لبنان والصندوق فرصة فريدة للإنقاذ

TT

لبنان والصندوق فرصة فريدة للإنقاذ

اعتمد صندوق النقد الدولي تاريخيا على نموذج اقتصادي (وصفة تقليدية) واحد لم تثبت فاعليته التامة في الأزمات الاقتصادية في دول عانت من المشكلات البنيوية والمتشعبة كالتي يعاني منها لبنان حاليا. وهذا النموذج يعتمد على مفصلين أساسيين، دور ناعم قوامه استشاري تقني بحت، ودور استشاري معزز ببرنامج مالي يتضمن الاطلاع المباشر على عمل المؤسسات والتحقق من أدائها كما ونوعا ومدى التزامها بخطة الدولة الاقتصادية وإبراز أي قصور في المواكبة والانضباط واقتراح سبل التصويب والتدابير المطلوبة.
هذا الدور يمكن تصور سياقاته ذات الأولوية مسبقا في حالة لبنان عبر التركيز على نقاط ارتكاز ملحة وتهيئ الأرضية المناسبة للمعالجات الأساسية. ويشمل الجدول الداهم، إيجاد حلول فعالة لمعضلة الكهرباء واستقلالية القضاء وإقفال المعابر غير الشرعية وضبط المنافذ الشرعية كافة واستعادة أملاك الدولة البحرية وتحصيل حقوقها المهدورة فيها ومكافحة التسيب الضريبي ومحاربة الفساد وإنشاء وتطوير شبكة أمان اجتماعي شاملة ومحصنة.
وبالانتقال إلى البعد الهيكلي الأشد وطأة والأثقل في التطبيق، يتمثل دور الصندوق لبنانيا بفرض الإصلاحات المطلوبة بدءا من إعادة التوازن إلى المالية العامة من خلال السيطرة على العجز، وزيادة نسب الضرائب المفروضة على القيمة المضافة (VAT) والبنزين، وإعادة هيكلة القطاع العام مع مراجعة أنظمة التقاعد، وتحرير سعر صرف النقد الوطني، وخفض نسبة الدين الحكومي إلى ما بين 60 و80 في المائة من الناتج المحلي ووضع الضوابط لحصره ضمن هذا الهامش.
واقعيا وحتى الأمس القريب، كانت المباحثات بين الدولة اللبنانية والصندوق أشبه بشراء وقت إضافي من قبل بعض الفرقاء الداخليين، سواء بينهم من يفصح عن مواقف علنية أو من يغلفها بلغة دبلوماسية. أما الآن، فقد فرضت الوقائع وتسارعها ضرورات التماهي مع اللجوء إلى الصندوق كخيار وحيد متاح ومع وصول البطالة إلى رقم قياسي يوازي 40 في المائة، وفقدان الليرة فعليا لنحو 60 في المائة من قيمتها الشرائية والسوقية لدى الصرافين، وتجاوز نسبة الدين 150 في المائة من الناتج المحلي، ودخول الاقتصاد في مرحلة نمو سلبي، وغياب الفرص للحصول على التمويل من مصادر خارجية.
وبالإضافة إلى هذه المعطيات الضاغطة، طرأ عامل جديد لا يقل أهمية، ويتمثل في تعليق لبنان دفع مستحقات سندات الدين الدولية في التاسع من مارس (آذار) الجاري، تزامنا مع تعيين مستشارين دوليين ماليين وقانونيين بهدف التفاوض مع الدائنين لإعادة جدولة محفظة السندات. وحصل الأمر في ظل تغيير هيكلي في هوية حاملي السندات لصالح المستثمرين الأجانب، وتحديدا حيازة حصة مؤثرة من قبل صناديق موصوفة في الأسواق المالية الدولية بأنها نسور تتصيد الطرائد وتتغذى على حساب دول تعاني من أزمات مالية ولا توفر فرصة للانقضاض عليها، بما يشمل السعي بقوة لاستصدار أحكام قضائية ملزمة. كذلك فان إعادة جدولة الدين يلزمه توفير ضمانات لإمكانية دفعه مستقبلا وهذا غير متوفر من قبل أي جهة خارجية حاليا.
إن مقاومة دور الصندوق أساسها أن أي برنامج كامل يشمل المعونة المالية، من شأنه أن يتيح لبعثة الصندوق الدخول إلى مؤسسات الدولة الرئيسية وفرض إصلاحات جدية. ومن المفهوم أن الإصلاح هو عدو موصوف للنفوذ والتنفيعات والفساد ومنع الدولة من استعادة سيادتها. فيما تفرض الأزمة العاتية وتداعياتها المؤلمة على معيشة المواطنين والاقتصاد الوطني، على الحكومة أن تعكس صورة مختلفة في التزام الإصلاح بخلاف سجل التهرب والتسويف الذي درجت عليه الحكومات سابقا. فهذا شرط لازم أصلاً للحصول على دعم خارجي ولتحفيز المانحين في مؤتمر «سيدر».
يبدو الآن أن هذه المقاومة قد بدأت بالتراجع وخفت حدتها ربطا بالظروف المعقدة التي بلغها البلد وأوضاعه الاقتصادية والاجتماعية، وخصوصا بعد انزلاقه إلى انهيارات أشبه بزلزال بارتدادات تواصلية عالية الدرجات. ولكن الحكم على صدقية المواقف المستجدة تعتريه شكوك حقيقية لا يمكن تبديدها إلا بعد الشروع بتنفيذ البرنامج الإنقاذي ومحطاته المتدرجة. فالدولة لم تحدد، حتى الآن، توجهات جدية وموضوعية للمعالجة. والمطلوب أن تحسم أمرها بشأن المهمة التي ستوكلها إلى صندوق النقد وحدود هذه المهمة والأهداف المرجوة منها.
ليس المطلوب، ويجب ألا نوافق على الوصفة التقليدية للصندوق. فالنموذج الذي يلائم لبنان يمكن أن يراوح بين التدخل المباشر الناعم أو التدخل عن بعد من خلال مهمة البعد الاستشاري التقني والنصح والتوجيه بما يخص الخطة الاقتصادية التي تعكف الحكومة على إعدادها حاليا وتزمع الإعلان عنها قريبا، وخصوصا لجهة تقييم صوابية رؤيتها والأسس التي تقوم عليها، وقياس فعالية آلياتها التنفيذية في تحقيق أهدافها. فضلا عن مدى مطابقة معايير الشفافية والتحقق والرقابة والمحاسبة التي تضمن الإدارة الفعالة والحصانة ضد الفساد.
كذلك من المهم للغاية، تمكين الصندوق من الاطلاع على المعطيات في كل مراحلها وتقييمها تباعا وكذلك تحديد التعديلات الكمية والنوعية التي تطرأ في مرحلة التطبيق. وأيضا مواكبة تنفيذ موازنة العام الحالي التي وافقت عليها الحكومة الحالية، ثم أغفلت عن ذكر أي جديد بشأنها لاحقا. بالإضافة إلى تنفيذ الإصلاحات الأساسية المتعلقة بالكهرباء والقطاع العام والمديونية والتهرب الضريبي وضبط المنافذ، مع تجنب تحميل أوزارها للفئات الشعبية، وبالأخص، المداخيل المتدنية التي تنوء أصلا بحمل تداعيات الانكماش الاقتصادي والتضخم والبطالة وتقلبات سعر الصرف.
بالتوازي، فإن أي عملية إنقاذ للبنان يلزمها أدوات فاعلة لتحفيز النمو وفي مقدمها إعادة الثقة إلى القطاع المصرفي، وليس فقط بإعادة رسملته أو إعادة هيكلته، بل من خلال إعادة توليد جهاز متجدد يعي تماما مكامن الصواب والأخطاء في مسيرته السابقة ولماذا خسر مخزون الثقة مع عملائه وبشكل دراماتيكي وسريع، بهدف تحديد الموجبات التي تكفل استعادة هذه الثقة وإعادة بناء قدراته الإدارية والتنافسية بما تتطلبه أصول العمل المصرفي الحديث والتغيير في استراتيجياته وخطط العمل وتعزيز خدماته ومنتجاته لتلبية حاجات الاقتصاد المنتج والحاجات التمويلية لعملائه. وحكما يتطلب كل ذلك بناء هيكلية بشرية وتنظيمية وتقنية ملائمة لطبيعة المهام الجديدة.
لبنان يسابق الوقت بجسم هزيل وضيق في التنفس وندرة في الموارد الأساسية. المطلوب تغليب مصلحة الوطن على أي مصالح خاصة أو فئوية. لا مجال للتسويف والمماطلة والتحايل والسياسات القصيرة النظر. صحيح أن للمهل أهمية في صياغة الخطط والحلول، إنما الوقت هو أغلى قيمة وثمنا في تسريع المقاربات الموضوعية والمعالجات الموضوعية، وإلا فان ما نحرقه في نار الأزمة سينثر في رمادها.

