات الناشئة، وهي تكافح من أجل نهوضها ورسم معالم هويتها على الصعيد السياسي وغيره، والتخلص كذلك من الهيمنة الأجنبية بكل صورها.

أحد الذين قاموا بدور لافت، بل استثنائي، في تلك المرحلة وأثناء تلك العملية، هو خالد الفرج، الكويتي ولادةً ونشأة، والخليجي عملاً ونشاطاً وتطلعات. ومع أن الفرج لم يعِشْ أكثر من ستة وخمسين عاماً ما بين 1898 و1954، فإن منجزه الثقافي والإداري وعدد المهام التي اضطلع بها تتجاوز تلك العقود القليلة إلى أثر أعمق وأوسع. استطاع ذلك الرجل أن يؤسس المطابع ويؤلف الكتب ويتولى مهام الإدارة التنموية، ويسهم في نشر الوعي الوطني والقومي بوصفه مناضلاً ضد الهيمنة الأجنبية، البريطانية في حالة الخليج، دون هوادة وبإيمان واضح بما يتعين عليه القيام به.

«المطبعة العمومية»

كان الفرج من أوائل أبناء المنطقة الذين تعلموا تعليماً حديثاً نسبياً، حين دخل المدرسة المباركية في الكويت عند إنشائها عام 1911، وهي المدرسة الحديثة الأولى في الكويت، وربما في الجزيرة العربية والخليج، ثم جاءت رحلاته المبكرة للهند على عادة أهل الخليج آنذاك في التواصل التجاري مع الهند لتفتح له أفقاً أوسع على المستوى الثقافي؛ فتعلم الإنجليزية وقيل الأوردية أيضاً، واكتشف إلى جانب ذلك أهمية المطبعة في بعث الحياة الثقافية، فأسس هناك مطبعة سماها «المطبعة العمومية» نشر من خلالها كتباً تُنشر لأول مرة، وحين عاد أسس مطبعة بالاسم نفسه في مدينة الدمام السعودية أسهمت في نهضة الصحافة الأهلية هناك؛ وهي الصحافة التي قامت بمهمة ضخمة في التوعية والتنمية.

هذه المعلومات وغيرها متاحة لمن يريد معرفتها في بعض ما أُلّف حول الفرج، كما في مواقع كثيرة على الإنترنت، ولا أريد هنا أن أعيد نشرها. ما أود التوقف عنده هو طبيعة الدور الذي قام به، وكيف أدى ذلك الدور إلى صياغة مفهوم مبكر للمثقف في منطقة الخليج العربي، بل في الجزيرة العربية كلها، لكن قبل الدخول في صلب تلك الملاحظات، أشير إلى أن استيعاب ما قام به خالد الفرج في مناطق الخليج المختلفة التي عاش وعمل فيها (البحرين والسعودية بصفة خاصة) وقع ضمن سياق نهضوي عام، عاصر فيه الفرج رصفاء عرباً في مصر والشام والعراق وغيرها. فما كان مثقفو الخليج آنذاك يفعلونه إلى جانب الفرج (مثل إبراهيم العريض في البحرين، ومحمد حسن عواد في الحجاز، وغيرهما في الجهات المختلفة من الجزيرة العربية)، كان يفعل ما يشبهه مثقفو مصر والشام وغيرهما من أجزاء الوطن العربي؛ فسعيه لتسهيل تعلم اللغة العربية ومحو الأمية، مثلاً، يذكّر بجهود طه حسين في جعل التعليم مجانياً في مصر في الفترة نفسها تقريباً، لكن من المهم تذكر التفاوت الكبير بين مناطق عربية سبقت في التأسيس الحضاري مثل مصر والشام لقربهما من أوروبا، ومنطقة الخليج التي لم يأتها التفاعل الحضاري مع مراكز العلوم والمعارف المعاصرة إلا في مرحلة تالية نسبياً.

سياق تاريخي

البعد التاريخي مهم لمعرفة طبيعة المهام التي اضطلع بها مثقفو المنطقة، ومنهم الفرج؛ ذلك أننا إزاء كيانات سياسية واجتماعية واقتصادية كانت لا تزال في طور التشكل، وطاقات بشرية توازيها في ذلك الطور. الكيانات تتأسس، والمثقفون يتأسسون أو يتنامون في عملية متوازية إلى حد بعيد. فالمثقف في ضوء ذلك التزامن يرى نفسه مسؤولاً عن أشياء كثيرة تحتاجها عملية التأسيس والنمو تلك: إنشاء المجلات والصحف، وتأسيس المطابع، ونشر المقالات التوعوية، والمطالبة بنشر التعليم وتحديثه وتسهيل الوصول إليه، كل ذلك وغيره مما رأت النخب المثقفة آنذاك أن عليها الاضطلاع به.

إن طبيعة المهام التي كانت توكل إلى مثقفي المرحلة مؤشر بحد ذاته إلى طبيعة المرحلة نفسها؛ فالمتوقع من المتعلم أو المثقف أن يكون قادراً على إدارة ما يوكل إليه، وإن كان بعيداً عما اشتهر به من نشاط يعد تخصصاً أو قريباً من التخصص. ومما يدل على ذلك، أن الفرج الذي عُرف بالشعر والتأليف في المقام الأول كلفه الملك عبد العزيز حين جاء؛ أي الفرج، من البحرين إلى السعودية، بتأسيس وإدارة بلدية القطيف؛ فنشط في ذلك، فشق الطرق واستحدث التنظيمات، ليُكلف بعد ذلك بإدارة بلدية الدمام، ثم كلفه الملك بالإشراف على الإذاعة السعودية عند تأسيسها.

هذه المهام وغيرها لم تُعِق الفرج عن تأسيس المطبعة في الدمام، ولا عن تأليف المطولات أو الملاحم الشعرية التي كان موضوعها تاريخ الدولة السعودية ومنجزات العهد السعودي. وإذا كان العمل البلدي مما يُحمد عليه أبناء المنطقة، فإن التقرب من الملوك مما يثير عادة شبهة التملق والسعي للمصلحة الشخصية؛ لذلك حرص الفرج على الإعلان أنه لم ينظم قصائده للمديح، وإنما للتأريخ وإحقاق الحق؛ أي إنه كان قلقاً من سوء فهم الناس وتأثر سمعته بوصفه مثقفاً نزيهاً؛ لذا كتب يدافع عن نفسه:

«والذي يقرأ هذه القصيدة يضعها - دون شك - في أبواب المديح، ولا يلام على ذلك؛ لأن الناس اعتادوا أن يقرأوا آيات الثناء البراق في من يستحق ومن لا يستحق، ولا يهتمون بعد ذلك بحقيقة ما قيل إن صدقاً وإن كذباً... وليس في هذه القصيدة من المديح - المصطلح عليه - إلا مطلعها، وإلا فكل ما فيها حقائق لا غبار عليها يعرفها كل من درس تاريخ نجد وكان من المنصفين».

