يقال إن روما يزداد جمالها وتبرز مفاتنها كلّما خلت شوارعها من المارّة، وإن ميلانو على العكس يكمن سحرها في الحركة التي تدبّ عادة في شوارعها الأنيقة.
ميلانو اليوم مدينة جريحة، يسكنها الخوف من زائر لا تراه، عطّل محرّك الإنتاج في محيطها وأبعد عنها الزوّار وشلّ الحركة في شوارعها ومرافقها، وجعل منها العنوان الذي لا يريد أحد أن يقصده إلا في حال الضرورة القصوى.
تحاول عاصمة الشمال الإيطالي منذ أيام أن تنهض وتستعيد معنوياتها وثقتها بنفسها، لكن الزائر الثقيل الذي أفلت من شباك الرقمنة والذكاء الاصطناعي يقطع عليها الطريق ويدفعها أبعد في هذا النفق المظلم الذي لا تعرف إيطاليا متى وكيف ستخرج منه إلى النور مجدداً.
عدد الوفيّات الناجمة عن فيروس كورونا الجديد في إيطاليا يتزايد حتى أصبح الثالث بعد الصين وإيران، والأنباء الواردة من روما تنذر بالأسوأ. فقد قررت الحكومة المجتمعة في جلسة طارئة إغلاق المدارس في جميع أنحاء إيطاليا، اعتباراً من اليوم الخميس حتى منتصف الشهر الحالي، إضافة إلى حزمة من التدابير الوقائية الصارمة، يدفعها إلى ذلك رأي الإخصائيين بأن تأخير بلوغ انتشار الوباء ذروته ضروري لمنع وقوع المنظومة الصحيّة في العجز عن معالجة الإصابات التي زادت عن 2500، لم يتعافَ منها حتى الآن سوى 160.
السلطات الصحّية في مستشفى «كودونيو»، الذي انطلقت منه الإصابة الأولى تقول إن الساعات المقبلة حاسمة، وإنها تحبس أنفاسها لمعرفة ما إذا كانت الأزمة قد دخلت مرحلة الانحسار أم أنها ما زالت في بدايتها. ومن داخل «المنطقة الحمراء» المعزولة كليّاً منذ أسبوعين، يأتي نداء استغاثة عبر الفيديو لرئيس بلدية «كاستيوني دادا» يناشد فيه الجيش إرسال أطبّائه للعناية بالمصابين الذين يتزايد عددهم، ويرتفع عدد الموتى.
في المقهى المحاذي لمبنى صحيفة «لا ستامبا»، نتحدّث إلى الزميل ريكاردو العائد من زيارة عمل في الولايات المتحدة، فيقول: «كيف تريد لسكّان المدينة أن يستعيدوا ثقتهم بأنفسهم عندما تسمع وزير الصحّة يصرّح من روما أن الأولوية هي احتواء الانتشار لإنقاذ ميلانو، ثم لومبارديا، وإيطاليا؟! فيما يواصل السياسيون تقاذف التهم، ويحاولون استغلال هذه الكارثة الوطنية لمصالحهم الخاصة».
غداً (الجمعة)، تنتهي فترة الأسبوعين المفروضة على المنطقة الحمراء والترقّب على أشدّه لمعرفة نتائجها الأولى، فيما يتزايد الخوف من أن تبلغ نسبة الإصابات في المناطق الأخرى، تلك التي في القرى المعزولة، وتعجز المنظومة الصحّية عن مواجهتها.
لكن المنطقة الحمراء لم تعد مقصورة على القرى المعزولة. فالاقتصاد الإيطالي بكامله أصبح منطقة حمراء، بسبب تداعيات هذه الأزمة وسنوات من الركود المتمادي. وبعد أن أعلنت الحكومة أول من أمس عن مساعدات بقيمة 4 مليارات يورو للشركات والمواطنين في المناطق المنكوبة، تدرس حاليّاً حزمة أخرى من المساعدات، بعد أن بات من شبه المؤكد أن الأزمة ما زالت في مراحلها الأولى.
لكن من ميلانو أيضاً تأتي بعض الأنباء التي تفتح نافذة أمل في ضباب هذه الأزمة. فقد تمكّن البروفسور ماسّيمو كليمنتي، أستاذ العلوم الجرثومية في جامعة ميلانو، من عزل فيروس كورونا الجديد لدى اثنين من المرضى، وباشر بفكّ رموزه لمعرفة مواصفاته وخصائصه، تمهيداً لإعداد اللقاح والأدوية اللازمة لمعالجته.
يقول كليمنتي إن ثمّة أسئلة كثيرة عن هذا الفيروس الجديد لا توجد أجوبة عنها بعد، لكنها ستأتي قريباً. ويلاحظ أنه بعد عزله في أنبوب مع خليّتَين، تبيّن أنه لا يحتاج لأكثر من 48 ساعة لتدميرهما.
ويضيف كليمنتي أن الفيروس عادة يحتاج للعدوى من أجل البقاء والتكاثر، فهو لا يعيش خارج الجسد سوى ساعات معدودة، وأن عالمنا اليوم بمدنه المكتظّة وسكّانه الذين يتنقلون باستمرار في كل الجهات هو بمثابة «جنّة» بالنسبة للفيروسات. ويقول إن كورونا الجديد أسرع من فيروسات كورونا المعروفة من حيث السريان، لكنه أقل فتكاً منها، وهو صغير جداً يلزم منه مليون لبلوغ ميليمتر واحد.
في غضون ذلك، تواصل إيطاليا البحث عن طريقة للتكيّف مع العيش في هذا النفق، فيما ترتفع أصوات تناشد رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء التوجّه إلى المواطنين ومصارحتهم بما تملك الدولة من حقائق عن هذه الأزمة، على ضآلتها، وتنبيههم إلى أن السبيل الوحيد لمواجهتها هو الوقوف صفّاً واحداً وراء قيادة موحّدة.
ميلانو مدينة يسكنها الخوف من زائر لا تراه
السلطات تضاعف الجهود لتأخير بلوغ «كوفيد 19» ذروته
ميلانو مدينة يسكنها الخوف من زائر لا تراه
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة