«أطياف كاميليا»... مرايا الجمال القاسي

الارتباط بين المرأة والمرآة الثيمة الأبرز في رواية الكاتبة المصرية نورا ناجي

«أطياف كاميليا»... مرايا الجمال القاسي
TT

«أطياف كاميليا»... مرايا الجمال القاسي

«أطياف كاميليا»... مرايا الجمال القاسي

تزخر الثقافات المختلفة بأساطير تنسب للمرآة قوى سحرية، تذهب إلى حد قدرتها على الاحتفاظ بالصور، بل حبس أرواح الموتى بداخلها. وإلى اليوم يُفضل بعض الناس تغطية المرايا في الليل، مثلما كان الإنجليز في العصر الفيكتوري يؤمنون بضرورة تغطية المرايا في بيت الميت إلى حين الخروج بالجثة للدفن!
بعيداً عن الرؤى الأسطورية، يعتبر الدكتور محمود رجب في كتابه «فلسفة المرآة» الصورة المرآوية نقطة التقاء بين المادي واللامادي، وعتبة وسط بين عالمي الأجسام والأرواح، يتم عبرها الانتقال من أحدهما للآخر. وقد دعمت المرآة، بلا شك، وعي الإنسان بذاته منذ اكتشف انعكاس صورته على سطح الماء والأسطح المصقولة، قبل أن يعمد لاحقاً إلى تصنيعها، رغم مخاطر التحديق المستمر. ورغم أن أسطورة الوقوع القاتل في حب الذات بسبب إدمان النظر في صفحة الماء تتعلق برجل هو «نرسيس»، فإن المرآة في الواقع جزء من كينونة المرأة لا الرجل: تقف أمامها عندما تحزن وعندما تفرح، عندما تتأهب لموعد وعندما تعود منه، عندما تقع في الحب وعندما تتعرض للهجر، عندما ينهار عنادها وعندما تكون بصدد الإقدام على عمل خطير. ربما تكون سطوة الرجل التاريخية هي السبب في إدمان المرأة للمرآة؛ ذلك لأن وجودها مُعلق برأي الرجل. وهي إذ تحدق في صورتها المنعكسة في عمق المرآة فإنها تنظر إلى نفسها بعيون الرجال.
هذا الارتباط بين المرأة والمرآة هو الثيمة الأبرز في رواية «أطياف كاميليا» للكاتبة المصرية نورا ناجي. تبدأ الرواية الصادرة حديثاً عن دار الشروق بمشهد طفلة تراقب عمتها الشابة الجميلة بينما تتزين، وفجأة تراها تذوب وتتبدد في المرآة، وتنتهي الرواية بالطفلة، وقد صارت شابة، تقف مبتسمة أمام المرآة ذاتها، وبين البداية والنهاية تتكاثر لعبة مرايا متعاكسة، تجعل من غير الممكن تصور أن يكتب هذه الرواية رجل.
هناك تلازم بين كاميليا الكبيرة والمرآة، يبدو على مدار السرد؛ فهي تقف أمامها لتتزين، تنظر إلى انعكاس صورتها في واجهات المحال وفي عيون المعجبين من الرجال، وعيون صديقاتها المبهورات بجمالها، وعندما زهدت في المرآة وفقدت ولعها بتصوير نفسها كان ذلك إيذاناً بانطفاء حياتها. تهرب من بيتها دون أن يدري أحد لها مكاناً بعد ذلك، وربما كانت ملازمتها الدائمة للمرآة هي التي جعلت كاميليا الصغيرة تتصور اختفاء عمتها على هذا النحو الأسطوري.
وأمام إصرارها على تكرار وصف مشهد اختفاء عمتها يضطر والدها إلى رفع المرآة من مكانها، لكن الصورة الخيالية لم تفارقها، حتى عندما كبرت ودخلت كلية الفنون التطبيقية في اليوم الدراسي الأول لها بالجامعة «شعرت بأنها تعبر إلى عالم مختلف، تماماً كما ذابت عمتها في المرآة أمامها»، وعندما طلب المعيد من الطلاب رسم مشهد لا يغادر خيالهم «رسمت امرأة يغمر الضوء ظهرها، تذوب في مرآة بيضاوية كبيرة». وعند ذلك أحست بأنها تحررت قليلاً من ثقل الصورة، بعد أن تمكنت من حبس اللحظة في اللوحة. وفي نهاية الرواية يكون أبوها قد رحل، وتعود إلى البيت في غياب أمها، تستخرج المرآة وتعيدها إلى مكانها القديم، تحدق فيها مبتسمة، وتلتقط صورة لطيفها المنعكس في عمق المرآة وتنشرها على صفحتها في الـ«فيسبوك»، وكأنها تقوم بتثبيت ابتسامتها للبرهنة على أنها لم تعد تخشى المرآة!
لا يهيمن ولع المرآة على الرواية، من خلال مستواه المادي المباشر فحسب: (انعكاس الصور على أسطح المرايا والواجهات الزجاجية للمتاجر وفي لقطات الكاميرا واللوحات الفنية) لكن الأمر يتعدى إلى رمزية المرآة التي تصبغ علاقة الشخصيات ببعضها البعض، حيث تبدو حياة كل شخصية مرآة لحياة شخصية أخرى إما بالمماثلة أو بالمخالفة.