هذا الوعي يستدعي التساؤل عن هوية المثقف وطبيعة دوره في تلك المرحلة من تاريخ المنطقة ودولها الناشئة. نحتاج إلى التساؤل، بتعبير آخر، عن هوية المثقف: مَن هو وبأي دور اضطلع. وفي ظني أن من القراء من ستقفز إلى ذهنه أسماء مفكرين تناولوا هذه المسألة واشتهروا بتعريفاتهم أو تحديداتهم للمثقف وطبيعة دوره. ولعل أشهر تلك الأسماء المفكر الإيطالي غرامتشي الذي عرف بمفهوم المثقف العضوي، لكن ذلك المفهوم الذي تأسس على الظروف التاريخية والرؤية الماركسية وعلاقات المثقف الطبقية والحزبية، لا يعيننا كثيراً على فهم ما قام به مثقف مثل الفرج لم تحكمه علاقات طبقية ولا حزبية بالصورة التي استنبط منها غرامتشي تصوره وتحليله.

جانب نضالي

تصور آخر نجده لدى المؤرخ المغربي عبد الله العروي في تحليله لشخصية المثقف بمصر في النصف الأول من القرن العشرين، حين تحدث عن الداعية الديني ورجل السياسة وداعية التقنية، ووجد أنهم يختصرون هوية المثقف أو أنواع المثقفين في تلك المرحلة من تاريخ مصر والنهضة العربية فيها إبان تلك المرحلة. وهذا التصور وإن كان أقرب من تصور غرامتشي إلى هوية مثقف عربي خليجي، فإنه أيضاً لا ينطبق، في أي نوع من أنواعه، على الفرج ولا على كثير من مثقفي المنطقة آنذاك. لم يكن الفرج داعية دين، مثل محمد عبده، ولا رجل سياسة، مثل محمد حسين هيكل، ولا كان داعية تقنية يرى أن النهضة العربية تكون بتبني الصناعة الغربية، كما فعل سلامة موسى، حسب العروي. كان الفرج مناضلاً ضد الجهل والهيمنة الأجنبية استجابة للظروف التي عاشها وعاشتها البلاد التي عرفها وأسهم في تنميتها وتوعية أهلها. كان متديناً، لكنه لم يكن داعية، وكان قريباً من السلطة، لكنه لم يتحول إلى رجل سياسة.

الجانب النضالي التوعوي من شخصيته، وهو الجانب الواضح، يتكفل به تصور طرحه المفكر والمناضل المارتينيكي فرانتز فانون، الذي حارب مع الجزائريين ضد الاستعمار الفرنسي ووضع نظريات في المقاومة أسست لاحقاً لما يُعرف بنظرية ما بعد الاستعمار، أو ما بعد الكولونيالية. في كتابه «المعذبون في الأرض»، المنشور في ستينات القرن الماضي، يرى فانون أن من مهام المثقف توعية مجتمعه بمساوئ الاستعمار والحاجة إلى الاعتماد على الذات... يقول: «بعد أن يكون [أي المثقف] قد جرب إدماج نفسه في الشعب ومع الشعب، سيقوم على النقيض من ذلك بهز الشعب. بدلاً من أن يبدي إعجابه بحالة السبات التي يعيشها الشعب، يحول نفسه إلى موقظ للشعب... ». هذا التعريف مفيد في تحديد جانب مهم مما قام به الفرج، لكنه لا يستوعب كل المهام التي اضطلع بها.

يعني هذا كله أننا بحاجة إلى قراءة أكثر استيعاباً لهوية المثقف في منطقة الجزيرة العربية والخليج وطبيعة المهام التي تحملها، وهو ما يعني تحليلاً أكثر شمولية لأصناف المثقفين والسياقات الثقافية والسياسية والاجتماعية التي تشكلوا وعملوا ضمنها. القراءة الجاهزة ضمن المفاهيم الشائعة، على أهميتها، تظل إسقاطية، فإما أن تخطئ أو تكون فضفاضة؛ لأنها لا تلم بكثير من التفاصيل والسمات الخاصة بالبيئة الثقافية واشتباكاتها الاجتماعية والسياسية.


لأول مرة منذ 12 عاماً... مؤتمر عن الآثار في سوريا بمشاركة بعثات أجنبية

لأول مرة منذ 12 عاماً... مؤتمر عن الآثار في سوريا بمشاركة بعثات أجنبية
TT

لأول مرة منذ 12 عاماً... مؤتمر عن الآثار في سوريا بمشاركة بعثات أجنبية

لأول مرة منذ 12 عاماً... مؤتمر عن الآثار في سوريا بمشاركة بعثات أجنبية

لأول مرة منذ أحد عشر عاماً تعقد وزارة الثقافة السورية مؤتمراً «دولياً» في دمشق يتعلق بالآثار في سوريا بمشاركة عدد من المختصين والبعثات الأثرية الأجنبية العاملة في سوريا.

وتتناول أعمال المؤتمر الذي انعقد اليوم الأحد بدمشق ويستمر يومين «آخر نتائج الأبحاث الأثرية السورية وتداعيات الزلزال» بمشاركة مجموعة من الباحثين الأجانب من إيطاليا وبولونيا وهنغاريا والتشيك، حيث يعرضون نتائج أبحاثهم الأثرية في المواقع السورية التي يعملون بها، وفق ما جاء في بيان لوزارة الثقافة بدمشق.

وافتتحت وزيرة الثقافة السورية لبانة مشوح المؤتمر بحضور وزير السياحة، والذي تقيمه المديرية العامة للآثار والمتاحف بالتعاون مع وزارة السياحة في القاعة الشامية بالمتحف الوطني،

ولفتت إلى أن بعض البعثات لم «تغادر سوريا في أحلك وأصعب الظروف التي مرت عليها»، كالبعثة الهنغارية التي تابعت أعمالها في قلعتي الحصن والمرقب. وبعض البعثات عادت إلى سوريا عام 2019. وهناك خمس بعثات إيطالية تعمل في عدد من التلال (تل إيبلا وطوقان،

وفرزت ريف دمشق، وعمريت، وتل الكزل كركوس). وعلى هامش المؤتمر افتتح معرض «ترميم» على سور حديقة المتحف الوطني، وتضمن أهم أعمال الترميم التي نفذت من قبل المديرية العامة للآثار والمتاحف في عدد من المباني الأثرية، كما جرى زرع شجرة حمضيات في حديقة المتحف باسم عالم الآثار الإيطالي باولو ماتييه تكريماً لجهوده.

وتعرضت مواقع أثرية كثيرة لأضرار بسبب الزلزال الذي وقع في 6 فبراير (شباط) الماضي، أبرزها قلعة حلب حيث سقطت أجزاء من الطاحونة، وحدث تشقق وتصدع وسقوط أجزاء من الأسوار الدفاعية الشمالية الشرقية. كما سقطت أجزاء كبيرة من قبة منارة الجامع الأيوبي، وتضررت مداخل القلعة وبعض القطع الأثرية المتحفية داخل خزائن العرض، وظهرت تصدعات وتشققات على واجهة المتحف الوطني في حلب.

كما تعرّض حي العقبة التاريخي وحي الجلوم التاريخي لبعض التضرر، وسقط عدد من مآذن الجوامع التاريخية في حلب. وفي مدينة حماة سقطت أجزاء من منازل تاريخية خاصة، وحدثت تشققات وتصدعات في الكثير من المباني الأثرية في المدينة كمصلى خان رستم باشا، ومئذنة جامع الحسنين، وفي طرطوس تضررت بعض المباني داخل قلعة المرقب على مشارف بانياس وسقوط أجزاء من حجارة بعض الجدران وكتلة من برج دائري في الجهة الشمالية، كما سقط الجرف الصخري في محيط قلعة القدموس.


«أصوات عارية»... قصص باكستانية من قاع المجتمع

«أصوات عارية»... قصص باكستانية من قاع المجتمع
TT

«أصوات عارية»... قصص باكستانية من قاع المجتمع

«أصوات عارية»... قصص باكستانية من قاع المجتمع

صدر حديثاً عن دار «منشورات ويلوز هاوس» الجنوب سودانية المجموعة القصصية «أصوات عارية» للكاتب الباكستاني سعادت حسن مَنتو، وتتضمن 18 قصة قصيرة، بترجمة إنجي صالح.

وتتنوع القصص في أجوائها وموضوعاتها، وتأتي نماذج شخصياتها غالباً من قاع المجتمع الباكستاني، راصدة أحوال اللاجئين الهاربين من جحيم الحرب الأهلية، والبائعة الجائلين، وشخصيات من العالم السفلي، كاشفة عما في واقعهم من فقر وبؤس وأمراض وعنف وانحرافات.

تدور قصة «أصوات عارية» حول شقيقين لاجئين يعملان بائعين متجولين، ولأنهما لا يملكان مأوى في البلدة التي اضطراً زمن الحرب الباكستانية الهندية إلى الهروب إليها سكنا مع مجموعة من اللاجئين في منزل مكون من طابقين، وكان الأول وهو جاما متزوجاً فاختار العيش في الطابق الثاني، أما شقيقه بولو الذي لم يكن متزوجاً ولم يكن يسعى لذلك، فكان ينام وحيداً في الدور الأرضي، لكنه حين جاء فصل الصيف وبسبب شدة الحرارة قرر أن يصعد إلى السطوح لينام بجوار أخيه ومجموعة أخرى من المتزوجين، وهناك حدث له تحول أدهش أخاه. فقد أخبره ذات يوم أنه إن لم يزوجه فسوف يصاب بالجنون، وطلب منه أن يساعده في ذلك. كان الأمر سهلاً وتم بسرعة، وأعدّ بولو سريراً مثل باقي المتزوجين، وأحاطه بالخيش مثلهم، وجاء بعروسه، ومرت الأيام من دون أن يستطيع ممارسة واجباته الزوجية، وشاع الخبر، وبدأت ألسنة المحيطين به تسخر منه، وتتابعه بسياطها أينما ذهب، عند ذلك أرسل عروسه إلى أهلها، وهناك أخبرتهم بما كان، وشاع أمر بولو الذي لم يستطع تحمل ما يقال عنه، فصعد إلى السطوح وراح يدمّر سريره وأسرّة الآخرين، فهجم عليه أحدهم وضربه بقطعة من الحديد أفقدته الوعي، والذاكرة، وحين أفاق خلع ملابسه، وراح يجري في الطرقات، وكلما وجد سريراً مزقه؛ ليتعرض بسبب ذلك للضرب والاعتداءات التي تترك أثارها عليه.

وعلى هذا المنوال تدور باقي القصص التي تتعرض لما يلقاه اللاجئون من كوارث وأزمات، وتكشف مدى تدني أحوالهم، والجرائم التي يرتكبونها في حق بعضهم بعضاً، والتي تصل إلى حد الاغتصاب، وهو ما تحكي عنه قصة «العودة»، حيث يفقد رجل ابنته في رحلة هروبه من الحرب، فيوصي مجموعة من الشباب للبحث عنها بعد أن يعطيهم أوصافها، لكنهم بدلاً من إعادتها له بعد العثور عليهم، يغتصبونها، ويتركونها بين الحياة والموت.

في مثل هذه المآسي تتركز قصص «رخصة»، و«يزيد»، و«جبان»، و«خاسر لا محالة»، و«على جانب الطريق» و«ساهاي» وغيرها من إبداعات أخرى تضمنتها المجموعة، وتدور في عوالم لا إنسانية وتغوص في أحوال الفقراء ومن لا سند لهم.

يذكر أن مَنتو (1912- 1955) المولود في قرية بابرودي في سامرالا بالقرب من مدينة لودِيانا في إقليم البنجاب الهندي كتب 22 مجموعة قصصية ورواية واحدة وسيناريوهات عديدة للسينما والإذاعة. وعمل في الأربعينات في صناعة الأفلام الهندية في مدينة مومباي ككاتب سيناريو. كتب كثيراً عن التقسيم الذي تعرّضت له شبه القارة الهندية أثناء التحرر من الحكم البريطاني سنة 1948، وفضح بقصصه نفاق المجتمع أثناء المذابح الطائفية وقت التقسيم. وقد تعرض للمحاكمة مرات عدة قبل وبعد الاستقلال بسبب فحوى قصصه، وكانت التهمة دائماً الإساءة إلى الأخلاق العامة.


هاني النقشبندي: أبطال التاريخ ليسوا قادة فقط بل شعراء ومغنون أيضاً!

هاني النقشبندي
هاني النقشبندي
TT

هاني النقشبندي: أبطال التاريخ ليسوا قادة فقط بل شعراء ومغنون أيضاً!

هاني النقشبندي
هاني النقشبندي

من النادر أن تجد ذلك الالتصاق بين الثقافة والأدب الشعبي في صورة الحكاء والراوي. فما عرفنا من مغنين، أو ملحنين كانوا أبطال ملاحم تُروى للعامة، إذ كانت حكراً على القادة والأمراء والخلفاء أو حتى الشخصيات الفانتازية. وهو ما خالفه الإعلامي هاني النقشبندي في برنامجه لرمضان الماضي الذي حمل اسم «الهنواتي» في موسمه الأول، والذي قدمه على قناة ومنصة «المشهد من دبي»، إذ حفل بشخصيات فكرية وأدبية وثقافية، تناوبت بين شعر ونثر ولحن.

