إلزه شولر... سحرتها حياة الشرق ودفنت في جبل الزيتون بالقدس

مختارات من دواوين شاعرة ألمانية

إلزه شولر... سحرتها حياة الشرق ودفنت في جبل الزيتون بالقدس
TT

إلزه شولر... سحرتها حياة الشرق ودفنت في جبل الزيتون بالقدس

إلزه شولر... سحرتها حياة الشرق ودفنت في جبل الزيتون بالقدس

أنجزت المترجمة المصرية والباحثة في الأدب الألماني الدكتورة ريهام سالم، ترجمة مختارات شعرية للشاعرة والفنانة التشكيلية الألمانية إلزه لاسكا شولر، الحاصلة على جائزة «كلايست» في عام 1932، وتعتبر ممثلة بارزة لطليعة الحداثة والمدرسة التعبيرية في الأدب. كما عُرفت أيضاً كفنانة تشكيلية، وشاركت في إصدار صحيفة «العاصفة»، التي أصدرها زوجها الشاعر هرفارت فالدن.
ولدت إلزه شولر في 11 فبراير (شباط) 1869 في إلبرفيلد، ونشأت في منطقة بريلير في إلبرفيلد. كانت أصغر 6 أطفال ولدوا ليانته شولر (1838 - 1890). أصبحت أمها شخصية محورية في أشعارها. كان والدها آرون شولر مصرفياً.
في عام 1894 تزوجت شولر من الطبيب يوناتان برتولد لاسكا، الأخ الأكبر لبطل الشطرنج العالمي إيمانويل لاسكا، وانتقلت إلى برلين. وهناك بدأت التدريب على الرسم، وقد كانت وفاة والدتها بمثابة «الطرد من الجنة». بعدها بسنوات توفي والدها، وأنجبت ابنها بول. ثم نشرت أولى قصائدها، وبحلول عام 1906 ظهر أول عمل نثري لها؛ «كتاب بيتر هيله». ثم نشرت في عام 1907 «ليالي تينو ببغداد» نصوص نثرية. وفي عام 1909 نشرت مسرحية «نهر فوبَّر»، ومع ديوانها «معجزتي» 1911، أصبحت لاسكا شولر أهم شخصية تعبيرية ألمانية، وفي ظل كل هذا الصعود والعمل المتميز توفي ابنها بول في عام 1927 ما تسبب لها في أزمة نفسية عميقة.
وبعد اعتداء وتهديدات من قبل النظام النازي، هاجرت إلزه شولر إلى زيورخ، لكنها مُنعت من العمل هناك. كانت الشرطة البلدية للأجانب تصدر فقط تصاريح إقامة مؤقتة، وبالتالي قامت بانتقالات كثيرة في زيورخ، وفي عامي 1934 و1937 قامت برحلتين إلى فلسطين. وفي عام 1938 أُسقطت جنسيتها الألمانية، أصبحت «بدون»، كما يطلق عليها في سويسرا. فسافرت إلى فلسطين للمرة الثالثة عام 1939، لكن بداية الحرب منعتها من العودة إلى سويسرا، التي رفضت سلطاتها منحها تأشيرة العودة.
وتذكر ريهام سالم، في مقدمتها للمختارات، أن الشاعرة كانت غريبة الأطوار، وكانت تعيش حياة تشبه حياة الشعراء الصعاليك. فقد كانت تطوف بالبلدان الأوروبية كإحدى نساء الغجر المغامِرات أو فارسات الأمازون اللائي تتغنى بهن القصص والأساطير، وتعيش في عالم أشبه بعالم الخرافات، وتتصور نفسها أميرة أو جنِّيَّة طالعة من إحدى حكايات الشرق القديم. ألَّفت قصائد يشع منها جمال غريب يعكس رؤى الماضي والحاضر، والشرق والغرب، والواقع والحلم. كتبت تقول عن نفسها: «وُلِدت في طيبة بمصر، وإن كنت قد جئت إلى هذا العالم في (البرفيلد)، أحد بلاد الراين، وترددتُ على المدرسة حتى بلغتُ الحادية عشرة، ثم أصبحتُ روبنسون (وهي تعني روبنسون كروزو!) وعشت في الشرق خمس سنوات، ومنذ ذلك الحين وأنا أحيا كيفما تشاء الصدف».
ولم يكن هذا كله مجرد خيال؛ فقد تصورت إلزه شولر أنها تعيش بالفعل في عالم الشرق الخيالي، وراحت تنسج منه أقاصيصها وأشعارها، وتتقمص شخصية أمير من طيبة سمَّته «الأمير يوسف»، وأخذت توقع خطاباتها باسمه! وقد رأت فيه مثالاً لإنسان نبيل، يُخان ويُباع ويُجبر على العيش في المنفى، لا لشيء سوى لأنه محبوب طيبة، مدينة الأقصر بجنوب مصر، التي سحرتها بمعابدها الخالدة ورسومها الرائعة.