- خبير اقتصادي ومصرفي لبناني



مخيم جنين: ليست حرباً على المسلحين... ولكن على الناس ورواياتهم

TT

مخيم جنين: ليست حرباً على المسلحين... ولكن على الناس ورواياتهم

الزميل كفاح زبون مع الصحافيين الذين تسللوا إلى مخيم جنين وقد بدا حولهم الدمار الهائل (الشرق الأوسط)
الزميل كفاح زبون مع الصحافيين الذين تسللوا إلى مخيم جنين وقد بدا حولهم الدمار الهائل (الشرق الأوسط)

ظل محمود الرخّ متردداً في الدخول إلى مخيمه الذي ولد وعاش فيه، مخيم جنين، بعدما حولته إسرائيل إلى كومة ركام كبيرة، ومصيدة للموت، قبل أن يحسم أمره، ويتجرأ ويعبر إلى داخل المخيم متغطياً بمجموعة صحافيين قرروا الدخول أيضاً بعد مشاورات كثيرة، وطول تردد. فالكل يدرك جيداً أنه قد يتعرض لإطلاق نار، قد يقتل، وقد يصاب، وقد يعتقل.

كان الشارع من دوار السينما الشهير في جنين إلى مداخل المخيم يعطيك انطباعاً سريعاً عما ستشاهده لاحقاً، وقبل المستشفى الحكومي الذي يقبع في آخر الشارع، حول الجنود المدججون بكل أنواع الأسلحة، المدخل الرئيسي للمخيم إلى ثكنة عسكرية. لكن شبان المخيم وأهله وصحافيي المدينة قالوا لنا إنه يمكن أن نتسلل إلى المخيم من خلف المستشفى، في جولة بدت صادمة للغاية.

«لا أحد إلاك في هذا المدى المفتوح»، تذكرت ما قاله الشاعر الراحل محمود درويش وأنا أعبر إلى المخيم. «لا أحد» في المخيم. «لا أحد»، لا سلطة ولا ناس ولا مقاتلين، «دب الإبرة بتسمع صوتها» على ما نقول. فقط جنود إسرائيليون حولوه إلى كومة ركام كبيرة شاهدة على تاريخ وصمود ومعارك وحياة وذكريات وحكايات كثيرة، يتربصون بأي أحد، ويحلمون كما يبدو بتحويل المكان من فلسطيني إلى إسرائيلي بالكامل.

منشورات ألقاها الجيش الإسرائيلي في مخيم جنين (الشرق الأوسط)

لمحنا على مسافة بعيدة لافتات زرعها الجنود، تحمل أسماء عبرية مثل «محور يائير» في محاولة يائسة للسطو على المكان. وكانت مثار سخرية؛ إذ لا يخطئ الجنينيون في لفظ أسماء حاراتهم في المخيم من «الحواشين» إلى «الدمج» و«الألوب»... إلخ.

