«انتماؤك يحميك»... يوميات صحافيي فلسطين بين حساسيات «الحزبية» وترهيب الاحتلال

عشرات الاعتداءات تُرصد سنوياً وتتنوع بين الاعتقال والتعذيب

صحافي فلسطيني يعمل وسط الميدان (الشرق الأوسط)
صحافي فلسطيني يعمل وسط الميدان (الشرق الأوسط)
TT

«انتماؤك يحميك»... يوميات صحافيي فلسطين بين حساسيات «الحزبية» وترهيب الاحتلال

صحافي فلسطيني يعمل وسط الميدان (الشرق الأوسط)
صحافي فلسطيني يعمل وسط الميدان (الشرق الأوسط)

يفكر الصحافي الفلسطيني «هاشم» كثيراً قبل إرسال مادته، التي تتناول الحديث عن واقع السجون الأمنية في كلّ من قطاع غزة والضفة الغربية، وحالات التعذيب والموت التي تشهدها بين فترة وأخرى. المعلومات التي جمعها على مدار أكثر من 3 أسابيع حيث أجرى عدّة مقابلات مع معتقلين سابقين، قد تكون حال نشرَها باسمه الصريح، الباب الذي يتحول من خلاله إلى قصّة عن الاعتقال والتعذيب، تستحق تسليط الضوء عليها من خلال مادة صحافية!
يقول في حديثٍ لـ«الشرق الأوسط»: «بما أنّي أسكن إحدى المحافظات الشمالية في الضفة الغربية، فنشر هكذا موضوع باسمي الصريح، سيؤدي لاعتقالي من قِبل الأجهزة الأمنية هناك، خاصة أن التقرير يتعرض لممارسات قمعية وهمجية تنفذها الجهات الأمنية بحق نزلاء، دون مراعاة للقوانين المحلية، حتّى المفاهيم الحقوقية البسيطة، التي تضمن الكرامة للإنسان أينما وجد»، مضيفاً: «أعمل صحافياً منذ 10 سنوات لعدد من المؤسسات، ونسبة الأعمال التي أنشرها تحت اسم مستعار تتجاوز 30 في المائة من إنجازي، وذلك بسبب شعوري بالخوف الدائم».