جاءت مختارات إلزه شولر من خمسة دواوين أصدرتها على امتداد 41 عاماً هي: «سُتيكس» 1902، و«اليوم السابع» 1905، و«معجزاتي» 1911، و«أناشيد يهودية» عام 1913، و«البيانو الأزرق» 1943، وقد تأثر إنتاجها الأدبي عامة، وأشعارها بصفة خاصة، بهويتها اليهودية وأساطير الشرق التي سحرتها وفُتنت بشخصياتها وأحداثها. كما تدور غالبية أشعارها حول أمها وعاطفتها نحو ابنها الذي فقدته في عام 1927. ولا يكاد شعرها يخلو من الحديث عن عاطفة الحب التي تبدو في أشعارها شبه مستحيلة، إلا أنها تتغّني بها؛ فتغلب على معظم أشعارها مفردات الشوق والوله والحنين الممزوجة بالحزن النابع من عالمها الداخلي. أمّا مواضيع السعادة في أشعارها فمنبعها الطفولة، وذكرياتها وأغاني الأطفال التي يستشعر القارئ أجواءها المفرحة في مواضع قليلة من أشعارها. وترسم إلزه عواطفها الجياشة والمتأججة دائماً بلغة تبدع في اختيارها، وأحياناً في اشتقاقها ونحتها لمفردات جديدة في اللغة الألمانية؛ كما هي الحال في وصفها للرياح في الصيف والربيع والنجوم الملونة والصحراء اللافحة.
ويعد حب الأم والابن والعائلة والوطن من أهم دعائم رحلة البحث عن الفردوس المفقود في حياتها وأشعارها، وتتسم أشعارها في هذا الجانب بنوعٍ من الراحة، فهي لا تعمد إلى إثارة القارئ، بل تهدئته روحانياً وحسياً، بخلاف ألفاظها عن شهوة الحب والعواطف المتأججة في أشعارها عن عشقها لمحبوبها.
وفي آخر ديوان لها، حسب المترجمة، احتلت مشاعر الصداقة مكانة كبيرة، وفيه خاطبت أصدقاءها بأسمائهم الحقيقية، وكتبت لهم قصائد اتخذت من أسمائهم عناوين لها، ويلاحظ القارئ تلاشي الحدود بين الصداقة والحب ليصل حد الحب العُذري.
وأشارت المترجمة إلى تجربة إلزه في المنفى، وتعامل النظام النازي مع أشعارها التي لم يلبث أن حرَّم نشرها، فهاجرت إلى سويسرا ومنها إلى مصر وفلسطين، ثم عادت إلى سويسرا حيث عرضت مسرحيتها «أرتور أرونيموس وآباؤه» في مدينة زيوريخ سنة 1936، ورجعت مرة أخرى إلى فلسطين التي كانت آنذاك تحت سلطة الاستعمار الإنجليزي.، وماتت في عام 1944 وحيدة في مدينة القدس، بعد تعرضها لنوبة قلبية عن عمر يناهز 75 عاماً، ودفنت بجبل الزيتون.
ترجمة ريهام حظيت بتقدير كبير قبل صدورها، وقام هايو يان المشرف التنفيذي لجمعية «إلزه لاسكا شولر» بمدينة دورتموند في ألمانيا، بكتابة مقدمة خص بها الترجمة العربية لمختارات من أشعار شولر، قال فيها، إن زوجها الطبيب والشاعر جوتفريد بِن وصف المواضيع التي تناولتها حبيبته إلزه شولر بأن عالمها المتخيل تشبع بالطابع الشرقيّ. وغلبت على لغتها المفردات الفخمة الجزلة الرقيقة. وتُعد التَّرِكَة الأدبيَّة لهذه الشاعرة في مجملها عملاً فنياً متكاملاً؛ لأنها كرسّامة تنتمي إلى مدرسة الحداثويِّة الطليعية، كانت رائدة في فنّ الأداء (بيرفورمانس)، وسبقت ديفيد بوفي وماريانا أبراموفيتش، المشهورين بهذا الفن، كما برعت في أدائها التمثيلي. ومن هنا، فقد أُطلقت عليها عدة ألقاب منها «تينو بغداد»، و«عشيقة الفرعون» و«شاعرة بلاد العرب». وظلت حتى وفاتها تُلقّب بـ«برنس يوسف من طيبة».



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!