لم تكن حرباً على المسلحين، لقد كانت حرباً على المكان والناس والتاريخ والحاضر والرواية كذلك، وليست مجرد عملية عسكرية أطلقتها إسرائيل في المخيم في 21 يناير (كانون الثاني) الماضي، في بداية تحرك يتسع نطاقاً في باقي الضفة، بعد إدراجها على قائمة أهداف الحرب.

«السور الحديدي» وقواعد ثابتة

كانت العملية التي تعدّ تغييراً في الاتجاه الإسرائيلي، واتخذت اسم «السور الحديدي»، في تذكير واضح بالعملية الواسعة التي شنتها إسرائيل في الضفة عام 2002 في أثناء الانتفاضة الثانية، وأطلقت عليها اسم «السور الواقي»، واجتاحت معها كل الضفة الغربية، بدأت بهجوم جوي نفذته طائرة مسيرة على عدة بنى تحتية هناك، قبل أن تقتحم الوحدات الخاصة والشاباك والشرطة العسكرية مناطق واسعة في جنين، ثم ينفذ الطيران غارات أخرى.

بعد 25 يوماً، حين وصلنا إلى المخيم كانت إسرائيل قتلت 26 فلسطينياً وجرحت آخرين، وهجّرت 20 ألفاً بالتمام والكمال هم كل سكان المخيم، بلا استثناء.

سألت أحمد الشاويش، وهو صحافي من جنين تطوع للدخول معنا: إذاً ماذا يفعلون في المخيم؟ قال إنهم في مناطق لا نستطيع الوصول إليها يبنون قواعد ثابتة، ما يذكّر بكلام وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس بأنهم لن يغادروا المكان.

وكان رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، أعلن شخصياً عن بدء العملية في جنين، قائلاً إنها أطلقت «بتوجيه الكابينت»، بوصفها «خطوة أخرى نحو تحقيق الهدف، وهو تعزيز الأمن في الضفة الغربية». وتابع حينذاك: «نحن نتحرك بشكل منهجيّ وحازم ضد المحور الإيرانيّ، أينما يرسل أذرعه؛ في غزة ولبنان وسوريا واليمن والضفة الغربية».

مسألة توقيت لا قرار

لم يكن قرار الهجوم على جنين مستحدثاً، لكنهم قرروا انتظار الهدنة في غزة، وبعد 3 أيام من بدء سريانها هناك، حولوا البوصلة إلى الضفة بعد توصية رئيس الشاباك رونين بار الذي أبلغ المجلس الأمني والوزاري المصغر أنه يجب اتخاذ إجراءات أوسع لتغيير الواقع، والقضاء على المجموعات المسلحة في الضفة، مطالباً «بالتعلم من الذي حصل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول)»، ومحذراً من أن الانخفاض الكبير في العمليات في الضفة الغربية «مخادع ومضلل»، و«لا يعكس حجم تطور الإرهاب على الأرض».

آليات الجيش الإسرائيلي تقتحم مخيم جنين (الشرق الأوسط)

مسألة أخرى قالت وسائل إعلام إسرائيلية إنها ساهمت في اتخاذ قرار الهجوم على الضفة الغربية، هي الإفراج الجماعي عن الأسرى الفلسطينيين ضمن صفقة غزة، باعتبار ذلك «سيثير حماس الإرهابيين في المنطقة، ويزيد من دوافعهم لتنفيذ الهجمات».

لم أصدق ما شاهدت بأم العين رغم أنني رأيت مئات الفيديوهات من جنين قبل ذلك.

كان الدمار هائلاً؛ بيوت مهدمة، وجدران متهاوية، وشوارع مجرفة، وأكوام من الركام في كل مكان، فيما رائحة الحرائق تفوح من كل زقاق.

مضينا بحذر شديد فيما كانت طائرات «الدرون» التي يسميها الفلسطينيون «زنانات»؛ لفرط الإزعاج الذي تسببه، تحوم فوق المخيم 24 ساعة في اليوم والليلة.