انتهاكات متنوعة
قصّة الصحافي هاشم والرقابة الذاتية التي فرضها على نفسه، ليست وحيدة في الواقع الفلسطيني، الذي تتحكم به مؤسسات حزبية وفئوية نتجت عن الانقسام بين حركة «حماس» التي انفردت بالسيطرة على قطاع غزة، وحركة فتح التي تسيطر من خلال ترؤسها للسلطة الوطنية ومنظمة التحرير على الضفة الغربية، ويمارس الطرفان وفقاً لعدد من التقارير الصادرة عن مؤسسات حقوقية، انتهاكات مختلفة بحق الحالة الصحافية الفلسطينية وحرية الرأي والتعبير، بهدف الإبقاء على سياسة الصوت الواحد وسحق المعارضة التي تسعى إلى زعزعة قواعد الحكم والمطالبة بحقوق الناس. على حد وصفه.
ويتحدث مدير منتدى الإعلاميين الفلسطينيين محمد ياسين، قائلاً: «نرصد بشكلٍ دائم انتهاكات بحق الصحافيين، تقع في شطري الوطن»، منبّهاً إلى أنّ الأطر الصحافية بشكلٍ عام لا تمتلك دور الردع الحقيقي للجهات الحكومية والأمنية، ولا سيما في ظلّ حالة الانقسام الموجودة، وأضاف: «يجب توفير الحماية الكاملة للصحافيين وضمان حريتهم في العمل، من خلال الوسائل المختلفة، التي تشمل الحشد والمناصرة ورفع الوعي ومواجهة كلّ انتهاك، بموقفٍ موحد».
في قطاع غزة، عاشت الصحافية «م. و» تجربة أخرى، فمنذ تخرجها في الجامعة عام 2009 دأبت على العمل مع عدد من المؤسسات الصحافية؛ حيث كتبت كثيراً عن الانتهاكات الحقوقية التي تمارسها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، وكتبت أكثر عن الانتهاكات الداخلية التي تمارسها حركتا «حماس» وفتح، وتذكر لـ«الشرق الأوسط» أنّها لا تعتقد لمدة لحظة واحدة أنّها تعمل بأمان داخل القطاع، طالما بقيت «مستقلة»، لأنّ الحزبية فقط هي من تحمي الصحافيين، منوهة إلى أنّ مدى السماح بممارسات الحريات يتباين من وقت لآخر، لكنّ السمة العامّة وفق كلامها هي فرض سياسة «تكميم الأفواه والترهيب».
ولعل أشرس الأوقات التي شهدت ذروة الانتهاكات بحق الصحافيين من قِبل حركة «حماس» في القطاع، كانت الأيام التي سبقت وتلت الحراك الشعبي المطلبي، المعروف باسم «بدنا نعيش»، الذي خرج فيه المواطنون الغزيون ضد الضرائب والأوضاع السيئة خلال شهر مارس (آذار) لعام 2019؛ حيث منعت الأجهزة الأمنية آنذاك الطواقم الصحافية من العمل في الميادين لتوثيق الفعاليات، وصادرت الكاميرات والمعدات، وتمّ الاعتداء على عشرات الصحافيين وسحلهم واعتقالهم وتعذيبهم، وتوجيه اتهامات لهم، تشكك في وطنيتهم.
وقالت نقابة الصحافيين الفلسطينيين، آنذاك، إنها وثّقت بحسب الإفادات التي وصلت لها 36 انتهاكاً بحق صحافيين، من ضمنها 17 حالة اعتقال، منها ما استمر اعتقاله لعدّة أيام وتعرض للتعذيب، و7 حالات أخرى تمّ الاعتداء عليها ومصادرة أجهزتها الخلوية ومعدات للعمل الصحافي، كما تلقى 12 صحافياً وصحافية بلاغات استدعاء وتهديد من جهات أمنية مختلفة، بعضها معروف أصوله، والبعض الآخر غير معروف، وسجلت النقابة كذلك 6 حالات استدعاء، و4 حالات تهديد، وحالتين فقط تمّ فرض إقامة جبرية عليهما في المنازل لمدة 4 أيام.
ومن بين الصحافيين الذين تعرّضوا للاعتقال آنذاك، المصور الصحافي عاصم شحادة الذي يعمل في الوكالة الوطنية للإعلام.
حيث روى أنه تمّ اعتقاله خلال الحراك، أثناء تغطيته أحداث فعاليات شمال القطاع، إذ تمّ نقله مباشرة إلى مركز الشرطة وواجه في طريق الوصول تعنيفاً لفظياً حاداً واتهامات بالارتباط بجهات معادية، مردفاً: «أكثر من 6 ساعات قضيتها داخل السجن، دون إعلامي بالتهمة التي ارتكبتها. ما فعلته هو فقط محاولة التقاط بعض الصور للمتظاهرين في الحراك. أيستحق هذا الأمر الاعتقال والتعنيف؟».

