رحلة الأميرة «أوروبا»... الأسطورة والواقع والتطور

هوميروس
هوميروس
TT

رحلة الأميرة «أوروبا»... الأسطورة والواقع والتطور

هوميروس
هوميروس

لفظ «أوروبا» شأنه شأن ألفاظ كثيرة نتعرض بها ونستعملها يومياً للتعبير عن كيان جغرافي وسياسي وثقافي نلمسه، ولكنه يختلط لدى البعض بالاتحاد الأوروبي، وإن كان القارئ من هواة السفر فاللفظ بالنسبة له سيمثل جمعاً لعدد من الدول الواقعة في هذه القارة والتي تحتاج أغلبها لتأشيرة «شينجين» لدخولها، ولكن حقيقة الأمر أن مفهوم «أوروبا» يسبق بأكثر من ألفيتين ونصف الاتحاد الأوروبي كمؤسسة سياسية «فوق الوطنية» والتي أتت نتيجة تكامل عناصر عديدة، ولكن لأوروبا قصة شيقة.
يُنسب لفظ «أوروبا» إلى أسطورة قديمة وردت في كتابات الأديب اليوناني العظيم «هومر»، فهو يُرجعها لأميرة من أسرة ملك «كريت»، بينما ينسبها الشاعر الروماني العظيم «أوفيد» إلى أصولها الفينيقية المتأصلة في مدينة «صور» اللبنانية قبيل تكوين الحضارة اليونانية القديمة، وتقول الأسطورة إن كبير آلهة اليونان «زيوس» تجسد في شكل ثور أبيض وتتبع الأميرة وقام بخطفها وغوايتها ونقلها إلى شبه الجزيرة اليونانية في بحر «إيجه» ومن نبت هذه العلاقة بدأت الحضارة اليونانية تزدهر. وإلى هنا فإن الأسطورة لا تحمل جديداً من حيث اختلاط الآلهة بالبشر، ولكن للأسطورة معانيها الضمنية بالنسبة للحضارة اليونانية والتي يعتبرها السواد الأعظم من المفكرين الأوروبيين نقطة البدء الفكري والفلسفي للحضارة الأوروبية أو الغربية، فتفسيرها بالنسبة لليونانيين آنذاك هو أن حضارتهم الجديدة هي في واقع الأمر اختلاط واضح وصريح بين الحضارة الفرعونية وحضارة ما بين النهرين من ناحية والحضارة الوليدة في اليونان من ناحية أخرى، فالأميرة «أوروبا» تمثل الشرق بحضارته بينما نبتها من «زيوس» يمثل الحكمة وإيذاناً بانتقال مركز الفكر والثقافة من الشرق إلى الغرب، بما يعني رضاء الآلهة عن الحضارة الناشئة، وبهذه الأسطورة اعتبر اليونانيون أنفسهم أبناء الآلهة وورثة حكمتهم وأن حضارتهم هي هجين فكري، ولكن الأسطورة تحمل بُعداً آخر في طياتها وهو بداية خفوت الحضارات الشرقية لتفسح المجال أمام صعود الحضارة اليونانية الفتية ومن بعدها الأوروبية ثم الغربية.
وبهذه الأسطورة تم تسمية الكيان الجغرافي الشاسع الممتد من المتوسط شمالاً باسم الأميرة الأسطورة «أوروبا»، وإلى هنا فالأمر مفهوم ومرتبط برؤية أسطورية كثيراً ما تُشكل التسمية في تاريخنا ووجداننا، ولا بأس في ذلك فهي سنة بشرية ممتدة، ولكن تاريخ هذه القارة وتطورها أخذ منحنيات وأشكالاً مختلفة إلى أن أصبح يمثل معاني كثيرة للكثيرين، وأبسطها المعني الجغرافي والذي يعتبرها الأراضي الممتدة من الأطلنطي إلى ما بعد جبال الأورال، حتى أن روسيا إلى حد قريب لم تكن ضمن النطاق الأوروبي في الضمير الفكري أو الجمعي الأوروبي، ولكن هذه الرؤية تغيرت بشكل كبير مع الوقت.
ومع التطور الزمني، بدأ مفهوم أوروبا يأخذ شكلاً جديداً مرتبطاً بالتطورات السائدة على أراضي القارة، وعلى رأسها انتشار المسيحية، والتي يبدو أنها طمست المفهوم الجغرافي المرتبط بالثقافة اليونانية إلى مفهوم جديد، حيث حلت المسيحية ومفهوم «الأمم المسيحية» أو «الفكر الأممي» محل الفكر الجغرافي - الثقافي الذي كان سائداً بعد الانصهار بين الحضارتين اليونانية والرومانية، وقد سعى الفكر الأممي المسيحي لطمس الهوية المشتركة لينابيع الثقافة الغربية، ولكن اشتداد الحروب والعنف الديني والقمع الثقافي المسيحي أدى لانحسار هذا التيار بعد الدمار والموت على مدار القرون ليأخذ المفهوم بعداً مختلفاً، فلقد كانت اتفاقية «يوتريكت» التي أنهت الحرب - عام 1713 آخر وثيقة يُذكر فيها مفهوم «الجمهورية المسيحيةRespublica Christianna» في الوثائق الدولية، وتدريجياً بدأ مفهوم أوروبا يحل محلها مرة أخرى، خاصة في القرنين الثامن والتاسع عشر مع ظهور حركة التنوير وكتابات «فولتير» و«روسو» وغيرهما والتي دعت صراحة إلى مفهوم وجود قومية أوروبية مرتبطة بالكيان الجغرافي المذكور بجذور مرتبطة بالحضارة اليونانية - الرومانية التي هي العمود الفقري للفلسفة الغربية ككل، وهو التيار الذي بدأ ينمو تدريجياً بعيداً عن الفكر الأممي للمسيحية بمحاصرة دور الكنيسة التقييدي له، ومع ذلك فإن البعد المسيحي لم يكن غافلاً على أحد ولكنه أصبح أداة ربط ثقافي-تاريخي وليس محركاً للمستقبل المنظور.
وبعد حروب ممتدة في القرن العشرين خرج المفهوم القومي الأوروبي للنور على أيدي السياسي الفرنسي «جان مونييه»، والذي رأي أن التاريخ والدين والجغرافي والثقافة لن تخلق وحدها المفهوم الأوروبي الموحد، بل لا بد من إيجاد المؤسسات ومفاهيم التكامل، فكانت جملته الشهيرة «إن أوروبا لم تكن موجودة، فالمرء يجب أن يسعى جاهداً لصناعتها»، والتقدير هنا هو أن الرجل لم يقصد إلا البناء الهيكلي لأوروبا الموحدة ممثلاً في الاتحاد الأوروبي بتسمياته المختلفة عبر الحقب الست الأخيرة.
وأخيراً يتبقى سؤال يراود الكثيرين وهي التفرقة بين مفهوم أوروبا والغرب، وهي مهمة شاقة تحتاج إلى مجلدات ممتدة، فإذا كان مفهوم أوروبا بكل ما يعتريه من مشاكل فكرية ومنهجية يمكن توضيح كيانه، إلا أن مفهوم الغرب أكثر تعقيداً، فهو المفهوم الشامل الذي يحمل في طياته قيم ومفاهيم الرصيد الحضاري الأوروبي، إضافة إلى ما ولدته حركة التاريخ المرتبط بالتوسع الجغرافي الأوروبي والكيانات المنشأة من قبله. ولهذا حديث آخر.



«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