قال الرخ إنه يريد العودة. تردد كثيراً لأن زوجته و2 من أولاده الصغار معه، لكن زوجته أصرّت على أن تواصل؛ لأنها بحاجة إلى جلب معاطف من المنزل. وفعلاً عبرت مع ابنتها إلى هناك، وأحضرت بعض الملابس، أما هو فوقف عاجزاً عن وصف مشاعره وهو يشاهد منزله المهدم جزئياً.

غزّة ثانية

لا أعرف كيف سيشعر أي شخص حين يرى منزله الذي بناه من تعب وعرق واحتضنه مع عائلته قد تبخر بلمح البصر؟! الابن أحمد قطع علينا أفكارنا وهو ينادي والده بفرح: «يابا يابا... جابت ستر جابت ستر (معاطف)».

لم يغادر الرخ سريعاً رغم أن المهمة أُنجزت، وظل يراقب منزله في حارة الحواشين، ثم أشار إلى بيته المحروق والمهدم وقال: «ما خلو اشي ما خلو بيوت ولا سكان».

مخيم جنين المدمر والفارغ من أهله وسكانه (الشرق الأوسط)

قال لنا إنه تسلل قبل ذلك وتعرض لإطلاق نار، وأضاف: «لولاكم ما دخلت. خايف يطخوا علينا معي زوجتي وأولادي. شفتكم وتشجعت... والله الحامي».

وأضاف: «إشي لا يصدق شوف شوف. غزة ثانية عملوها».

سألته: ماذا ستفعل بعد ذلك؟ قال: «سنعود. سأنصب خيمة وراح أنام فيها».

فعلاً كان مخيم جنين غزة صغيرة، عبرنا فوق أكوام الركام، ودخلنا عبر البيوت المهدمة والمفتوحة لتجنب الجيش في الشوارع.

وكان فادي، أحد أبناء المخيم، خبيراً في أزقته، وحاول إلى حد كبير توجيه جولتنا مع كثير من التحذيرات.

طلب منا الوقوف فجأة عندما سمع صوت جيب إسرائيلي يسميه الفلسطينيون «بوز النمر». صاح: «وقفوا بوز نمر قريب». لم يصدر أحد صوتاً، وخيم السكون. تدخل صديقه وقال: «من هنا»، فاضطرنا إلى تسلق ما يشبه جبلاً من الركام، ثم هبوط جبل آخر لنعبر إلى حارة أخرى.

كان شيئاً لم نشهده في الضفة الغربية في الانتفاضتين: الأولى والثانية. وعلى الرغم من أن كل الفلسطينيين اختبروا كل أشكال الحرب، بما في ذلك غارات الطيران الحربي وتوغل الدبابات في قلب المدن، فإن مخيم جنين بدا شيئاً آخر. ولا حتى ما تبثه الشاشات يمكن أن يعكس هول المشهد.

حزن كبير يغمر المكان. حزن الحجارة والشوارع على المكان والناس الذين كانوا قد تشردوا عند أقارب لهم في مراكز نزوح تقام لأول مرة في الضفة الغربية.

تجريف لتسهيل الاقتحام

لم أعرف أين وقف كاتس، نهاية الشهر الماضي، عندما وصل إلى المخيم، لكني تخيلته وهو منتشٍ بما شاهده من دمار يوازي دمار غزة.

قال من هنا إنه سيواصل الهجوم، ولن يخرج من المخيم الذي لن يعود كما كان حتى بعد انتهاء العملية.

نظرت إلى المخيم وفهمت أنه لن يعود كما كان، لكني لم أفهم ضد من سيواصل الهجوم في مكان بلا أحد!

سألت الصحافيين والناس مرة أخرى إن كان هناك مسلحون فقالوا: «لا، لا يوجد أي أحد. لا يوجد أي بشر هنا فقط هذا الدمار».

لكن إسرائيل مصرّة وتقول إن العملية في جنين مستمرة، وهدفها «تحييد المسلحين بالكامل»، ويتحدثون عن عملية قد تستمر عدة أشهر.