واقعة اختفاء العمة عادية، تتكرر على مستوى الواقع: فتاة شديدة الجمال في مدينة صغيرة، تضيق بعالمها وتتطلع إلى العاصمة؛ فتذهب إليها، وتنتهي بالضياع. لكن صنعة الأدب هي الكيفية التي تُحكى بها هذه الحكاية، وقد اختارت الكاتبة تجميع طاقة الحكي في الرواية من خلال مجموعة من المرايا المتقابلة.
حلم «كاميليا» الكبيرة هو بالأساس حلم شقيقها «محمد»، فهو الذي قادها إلى أوساط القاهرة الثقافية والصحافية، لكنه لا يتآلف مع ذلك العالم ويقنع بوظيفته معلماً في مدينته طنطا، وبضغط منه ومن الأب تقبل كاميليا بوظيفة مماثلة، بينما تواصل السفر إلى القاهرة، تتعامل مع إحدى المجلات بالقطعة، وتقع في غرام فنان تشكيلي متزوج، وعندما تنكشف العلاقة يتفق الأخ ذاته مع الوالد على حبسها في البيت. وبنصيحة من زوجته يعرضها مرة أخرى على زميلها «جمال» الذي سبق أن رفضته زوجاً، وترضخ للحل الذي سيحررها من محبسها دونما اقتناع أو حب، لكنها تضيق بهذا الحل وتهرب، تاركة وراءها عاراً جديداً يشمل رجلاً ثالثاً هو زوجها.
بقدر ما كان محمد مرآتها بالسبق، كانت هي مرآته بالإنجاز؛ فهي التي قطعت شوطاً في عالم الشهرة، لذلك يمتثل لسلطة التقاليد ويعتبرها خاطئة، إلا أنه في قرارة نفسه لم يكرهها، وظل معجباً بسيرها وراء حلمها، سمى ابنته باسمها، واحتفظ بكتاباتها الصحافية ورسائلها، بل أخذ يقرأها مع ابنته.
علاقة كاميليا الكبيرة والصغيرة تبدو أكثر من انعكاس المرآة، بل امتداد، وكأن للمرأتين حياة واحدة تستأنفها الصغرى بعد الكبرى. أو كأن الصغرى فرصة إضافية من الحياة لكاميليا الكبيرة بعد أن اكتسبت الحذر. أخذت الصغيرة عن الكبيرة حب الفن. سعت للتحرر من ثقل الأسرة، دون أن تقع فيما وقعت فيه العمة؛ فسعت إلى الزواج دونما اقتناع من شاب يتودد إليها هو صاحب «سايبر» كانت تذهب إليه لتصفح المواقع الإلكترونية، لكنها عدلت سريعاً عن الخطبة.
«نادية إسماعيل» أم كاميليا الصغيرة، قليلة الحظ من الجمال، عاشت بدرجة عالية من الامتثال للتقاليد والإخلاص الزوجي، لأنها اتخذت من كاميليا الجميلة مرآة، واعتبرت نفسها محظوظة بتواضع جمالها، لأن الجمال في رأيها «قوة، يمنح صاحبه ميزات لا يستحقها، ويمنحه قساوة غير مفهومة في القلب» وهي كرهت قوة كاميليا وقساوتها فعاشت خانعة لمجرد المخالفة.
رجال الرواية يبدو كل رجل منهم مرآة للآخر: الأب العائد من حرب بساق واحدة، عالق بين البطولة والمهانة، مرآة وصنو لابنه محمد العائد من حرب الثقافة في القاهرة بجراحه الخاصة وإحباطه، ومحمد بدوره مرآة وصنو وشريك لصديقه جمال في الإحساس بالمهانة من سلوك كاميليا والتسامح معها في الوقت ذاته، وجمال مرآة لخطيب كاميليا الصغيرة المتروك دون أضرار كبيرة، ولم تتركه كاميليا الصغيرة بدون تبريد جرحه، تتحدث معه في زياراتها لطنطا، وتبدي ندماً لأنها لم تصبح زوجته؛ فيشعر بالفخر ويحكي لها عن زوجته وأولاده، وكأنها بذلك تسدد دين عمتها تجاه زوجها المطعون.
إلى جانب ثنائيات الأصل والصورة بين امرأة وأخرى ورجل وآخر، تبدو كل شخصيات الرواية من جهة أخرى مرايا لكاميليا الكبيرة، تعكس سحرها، ولا تستطيع أن تنفصل بمشاعرها عنها: الأب يقسو على ابنته، لكنه يعتبر ابنه مسؤولاً عن ضياعها، والابن يستسلم للذنب ولوم نفسه، وزوجته تلوم نفسها لأنها دفعتها إلى زيجة غير مناسبة لكي تتخلص من وجودها، وأخيراً «جمال سلطان» الشخصية التي شحنتها الكاتبة بولع وتسامح غير محدودين تجاه كاميليا يستدعيان إلى الذاكرة ولع وتسامح شارل بوفاري تجاه زوجته «إيما»، بل أكثر من شارل؛ فبينما اطلع شارل على غراميات إيما بعد انتحارها أقدم «جمال» على الزواج من كاميليا إنقاذاً لها وهو عارف بغرامياتها. وفعل كل ما يتصور أنه يسعدها: جلب طبقاً لاقطاً للإرسال التلفزيوني في أول ظهوره ليضع العالم بين يديها، اشترى لها كاميرا باهظة الثمن، حاول بكل قوته أن يخرجها من حزنها دون جدوى، ودون أن يلومها، بل أحس بأنه سجانها وغمره الإحساس بالحرج والضيق.
إنها سلطة الجمال القاسي، وقد حلت لعنته على كل المرايا فأصابتها بالشروخ، مع ذلك احتفظت المرايا المهشمة في أعماقها بصورة صافية لكاميليا المحبوبة.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.