ما حققه من نجاح رمضاني، يدفع النقشبندي (الهنواتي) إلى موسم ثانٍ رديف لموسم الحج القادم. أما موضوعه، فهو الرحلات إلى الحج، في سياق حكايات تمتد على 15 حلقة متتالية، وتحت الاسم نفسه «الهنواتي».

عن البرنامج، وتفاصيل نشأته، وطموحاته، سألْنا الإعلامي هاني النقشبندي.

> أولاً، ماذا تعني بـ«الهنواتي»، ومن أين جاءت التسمية؟

- «الهنواتي» اسم مقتبس من «الحكواتي». وتحاشيا لتكرار أسماء البرامج كما يحدث في الإعلام العربي، فقد قررتْ إدارة القناة وتحديداً مديرها العام السيد طوني خليفة، أن يحمل الاسم طابعاً إنسانياً شخصياً، يرتبط بصاحبه، فكان «الهنواتي».

> وما فكرته؟

- قصص تُروى لشخصيات تاريخية، فنكشف جوانب جديدة عنها لا يعرفها أحد. بمعنى آخر، قصص غير معروفة لشخصيات معروفة. هو معلوم في مجهول أو العكس، إن جازت التسمية. خذْ على سبيل المثال، شخصية مثل نزار قباني. كلنا نعرفه، لكنّ أحداً لا يعرف كيف ولا أين انتهى. هنا يأتي دور الهنواتي في تقديم معلومة تضيف شيئاً للمتلقي. لنقل إنه برنامج ثقافي ترفيهي معرفي.

> من أين تستقى مصادرك؟

- من كتب التاريخ. أنا لا أجتهد في المعلومة، بل أجتهد في التحري عنها. وأوثّق ما أقول وأُعيد المشاهد إلى مصادري لمن شاء الاستزادة. في التاريخ لا مجال للاجتهاد.

> ما دمتم تتحدثون عن شخصيات تركت بصمتها، فلماذا تختزلونها في 10 دقائق فقط لكل حلقة؟

- احتراماً لوقت المشاهد. ما عاد أحد يملك الوقت. أصبح هذا الوقت عملة نادرة لا يمكن هدرها. لذلك أعتقد أن 10 دقائق كافية وإلا أُصيبَ المتلقي بالملل، والناس بطبعها سريعة الملل. أضف إلى هذا أن برنامج «الهنواتي» لا يعتمد على الصور أو الرسومات، بل هي شخصية راوٍ فقط.

> لماذا لا تعتمدون على الصور أو الرسومات في أثناء رواية القصة؟

- لأن ذلك سيُفقد البرنامج هويته. الهوية هنا قائمة حكواتي يروي سيرة شخصية ما. راوٍ يصف لك شكل الشخصية، وصفاتها، فيعطيك الفرصة لتخيُّلها. ليس شكلاً فقط، بل سلوكاً. خذ على سبيل المثال الملحن بليغ حمدي. تعرف شكله، لكن شكل سلوكه أنت لا تعرفه. إنه خيال أدبي يساعدك على بناء الدراما كيفما تراها كمتلقٍّ، دون أن يفرض عليك صورة معينة.

> من يسمع اسم «الهنواتي» أو لِنَقُلْ «الحكواتي»، ستتبادر إلى ذهنه قصص أبطال وروايات أسطورية، لكنك اعتمدت في موسمك الأول على شخصيات ثقافية أدبية وشعرية وحتى غنائية؟

- ومن قال إن المثقف أو الشاعر وحتى الممثل ليسوا أبطالاً؟ كل بطل في مجاله. القائد بطل في موقعه. ومثله الشاعر والأديب. أنا لا أتحدث هنا عن سيرة أبو زيد الهلالي وأعيدها مرة ومرات، ولا أتحدث عن معارك عسكرية. أنا أتحدث عن الجانب الإنساني في شخصيات تركت أثراً. سواء أكان أثراً موسيقياً أو أدبياً -وبالمثل- عسكرياً.

> أشرت إلى علاقة ربطتك ببعض من كانوا ضمن شخصياتك في موسم رمضان الماضي، وأذكر منهم نزار قباني وبليغ حمدي مثلاً. فكيف جعلتهما مادة في برنامجك؟

- لأني عرفتهما شخصياً. فقد ارتأيت أن هناك قصة تُروى عنهما كما عشتها مع كل منهما. نزار عرفته عامين قبل وفاته، وتحديداً في فبراير 1996. وكنت أسير معه صباحاً في حديقة «غرين بارك». وكثيراً ما تحدثنا عن الشعر وقصصه، وحتى القصص التي أوحت له بالشعر. وبالمثل مع بليغ حمدي الذي التقيته في باريس وجلست إليه، وتحدثنا كثيراً عن الموسيقى. ودعْني أقل شيئاً بالمناسبة، روى لي، سواء نزار وبليغ، قصصاً لم أوردها لأني خفت أن يشكك أحد في مصداقيتها، وصاحباها ما عادا على قيد الحياة.

> وماذا عن الموسم الثاني من «الهنواتي»؟

- مشابه للموسم الأول، غير أنه مرتبط بموسم الحج وقصصه. ولم يكن الأمر سهلاً.

> في ماذا؟

- في البحث عن المادة الملائمة. فالبحث في كتب التاريخ عن أحداث أو شخصيات ليس بالعمل الهين. وفوق ما هو مضنٍ، فهو خطير لأنه مليء بالتناقضات.

> حتى في كتب التاريخ؟

- كتب التاريخ هي التناقض ذاته. فقد وجدت في بعضها ما لم أجده في بعضها الآخر. الأسوأ أن بعضها يؤكد قصة بالقطع وغيرها ينفيها بالقطع. وهنا تكمن الصعوبة.

> لماذا لا تثق بالتاريخ حتى في أعمالك الروائية؟ أنت تشكك فيه دائماً، وترفضه في بعض الأحيان؟

- لأني لست أثق في من كتبه. هل تثق أنت؟ لا أعتقد أن على المثقف أن يثق بكتاب وُضع قبل مائة عام، فكيف بما كُتب قبل ألف عام مثلاً. ثم إننا على يقين أن التاريخ يكتبه المنتصر والمنهزم أيضاً. كلٌّ يكتب من وجهة نظره. فكيف تثق بصحّته؟ نعم، لا أشكك في كل شيء، لكني أيضاً لا أصدق كل شيء. ولعل هذا من مهام المثقف؛ ألا يصدق كل شيء، ولا كل ما يقرأ، ولا حتى كل ما يسمع.

> هل سننتظر «الهنواتي» في موسم ثالث؟ ومتى؟

- قد لا يكون هناك موسم ثالث، لأن إدارة التلفزيون ترى، خصوصاً بعد ما حققه البرنامج من نجاح، أن تجعله بمعدل 3 حلقات أسبوعياً. وبنفس الزمن، أي عشر دقائق فقط. لكن لم يتأكد شيء بعد، هي مجرد فكرة حتى الآن.

> صدرت لك بضع روايات آخرها منذ سنوات. فإلى أي مدى ابتعدتَ عن الرواية، ولماذا؟

- إن توقفت عنها فلن تتوقف هي عن المجيء إليّ. وإن ابتعدتُ عنها اقتربتْ هي منّي. أنا لم أتوقف عن الرواية أبداً. وآخر ما صدر لي رواية «قصة حلم» التي تحولت إلى عمل تلفزيوني بعنوان «صانع الأحلام» لصالح قناة «أبوظبي». أنا اليوم أقرب للرواية مما مضى، خصوصاً مع برنامجي الجديد على قناة «المشهد». وأقصد به «الهنواتي»، لأنه يحرك الروائي في داخلي مع كل شخصية أبحث عنها. وقريباً سيكون لي إصدار قريب هو الثامن في سلسلة أعمالي الروائية.


الحلم حين يصبح بطلاً روائياً

الحلم حين يصبح بطلاً روائياً
TT

الحلم حين يصبح بطلاً روائياً

الحلم حين يصبح بطلاً روائياً

في رواية «احتياج خاص» للكاتب الروائي المصري عمار علي حسن تبدو الأحلام بؤرة مركزية للسرد، بمفهومها المباشر كمرادف للمنام وما يراه النائم في منامه، ومفهومها الأبعد والأكثر شِعرية وهو ما يحلم الإنسان بتحقيقه، وغالباً ما يكون صعب المنال.

ويتناول الكاتب في روايته الصادرة حديثاً، عن «الدار المصرية اللبنانية»، ثيمة الأحلام من خلال قصة صداقة ذات ظروف استثنائية تربط بين بطليه (سمير عبيد) مدرس اللغة العربية، و(ممدوح علم الدين) الموظف في إدارة لتوزيع السلع الغذائية، وعلى الرغم من أن عمر تلك الصداقة لا يتجاوز أياماً معدودة، فإنها كانت قادرة على تغيير حياة مدرس اللغة العربية، مع اتساع فضوله للاقتراب من عالم ذلك الموظف البسيط حد الهوس بما يدور فيه، لا سيما تلك الأحلام التي يراها في منامه، التي تنفتح على عالم موازٍ للحياة «تكلم عن أحلامه، ليس على أنها مجرد منامات ليل تغيب أو تغيم أو تتشظى، أو تُلقى في غياهب النسيان فور صحوه، إنما على أنها حياة كاملة، فيها أكثر مما تمناه في طفولته، وفي صباه حين طاله الوعي».

يجتمع البطلان في لقائهما الأول في يوم من أيام ثورة يناير بميدان التحرير وسط العاصمة المصرية، يلتفت مدرس اللغة العربية إلى ممدوح علم الدين، الرجل النحيل الذي يسير بين الناس يحكي عن حُلم يراوده يراه في منامه كل ليلة، مجذوباً بحلمه حد لفت النظر، فيجد سمير عبيد لديه ما يستحق الإصغاء على هامش ما يحيط بهم من صخب وشعارات «كان يحكي حلمه للعابرين. بعضهم كان يهشه كذبابة، وبعضهم كان يستمع إليه قليلاً، ثم يمصمص شفتيه، ويتركه يكمل حكايته للأرصفة، وجدران البنايات. قلة تعجبت مما يقول، وظنت أنه وليّ».

يسعى عبيد لتوطيد علاقته بهذا الرجل الذي يحكي له عن حلمه المتتابع الذي ينتهي كل ليلة مع صحوه، ليتابعه الليلة التالية من حيث انتهى، حيث يعيش فيه حياة بديلة يلتقي، بحبيبة تبادله المحبة، ويعيش معها حياة رغيدة موازية يكون فيها أستاذاً جامعياً مرموقاً يُدرّس علم النفس.

تبدأ محنة هذا البطل مع بدء تلاشي هذا الحلم المتتابع، الذي يكف عن زيارته، فيفشل رغم محاولاته الضنينة القبض على أي بصيص لاستدعائه من جديد، ومع تلاشي هذا الحلم، يتلاشى ممدوح علم الدين من أرض الواقع ويختفي، فلا يجد له أحد أثراً، ويفشل صديقه سمير عبيد معلم اللغة العربية في العثور عليه من جديد.

وفي محض بحثه عن صديقه المختفي، يجد عبيد نفسه وقد استجمع ما لديه من بلاغة وطاقة سردية كامنة وراء وظيفته التقليدية معلماً للغة العربية بمدرسة ثانوية، ويبدأ في كتابة حكاية صاحبه «الغائب» التي صار ممتلئاً بها، وراح يفيض بها على الورق، في تجربة كتابة روائية هي الأولى له، يؤرقه كيفية بناء حكاية متماسكة عن حياة صديقه الغائب المتشظية ما بين كابوس هو حياته اليومية نفسها، ومنامات تُهديه حياةً بديلة، فيضع خطة للكتابة، راعى فيها أن يعرض العالمين المنفصلين تماماً لبطله «أحدهما أبيض في سواد الليل، والثاني أسود في بياض النهار».

وهكذا بدأ في الكتابة نصف للصحو ونصف للمنام، ثم يقرر أن يُطوّر سرده ويُقسمه إلى فصول متتالية على أوقات أو حالات خمس هي (ما قبل النوم ـ غشاوة ـ نوم ـ صحو ـ ما بعد الصحو) وتكون مرحلة الـ«غشاوة» هي تلك الحالة السرمدية ما بين المنام واليقظة، تلك التي يتخيّل فيها بطله وهو يغادر عالماً ليتسلمه عالم آخر بكل تناقضاتهما الجنونية، منذ أن يُخرجه خيط نور الصباح الذي يتفاداه خشية الاستيقاظ على كابوس صراخ ووعيد أهل البيت، وأهل الشارع، والعمل، الذين يتبارون في إشعاره بالدونية، ثم يحمل له الليل والنعاس أمل العودة لحياة تتبدل فيها ملابسه الرثة إلى ملابس نظيفة، وتتسع جدران شقته الصغيرة لتصير بيتاً فسيحاً يطل على أحواض الورود، لا شيء مشتركاً بين العالمين سوى اسمه، فهو الشخص نفسه، النحيل والممتلئ، الفقير حد الإعدام، والمستور حتى الثراء والرفاه، فزوجته المتسلطة في يومه وحبيبته الغيداء في حلمه تناديانه بالاسم نفسه (ممدوح علم الدين) «ويعود من حياته الأخرى، ليجد نفسه في الحياة الراهنة، الشخص الراقد في مخدعه لا يفصل بين شخصين يعيش فيهما سوى غمضة عين وانتباهتها، لحظة تنقله من موت صغير إلى حياته القاسية التي اعتادها».

وتواجهه خلال كتابته تلك الرواية عدة عثرات، أولها سد الفجوات التي لا يعرفها عن حياة بطله وصديقه الغائب التي لا يُحيط بكثير من أسرارها، فيتنقل بحثاً عن معلومات يستوفي بها المزيد عن حياة صديقه، التي يستخدمها في رسم شخصيته، لا سيما حول تاريخه الشخصي والأسري وسنوات شبابه الجامعي وصولاً لجلوسه خلف مكتب صدئ في وزارة التموين متمسكاً بنزاهته رغم عُسر حاله المادي، وصولاً لمعرفة ما إذا كان صاحبه مريضاً بالفصام وإذا كان هذا الحُلم أحد أعراض مرض يُعاني منه.

أما العقبة الأخرى في كتابة روايته كانت في التداخل بين العالمين، والعبور من حلقة إلى أخرى لإحكام تخييله المستوحى من سيرة صاحبه مُوزعاً بين صحوه ومنامه «كانت الخواطر التي راحت تنهمر في نفسي، والأفكار التي تدفقت على رأسي، جعلتني متحيراً بعد أن اختلط الحلم بالصحو، وتقاربت المسافات بينهما إلى درجة جعلتني مدركاً الصعوبة التي سأواجهها في الفصل بين الحالتين».

إن الكتابة عن صديق «غائب» ليست فقط استدعاءً لحضوره الخاص، إنما «احتياج» لمواصلة حُلم تسرّب بين صحو حياة ومناماتها، واقتفاء لوصيّة صاحبه الأخيرة التي أطلقها في لقائهما الأخير قبل اختفائه: «امضِ خلف حلمك مبصراً، ولا تسأل أحداً».


ما هي الفلسفة التي نحتاجها في المدارس؟

فيثاغورس
فيثاغورس
TT

ما هي الفلسفة التي نحتاجها في المدارس؟

فيثاغورس
فيثاغورس

والجهل حظك إن أخذت العلم من غير العليم

ولرب تعليم سرى بالنشء كالمرض المُنيم

هذه الأبيات من قصيدة أحمد شوقي الموسومة بـ«أرسطاطاليس» وترجمانه (التي كتبها تهنئة لترجمة الفيلسوف والسياسي والمفكر المصري الكبير أحمد لطفي السيد لكتاب «الأخلاق» لأرسطو). وكأن أمير الشعراء في استخدامه لصيغة المبالغة «عليم» أعطى رسالة مباشرة لأحمد لطفي السيد بأن يتولى المتمكنون من المعرفة فقط تدريس الطلبة بطريقة أرسطو عند تعلمه وتعليمه الفلسفة والمنطق، وإلا تحول الطلبة لجهلة أو نسخ جامدة من الكتب! فيخاطب أمير الشعراء المفكر والمسؤول أحمد لطفي بلغة المفكرين الحاذقين العالية. كيف لا وأحمد لطفي السيد من أهم مفكري مصر الحديثة، وهو الذي تولى وزارة المعارف ثم الخارجية في مصر، وأحد مؤسسي جامعة القاهرة، ومجمع اللغة العربية، والذي يقول عنه العقاد: إنه أفلاطون الأدب العربي.

دعونا نجاري الغرب في نظرته الاستعلائية في ادعائه أن بداية الفلسفة بشكل عام، والعلمية بشكل خاص، كانت على يد اليونان في القرن السادس قبل الميلاد، مدخلاً لنا لفهم الطريقة التي ميزت اليونانيين في نهجهم العلمي الذي فاقوا به الأمم السالفة. وحتى نجد لنا عذراً في مجاملة استعلاء الفكر الغربي - لفهم منطلق حكمه - نأخذ مثالاً بسيطاً لتوضيح الفكرة. فمثلاً صحيح أن البابليين قد سبقوا اليونانيين في إثبات أن مربع العدد الصحيح «س»، مضافاً له مربع العدد الصحيح «ص»، يساوي مربع العدد الصحيح «ع» في حالات محددة من الأعداد الطبيعية الصحيحة، وهي نظرية متطابقة مع نظرية مربع طول الوتر في المثلث القائم الزاوية لفيثاغورث الذي جاء بعد ذلك. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما الذي جعل علماء الرياضيات ينسبون هذه النظرية لفيثاغورث اليوناني ويكيلون له المديح على هذه النظرية العبقرية التي تقوم عليها معظم البراهين الرياضية منذ ألفين وثلاثمائة سنة تقريباً، ويتجاهلون عمل البابليين السابق؟ وقس على ذلك تجاهلهم لما قدمه المصريون والسومريون والآشوريون والكنعانيون والفنيقيون والصينيون من نظريات كثيرة قبل ظهور أول فلاسفة اليونان الطبيعيين طاليس (غير أرسطاطاليس موضوع القصيدة) قبل ألفين وستمائة سنة تقريباً.

ما قبل سقراط وبعده

الفلسفة اليونانية تاريخياً تقسم إلى مرحلتين: ما قبل سقراط وما بعد سقراط، حيث تتميز الفترة الأولى بأنها طبيعية ورياضية، ثم تفرعت لفروع علمية وغير علمية في أواخر هذه المرحلة، مع ظهور تحديات سقراط للمسلمات الذهنية في حواراته مع مناظريه، لينتهي به الحال للحكم عليه بالإعدام من قبل أصحاب العقول الأقل شأناً. وهذه المرحلة الأولى من تأريخ الفلسفة هي التي تعنينا في هذا المقال بعيداً عن مثل أفلاطون ومنطق أرسطو في مرحلة ما بعد سقراط. اليونانيون في هذه المرحلة سلكوا مسلك الإثبات العلمي والنقد العلمي في نظرتهم لأي افتراضات علمية، وتدوين العلوم في كتب تحفظها ويدرسها المتمكنون للطلبة الأذكياء دون جعل النظريات العلمية حتمية بل ظنية قابلة للنقد إلا في حالات نادرة. أقليدس - مثلاً - لم يكتف بتدوين النظريات الرياضية في كتابه «الأصول» فقط، بل برهن على صحتها أو نقل براهين صحتها. كما أن اليونان لم يكتفوا فقط بمنهج البرهان والدليل المنطقي والإثبات العلمي والتدوين، بل أضافوا إليه البناء التراكمي للعلوم وتطورها من مرحلة لأخرى وانفتاحهم على علوم الحضارات الأخرى، كما فعل فيثاغورث نفسه الذي هام عدة عقود في طلب المعرفة منتقلاً بين مراكز الحضارات الشرقية في مصر وبلاد ما بين النهرين.

ومن أهم إسهامات اليونان إشاعة العلم وجعله متاحاً للجميع على عكس الحضارات السابقة التي تعاملت مع العلوم كأسرار في أيدي الكهنة، كما فعلت الكنيسة تماماً بالدولتين الرومانيتين الشرقية والغربية حين أغلقت آخر المدارس الفلسفية بحجة نشر الهرطقة ومحاربة الدين في القرن الخامس الميلادي، وحصرت العلوم كلها في أيدي القساوسة والكرادلة خلف أسوار الأديرة المحصنة، وفسرت الظواهر الطبيعية طبقاً لفهم الكنيسة للكتاب المقدس المحرف، فأدخلت أوروبا في ظلام دامس لألف عام.

الابتعاد عن المنهج العلمي الرصين والمنطقي والجري التائه خلف الترف الفكري والميتافيزيقيا الخيالية وهدر المواهب في لغو العقول يسقط أي حضارة، فضلاً على أن يبني حضارة على أسس علمية راسخة. هذا المنهج العلمي النقدي والمنطقي الذي ميز النصف الأول في القرن العشرين في مشهد استثنائي من تأريخ الحضارة البشرية أخرج فيها العقل البشري أعظم ما وهبه الله له.

طرق تعليمية عقيمة

إن الطريقة التي تقوم على أسلوب حفظ المعرفة العلمية فقط أو خلطها بالشوائب غير العلمية تبقى طريقاً عقيمة أمام تطور المعرفة بصورتها الشاملة. فكلما كانت النظرية العلمية أو المنطق العلمي قابلين للشك والتجربة والنقد، ويخضعان لمنهج التصحيح الذاتي، فتحا آفاقاً جديدة من أبواب العلم، وتجاوزا حدوده الآنية إلى حدود ودرجات أرفع. وهذا هو سر حضارة اليونان العلمية الطبيعية العميقة والعظيمة التي لا تزال آثارها إلى اليوم في بطون نظريات وقوانين ومنطق المعرفة. ذلك هو المطلب الأساس في منهج تعليم فلسفة العلوم (الرياضيات والفيزياء والكيمياء بشكل رئيس) لدينا ليصبح المعلم العليم شجاع العقل - كما وصفه شوقي - هو من يفَهم طلبتنا قيمة عقولهم.


تحديات عبور النصّ الغرامشي في «دفاتر السجن»

غرامشي
غرامشي
TT

تحديات عبور النصّ الغرامشي في «دفاتر السجن»

غرامشي
غرامشي

في مايو (أيار) 1930 - وفي رواية أخرى فبراير (شباط) 1929 - خطّ الزعيم الشيوعي الإيطالي أنطونيو غرامشي (1891 - 1937) أولى كلماته فيما أصبح يُعرَف بـ«دفاتر السجن»، وهي 33 كراسة سمحت إدارة السجن الفاشستي له باستخدامها لتدوين ملاحظاته وأفكاره، عندما كان يقضي فترة محكوميته التي تسببت في النهاية بموته المبكّر عام 1937.

ومن المعروف أن تلك الدفاتر، التي هرّبتها عن أعين رجال بينيتو موسوليني شقيقة عقيلة غرامشي الروسيّة إلى الاتحاد السوفياتي، بقيت طي الكتمان لِما بعد الحرب العالميّة الثانية، عندما أُعيدت إلى إيطاليا، ونشر ست منها بلغتها الأصلية، بعناية من جيوليو إينودي بين عامي 1948 و1951. لكن نشر بقية أغلب الدفاتر تأخّر حتى منتصف السبعينات، وتُرجم بعضها للإنجليزية والفرنسيّة، لكنّها لم تصل إلى قرّاء الإنجليزيّة عبر العالم بشكل فعلي قبل الثّمانينات، ولم يكتمل نشرها إلى اليوم، رغم صدور ترجمة للجزء الأهم منها إلى الإنجليزية في ثلاثة مجلدات عن مطبعة جامعة كولومبيا - 1992، والتي أصبحت تُعدّ بمثابة النسخة المعياريّة في العالم الأنجلوساكسونيّ. وتعتزم جمعيّة غرامشي الدّوليّة نشر أعماله الكاملة - بما فيها دفاتر السجن في وقت قريب - وفق ما أعلنت، بما في ذلك طبعة بالإنجليزية، إلى جانب النسخة الإيطاليّة.

ومع ذلك فإن دفاتر سجن غرامشي؛ من شدّة أصالة الفكر الذي حملته نصوصها، استقطبت، فور نشرها، اهتماماً واسعاً في أوساط الأكاديميين من خارج دائرة اليسار، ونشرت حول مختلف طروحاتها، في مجالات الاجتماع، والسياسة، والفلسفة، والأدب، والتاريخ، مئات الكتب، وآلاف المقالات المحكمّة، ولا سيّما بالإنجليزية والإسبانيّة، إلى جانب الإيطاليّة، وعُقدت بشأنها عشرات النّدوات والمؤتمرات في جامعات حول العالم، إلى جانب المساقات الدراسيّة عن فكر غرامشي التي تتوفر لطلبة الإنسانيّات، وكذلك رسائل الماجستير والدّكتوراه، حتى إن المؤرخ البريطاني المعروف إريك هوبسوم كتب يقول إن «غرامشي أصبح منذ الثمانينات أكثر مفكر إيطالي على الإطلاق يجري اقتباس أعماله في الدراسات الأكاديميّة المحكّمة في الإنسانيات والاجتماعيات».

في العربيّة تُرجمت بعض محتويات دفاتر السجن، في صيغ مختلفة من الفرنسيّة والإنجليزيّة، وهناك ترجمة جديدة لمختارات منها ستَصدر قريباً - عن منشورات الجمل بألمانيا - لكن لم تصدر إلى الآن ترجمة كاملة لها؛ لأسباب كثيرة.

على أن عبور نصوص غرامشي، وخصوصاً تلك التي تضمّنتها دفاتر السجن، تبدو مهمّة صعبة للقارئ غير المتخصص، حتى في لغتها الأم، ناهيك بالترجمات، أو الترجمات عن الترجمات - كما هي حال السواد الأعظم مما يتوفر عن غرامشي بالعربيّة. وهكذا ينتهي الكثيرون إلى قراءة مقتطفات منفصلة، أو تجميع جراحي لعدة مقاطع تحت عناوين أو «ثيمات» مختلفة، وهو ما يُفقد النص الغرامشيّ روحه الأصليّة الشديدة التباين عن نُظم التدوين المألوفة للأفكار.

مراجعات وتأملات

ولعلَّ أهم موانع العبور متأتية من طبيعة نصوص «دفاتر السجن» نفسها، فهي ليست فصولاً من كتاب بالمفهوم التقليدي، بل سجلات غير متتابعة زمنياً، دوَّن فيها غرامشي مقاطع متفاوتة الطول حول موضوعات كثيرة، بعضها مراجعات فكريّة، وحوارات مع نصوص قرأها، وبعضها الآخر تأملات في قضايا فلسفيّة وفكريّة وتاريخيّة وسياسيّة، وأيضاً ملاحظات حول قضايا كان يعتزم الكتابة فيها، وأحياناً إعادة صياغة لنصوص كتبها في وقت سابق. ورغم محاولة الكاتب السجين تنظيم تلك الدّفاتر عبر تخصيص بعضها لموضوعات محددة، مثل «النقد الأدبيّ»، أو «الصحافة»، أو «على هوامش التاريخ»، فإن معظم الدّفاتر احتوت نصوصاً من موضوعات مختلفة لا رابط بينها.

وفي الحقيقة، فإن غير العارفين بشؤون غرامشي ينتهون غالباً إلى اعتقاد أن «دفاتر السجن»، بكل ما فيها من أفكار ساطعة، تظل أقرب إلى عمل تحضيري، غير مكتمل، ولا ناضج، ونتاج عقل أسير محاصَر في السجن. وكثيراً ما استُخدمت هذه بوصفها مبررات لتمرير ترجمات مجتزأة، أو طبعات تحت تبويبات مفتعَلة، أو محاولات لتفسير المعاني الكامنة وراء النصوص المغلَقة وتقويلها ما يخدم نظريّة هنا أو تصوراً هناك، وهي طرائقُ حذَّر منها غرامشي في «الدفاتر»، واعتبرها خطراً لا بدّ من تجاوزه، لمن أراد الوصول إلى المعاني التي تَحكيها النصوص المكتوبة.

على أن في ذلك خيانة إضافيّة للنص الغرامشي فوق خيانة الترجمة - التأويل، التي لا مفرّ منها، فـ«الدفاتر» يجب أن تُقرأ حصراً وكأنها «ورشة عمل غرامشيّة مستمرة»، على ما يقول جياني فرانسوني، في كتابه عن غرامشي، فكأنّها رحلة في عقل هذا المفكر الإيطالي الاستثنائيّ بينما يقرأ ويناقش ويحلل ويفكّر في تفاصيل الأمور التي تثير اهتمامه، في إطار منهجيته التي طالما اعتمدها، حتى قبل إيداعه السجن، وتقوم على مقاومة النزوع للأفكار الشموليّة، أو الحلول النهائيّة، أو الاستنتاجات الحاسمة، لمصلحة الاستطلاع المعمَّق المفتوح النهايات للظاهرة المحددة موضوع الدّرس، في إطار تمثلها على أرض الواقع. ومن اللافت أن غرامشي لم يرغب يوماً في تأليف الكتب؛ لأنّه كان يمقت الحتميات والتجريد التي هي نتاج طبيعي لكل نص تجمعه دفتا كتاب، ونشر، بدل ذلك، أفكاره ورؤاه، عبر عدد هائل من المقالات الصحافيّة القصيرة، والمنشورات الثوريّة، إلى جانب بث بعضها في ثنايا رسائله الكثيرة إلى رفاقه وأهله، على نحوٍ يمكن منه استقراء معانٍ عمليّة شديدة الأصالة، من حواره الجدليّ، الشيّق، والمتحرر من القيود المسبقة، مع الظواهر في هذا العالم، ما حدا بمُنظِّرين كبار إلى وصف هذه المنهجية المعرفيّة المشتبكة بأمور الحياة ومعاش الناس، بـ«الطريقة الغرامشيّة».

موانع عبور نص «دفاتر السجن» الأخرى - سوى طبيعة النصوص نفسها - تبدأ من تجذّر الفكر الغرامشي في لحظته التاريخية عند تقاطع الزّمان والمكان، ولذلك فإن معرفة قريبة بتاريخ إيطاليا في العصور الحديثة، وتطورات الحركة الشيوعية فيها، وعلاقاتها بالمنظومة الاشتراكية الدوليّة، ضرورية لوضع النصوص في سياقاتها. وقد تسببت قراءات لاحقة عزلت النصّ الغرامشي عن سياقه، في ظهور ادعاءات بأن مفكّرنا الإيطاليّ لم يكن في مرحلة السجن ماركسيّاً ثوريّاً، أو أنّه نصير لمذهب الاشتراكية الاجتماعية الأوروبيّ، أو حتى مرجعيّة لما يسمى «الماركسيّة الثقافيّة» التي تستهدف تدمير المجتمع الأمريكيّ من الداخل، من خلال أدوات الإنتاج الثقافيّ، وهذا كلّه هراء محض نتاج قراءة تحريفيّة.

صراع السجين والسجّان

المجموعة الأخيرة من موانع عبور النص الغرامشي تتعلق بالظروف الموضوعيّة الشخصيّة للرّجل السجين، والمراقب، والمعتلّ الصحّة، والمعزول عن عالمه ورفاقه وعائلته وزوجته وأولاده، إذ يجب أن نتذكر دائماً أن «دفاتر السجن» كُتبت في ظل رقابة مشدَّدة أمر بها موسوليني نفسه، مما يجعلها موضع صراع يوميّ بين السجين والسجّان. ومنعت السلطات غرامشي من الاحتفاظ بأكثر من 3 كتب في وقت واحد، ولم يسمح له باستخدام دفاتره معاً، بل كانت تُنقل مع الكتب الثلاثة التي لديه، إلى مخزن السجن؛ كي يمكن للرقيب الاطلاعُ عليها عندما يشاء، ولذلك كان يبدع في استخدام مصطلحات وتعبيرات لإخفاء المعاني الظاهرة، فالحزب الثوريّ «أمير حديث»، والماركسيّة «فلسفة ممارسة (براكسيس)»، ولينين يُشار إليه باسم «إيليتش»، وهكذا.

الأمر الآخر المرتبط بذلك هو معاناته النفسيّة الحادّة نتيجة العزلة المفروضة عليه، والتي تتناقض مع طبيعته الشخصية المائلة إلى التواصل الثري مع الآخرين؛ رفاقاً وأقارب وجماهير، والتي رغم التزامه الصلب بالنضال والصمود، أنهكت إحساسه بالعالم من حوله، وانعكست على النصوص نوعاً من نزق، ولا سيما في المراحل اللاحقة من سجنه، بعدما اتجه الحزب الشيوعي الإيطالي، الذي شارك في تأسيسه، نحو مواقف لا تتوافق مع قناعاته الفكريّة. ولا شكّ أن اعتلال صحته، الذي ازداد تفاقماً بمرور الوقت، لم يساعد على التخفيف من معاناته النفسيّة، بل دفعه، في وقت ما، إلى عرضه الطلاق على رفيقته أمِّ أولاده.

لذلك كله، فإن قراءة غرامشي - ناهيك عن ترجمته - عمليّة شديدة التطلّب، وتحتاج إلى تثقيف مسبق، لكّن كنوز الفكر النادرة، التي يمكن العثور عليها في صفحات «دفاتر السجن» - والنصوص الغرامشيّة عموماً - تجعل من تلك المهمّة استثماراً مُجزياً بكل المقاييس.