أساليب متنوعة
يوضح عضو الأمانة العامّة لنقابة الصحافيين، منتصر حمدان، أنّ النقابة وثقت منذ سيطرة حركة «حماس» على قطاع غزة عام 2007 أكثر من 500 انتهاك بحق الصحافيين، شملت مختلف أشكال الاعتداء، لافتاً إلى أنّ حرية الرأي والتعبير في القطاع تكاد تكون معدومة؛ حيث إن الأخير تحول مع الوقت إلى بيئة معادية وخطيرة لعمل وسائل الإعلام والصحافيين، وهذا الأمر يستدعي وقفة فورية بعيداً عن المواقف الرمادية، من مختلف الفصائل والمؤسسات الحقوقية والدولية التي تهتم بحرية الرأي والتعبير، تضع حداً لكلّ تلك الانتهاكات.
وحتى أغسطس (آب) 2019 وثّقت لجنة دعم الصحافيين، أكثر من 10 حالات انتهاك على يد أجهزة الأمن في الضفة، بحق الصحافيين، على خلفية آرائهم السياسية وإعدادهم مواد إعلامية.
وبيّنت اللجنة أن ذلك يعيق عمل الصحافيين في كشف جرائم الاحتلال المتصاعدة ضد أبناء الشعب الفلسطيني، مطالبة بضرورة تحييد الصحافيين وعدم زجّهم في الصراع السياسي القائم وتمكينهم من ممارسة عملهم الصحافي بحرية، احتراماً للحق في حرية الرأي والتعبير والحريات الصحافية.
وليست الأجهزة الأمنية هي الوسيلة الوحيدة للجهات الحاكمة الفلسطينية، التي ترغب في عرقلة العمل الصحافي، فكثير المؤسسات الأخرى تشترك في ذلك الفعل، منها على سبيل المثال المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، ووزارة الإعلام في الضفة الغربية؛ حيث إن الأول حاول قبل فترة فرض إصدار «بطاقة صحافية» على الصحافيين، ليتمكنوا بها من الدخول للمؤسسات الحكومية والتحرك في الأماكن العامّة، وهو الأمر الذي رفضته الأسرة الصحافية، وعلى إثر ذلك اضطر المكتب لتعطيل الفكرة مؤقتاً، وفقاً لبيانٍ صادر عنه حينذاك.
وفيما يتعلق بوزارة الإعلام التابعة للسلطة الفلسطينية في الضفة، فالتقارير الدورية الصادرة عنها والتي تهتم بتوثيق الاعتداءات بحق الصحافيين ككل، تكاد تكون خالية من أي ذكرٍ للانتهاكات التي تمارسها أجهزة السلطة بصورة شبه يومية، وفي مقابل ذلك تُوغل في الحديث عن تفاصيل انتهاكات «حماس»، كما أنّها تتعمد وعلى لسان مسؤوليها في مناسبات مختلفة، تعميق الفجوة في فهم الصحافيين للفرق بين المبادئ المتعلقة بحرية الرأي والتعبير، والمناكفات السياسية التي تبتعد بشكلٍ كبير عن الأصول والمفاهيم المهنية.

أسباب التراجع
ورد في التقرير السنوي الذي أصدره مركز «غزة» لحرية الإعلام في نهاية فبراير (شباط) الماضي أنّ مجمل الاعتداءات الداخلية بحق الصحافيين في الأراضي الفلسطينية بلغت 141 انتهاكاً خلال عام 2019. مرجعاً استمرار تلك الانتهاكات لأسباب متعددة، منها الضعف الذي تعيشه نقابة الصحافيين، ومعها الأطر الصحافية المختلفة، إضافة إلى استمرار الانقسام الفلسطيني الذي أدى إلى تعطيل مختلف المؤسسات التشريعية والقضائية، وسمح للأجهزة الأمنية بالاستمرار في انتهاكاتها. وتروي الصحافية منى خضر أنّ الأسباب التي أدت إلى تراجع الحريات الإعلامية تشمل كذلك تبعية المؤسسات الصحافية المختلفة لجهات حزبية تتجاوز في أبجديات عملها الأساليب المهنية لممارسة أصول المهنة، ويصل بها الحال لممارسة التحريض والدعوة للعنف، مشيرة إلى أنّ مواجهة تلك التصرفات «التي سيكتبها التاريخ بلونٍ أسود» تتطلب من مختلف المؤسسات المختصة الوقوف بشكلٍ موحد تجاه كلّ انتهاك، وذلك لأنّ حرية العمل الصحافي، تنعكس بالضرورة على مدى الحرية التي يتمتع بها المواطنون العاديون.
ولا بد من التنويه إلى أنّ المادة الرابعة من قانون المطبوعات والنشر الفلسطيني، لعام 1995 أكّدت على أهمية عمل السلطات الحاكمة على تعزيز حرية الرأي والتعبير من خلال إفساح المجال للمواطنين والصحافيين لنشر آرائهم ووجهات نظرهم المختلفة ومنحهم فرصة البحث عن المعلومات والإحصائيات التي تهمهم من مصادرها، لكنّ القوانين الفلسطينية بذات الوقت لم تتطرق بشكلٍ مفصل لما يتعلق بالإعلام المرئي والمسموع والإلكتروني، واكتفت خلال كلّ الفترة الماضية، بتطبيق ما يقع في قانون العقوبات العام وقانون المطبوعات والنشر على القضايا الصحافية التي تتعلق بالأعمال غير المطبوعة.
من جانبه، يسرد مدير المعهد الفلسطيني للاتصال والتنمية الصحافي فتحي صبّاح، أنّ حرية الرأي والتعبير للصحافيين والمواطنين يجب أن تكون مكفولة لأوسع مدى، مبيّنا أن ذلك يتطلب وجود منظومة تشريعية متكاملة بهذا الشأن، لأن القوانين المعمول بها بهذا الشأن قاصرة، وتشكل قيوداً في كثير من الأحيان على العمل الصحافي والحريات الإعلامية، ولفت إلى أنّ السلطات في قطاع غزة والضفة الغربية غالباً ما تستغل ذلك القصور لممارسة اعتداءات مختلفة على الصحافيين، من خلال تقديم ادعاءات تشير إلى أنّهم مارسوا أفعالاً مضادة للقانون.