مخيم جنين المدمر والفارغ من أهله وسكانه (الشرق الأوسط)

في الأثناء كانت الجرافات تصل إلى المخيم، وانطلق نقاش حول تجريف إسرائيل شوارع واسعة في المخيم قد تحوله إلى مربعات سكنية صغيرة، بما يسمح للجيش بالبقاء والاقتحام وقتما يشاء.

وربما أنهم مثل ما يحلمون في غزة يحلمون في مخيمات الضفة، تهجير الناس وتقليص المساحات للوجود الدائم، واستيطان إذا تسنى لهم.

في أحد أزقة المخيم التي تحولت إلى «طينة» بفعل تدمير البنية التحتية، كان ثمة بيانات سابقة ألقاها الجنود ما زالت موجودة تطالب أهل المخيم بنبذ المسلحين، وتقول إنهم السبب بتدمير المخيم، وإنهم هم من يدفع الثمن.

والبيانات أسلوب إسرائيلي قديم جداً لم يتوقف، وطالما ألقى الجيش طيلة الانتفاضة الثانية في كل مكان في الضفة بيانات تقول للفلسطينيين: «قف وفكر. لا تدعم المسلحين».

لم يتوقف الفلسطينيون ولا المسلحون ولا إسرائيل.

لكن في مخيم جنين بعد معارك طويلة ومستمرة، لم يكن هناك اليوم أي مسلحين، ولكن أكوام. أكوام من كل شيء، أكوام حجارة، أكوام حديد، أكوام سيارات محترقة، أكوام رمل، ولا شيء سوى الأكوام.

السجن الكبير

لا تكفي جولة سريعة تقوم بها تحت الضغط والقلق. فأنت بوصفك فلسطينياً أولاً، وإنساناً ثانياً، تنسى أنك صحافي، وتغرق في دهشة وحزن وكثير من الأمنيات بالتخلص من واقع معقد وصعب حوّل الجميع إلى سجناء في سجن كبير بعنابر متفاوتة، ينتظرون الموت أو الإذلال المستمر.

في الطريق إلى جنين عبرنا حواجز عديدة، وكان علينا متابعة أخبار الحواجز؛ لمعرفة إن كانت مفتوحة أو مغلقة أو مزدحمة. وكان علينا أن نلتف عليها في رحلة تحولت إلى مضنية، وأكثر من مضنية خصوصاً في طريق العودة حين أصر الجنود على تفتيش السيارة والجوالات، وبدأوا يطرحون أسئلة سخيفة.

لم نصدق أننا خرجنا سالمين من مصيدة الموت في المخيم.

مجموعة الصحافيين تخرج على عجل من مخيم جنين (الشرق الأوسط)

«لقد نجونا»، صرنا نفكر قبل أن يهمهم الجميع بعد العودة إلى المستشفى الحكومي، الحمد لله على السلامة.

قال الشاويش إنهم في آخر محاولة للدخول تعرضوا لإطلاق النار، وقد أصيب مواطنون حاولوا الدخول إلى المخيم. وفي المرة التي سبقت ذلك اضطر الصليب الأحمر للتدخل من أجل إخراج صحافيين حوصروا داخل المخيم.

خارج المخيم صادفنا شباناً يتصيدون الفرصة للدخول، يراقبون تحرك الآليات ويستطلعون المداخل، وبادروا بسؤالنا: «كيف الوضع؟ وين وصلتوا؟ لاقكم جيش؟».

قال أحمد سمارة إنه يدخل بشكل شبه متكرر متسللاً إلى حارة الدمج، إحدى الحارات التي لم نستطع الوصول إليها ودُمرت بشكل كبير.

وسألته: لماذا يخاطر هكذا؟ فقال باستنفار: «أنا داخل على بيتي مش على بيتهم، بدي أدخل غصب عنهم. خليهم يطخوني».

وفي كل مرة، يصل سمارة إلى بيته المدمر يُلقي نظرة عليه، ويسلّم ويغادر. ومثل الرخ ينتظر سمارة نهاية العملية العسكرية من أجل أن ينصب خيمته هناك، ويقول: «أنا راح أرجع على مخيمي، أنا بحب مخيمي وراح نعمره بأيدينا».