استنفار الإعلام المرئي اللبناني على مدى 24 ساعة يُحدث الفرق

إدمون ساسين (إنستغرام)
إدمون ساسين (إنستغرام)
TT

استنفار الإعلام المرئي اللبناني على مدى 24 ساعة يُحدث الفرق

إدمون ساسين (إنستغرام)
إدمون ساسين (إنستغرام)

تلعب وسائل الإعلام المرئية المحلية دورها في تغطية الحرب الدائرة اليوم على لبنان.

نوع من «التجنيد الإجباري» فرضته هذه الحالة على المحطات التلفزيونية وموظفيها ومراسليها، فغالبيتهم يمضون نحو 20 ساعة من يومهم في ممارسة مهامهم. وبعضهم يَصِلون ليلهم بنهارهم في نقل مباشر وموضوعي، وآخرون يضعون دمهم على كفّ يدهم وهم يتنقلون بين مناطق وطرقات تتعرّض للقصف. أما رؤساء التحرير ومقدِّمو البرامج الحوارية اليومية، فهم عندما يحوزون على ساعات راحة قليلة، أو يوم إجازة، فإنهم يشعرون كما السمك خارج المياه. ومن باب مواقعهم ومسؤولياتهم الإعلامية، تراهم يفضلون البقاء في قلب الحرب، وفي مراكز عملهم؛ كي يرووا عطشهم وشهيّتهم للقيام بمهامهم.

المشهدية الإعلامية برمّتها اختلفت هذه عن سابقاتها. فهي محفوفة بالمخاطر ومليئة بالصدمات والمفاجآت من أحداث سياسية وميدانية، وبالتالي، تحقن العاملين تلقائياً بما يشبه بهرمون «الأدرينالين». فكيف تماهت تلك المحطات مع الحدث الأبرز اليوم في الشرق الأوسط؟

الدكتورة سهير هاشم (إنستغرام)

لم نتفاجأ بالحرب

يصف وليد عبود، رئيس تحرير الأخبار في تلفزيون «إم تي في» المحلي، لـ«الشرق الأوسط»، حالة الإعلام اللبناني اليوم بـ«الاستثنائية». ويضيف: «إنها كذلك لأننا في لبنان وليس عندنا محطات إخبارية. وهي، بالتالي، غير مهيأة بالمطلق للانخراط ببث مباشر يستغرق ما بين 18 و20 ساعة في اليوم. بيد أن خبراتنا المتراكمة في المجال الإعلامي أسهمت في تكيّفنا مع الحدث. وما شهدناه في حراك 17 أكتوبر (تشرين الأول) الشعبي، وفي انفجار مرفأ بيروت، يندرج تحت (الاستنفار الإعلامي) ذاته الذي نعيشه اليوم».