تهجير قسري وتمسّك بالعودة

وبحسب منسق القوى الوطنية والإسلامية في جنين، راغب أبو دياك، فإن الاحتلال هجّر قسراً ما يزيد على 20 ألف مواطن من مخيم جنين، بعدما دمر وعاث خراباً في 470 منزلاً بشكل كامل وجزئي.

لم تكن هذه معركة المخيم الذي بني عام 1953 بحسب وكالة «أونروا» الوحيدة، فقد خاض رجاله مواجهة كانت الأعنف في الضفة الغربية عام 2002.

لكن الناس لم يغادروا آنذاك.

وشرح سكان من المخيم كيف أنهم اضطروا للمغادرة تحت تهديد الجنود والطائرات المسيرة التي كانت تطلق النار.

بعضهم كان محظوظاً لأن له أقارب وأنسباء خارج المخيم، لكن عدداً آخر كان عليه أن يجرب ما جربه الفلسطينيون في قطاع غزة.

كانت جنين المدينة هادئة إلى حد ما لكنها أيضاً متعبة.

وفي جمعية «الكفيف» الخيرية، وجدنا العشرات من سكان المخيم يعيشون هناك، ومثلهم مئات في مراكز نزوح أخرى في المدينة والقرى المجاورة.

رجال يقتلون الوقت في نقاشات سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية، وأولاد يلعبون في حديقة متواضعة، ونساء يتدبرن أمور الحياة، وجميعهم يربون الأمل فقط من أجل عودة قريبة.

لم يتخيل نظمي تركمان أنه سيكون نازحاً يوماً، وقال إن الموقف صعب وحزين للغاية.

وأضاف: «شفت بحياتي كتير. عشت اجتياحات وقتل وضرب وهدم بس هاي المرة غير».

ومثل غيره، يتسلل تركان إلى المخيم كل يوم مأخوذاً بالحنين: « كل يوم برجع بروح بتفرج على البيت المحروق».

سألته أيضاً: ماذا سيفعل بعد انتهاء العملية؟ فأجاب مثل الآخرين: «راجعين مش بس على المخيم وبدنا نرجع كمان على 48. بفكروا يهجرونا من المخيم لا! أنا من حيفا وبدي أرجع على حيفا».

زوجة محمود الرخّ وابنته تحاولان تفادي القناص للوصول إلى المنزل وسحب حاجيات ضرورية (الشرق الأوسط)

غضب على السلطة

وصلت سيارات إلى المكان تحمل بعض المساعدات التي بدت متواضعة، ولا تلبي الاحتياجات، وبعد أيام قليلة فقط أصدر رئيس الوزراء الفلسطيني محمد مصطفى توجيهات بتوفير الإيواء والإغاثة اللازمة للنازحين في محافظات شمال الضفة الغربية، خاصة في مخيمات جنين وطولكرم ونور شمس.

لكن الحاجة حليمة، وهي معروفة على نطاق واسع في المخيم ونزحت هي الأخرى منه إلى مركز المكفوفين لم تكن راضية عن دور السلطة.

وقالت الحاجة حليمة، وهي عضو سابق في اللجنة الشعبية في مخيم جنين، إن المخيم دفع ثمناً كبيراً عندما حاصرته السلطة في السابق.

وأضافت بكثير من الألم: «شوف بعد كل هذا العمر وين صرنا إشي بحزن إشي قاتل بالآخر نتشرد من دورنا».

تفهم الحاجة حليمة أن الحرب الحالية أكبر من مجرد عملية، وتعتقد أنها تستهدف حق العودة باستهداف المخيمات ووكالة «أونروا».

في أثناء ذلك، كانت إسرائيل تعيد في مخيم نور شمس بطولكرم ما فعلته في مخيم جنين.

لقد بدت حرباً واضحة على المخيمات. لكن الحاجة حليمة استخفت بهم وبحربهم وقالت: «أنا مولودة بالمخيم وراح أرجع... وزي ما بقول المثل: المربى قتال».