هذا «المراس» - كما يسميه عبود - «زوّد الفريق الإخباري بالخبرة، فدخل المواكبة الإعلامية للحرب براحة أكبر، وصار يعرف الأدوات اللازمة لهذا النوع من المراحل». وتابع: «لم نتفاجأ باندلاع الحرب بعد 11 شهراً من المناوشات والقتال في جنوب لبنان، ضمن ما عرف بحرب المساندة. لقد توقعنا توسعها كما غيرنا من محللين سياسيين. ومن كان يتابع إعلام إسرائيل لا بد أن يستشفّ منه هذا الأمر».

جورج صليبي (إنستغرام)

المشهد سوريالي

«يختلف تماماً مشهد الحرب الدائرة في لبنان اليوم عن سابقاته». بهذه الكلمات استهل الإعلامي جورج صليبي، مقدّم البرامج السياسية ونشرات الأخبار في محطة «الجديد» كلامه لـ«الشرق الأوسط». وأردف من ثم: «ما نشهده اليوم يشبه ما يحصل في الأفلام العلمية. كنا عندما نشاهدها في الصالات السينمائية نقول إنها نوع من الخيال، ولا يمكنها أن تتحقق. الحقيقة أن المشهد سوريالي بامتياز حتى إننا لم نستوعب بسرعة ما يحصل على الأرض... انفجارات متتالية وعمليات اغتيال ودمار شامل... أحداث متسارعة تفوق التصور، وجميعها وضعتنا للحظات بحالة صدمة. ومن هناك انطلقنا بمشوار إعلامي مرهق وصعب».

وليد عبود (إنستغرام)

المحطات وضغوط تنظيم المهام

وبالفعل، منذ توسع الحرب الحالية، يتابع اللبنانيون أخبارها أولاً بأول عبر محطات التلفزيون... فيتسمّرون أمام الشاشة الصغيرة، يقلّبون بين القنوات للتزوّد بكل جديد.

وصحيحٌ أن غالبية اللبنانيين يفضّلون محطة على أخرى، لكن هذه القناعة عندهم تتبدّل في ظروف الحرب. وهذا الأمر ولّد تنافساً بين تلك المحطات؛ كي تحقق أكبر نسبة متابعة، فراحت تستضيف محللين سياسيين ورؤساء أحزاب وإعلاميين وغيرهم؛ كي تخرج بأفكار عن آرائهم حول هذه الحرب والنتيجة التي يتوقعونها منها. وفي الوقت نفسه، وضعت المحطات جميع إمكاناتها بمراسلين يتابعون المستجدات على مدار الساعات، فيُطلعون المشاهد على آخر الأخبار؛ من خرق الطيران الحربي المعادي جدار الصوت، إلى الانفجارات وجرائم الاغتيال لحظة بلحظة. وفي المقابل، يُمسك المتفرجون بالـ«ريموت كونترول»، وكأنه سلاحهم الوحيد في هذه المعركة التنافسية، ويتوقفون عند خبر عاجل أو صورة ومقطع فيديو تمرره محطة تلفزيونية قبل غيرها.

كثيرون تساءلوا: كيف استطاعت تلك المحطات تأمين هذا الكمّ من المراسلين على جميع الأراضي اللبنانية بين ليلة وضحاها؟

يقول وليد عبود: «هؤلاء المراسلون لطالما أطلوا عبر الشاشة في الأزمنة العادية. ولكن المشاهد عادة لا يعيرهم الاهتمام الكبير. ولكن في زمن الحرب تبدّلت هذه المعادلة وتكرار إطلالاتهم وضعهم أكثر أمام الضوء».

ولكن، ما المبدأ العام الذي تُلزم به المحطات مراسليها؟ هنا يوضح عبود في سياق حديثه أن «سلامة المراسل والمصور تبقى المبدأ الأساسي في هذه المعادلة. نحن نوصيهم بضرورة تقديم سلامتهم على أي أمر آخر، كما أن جميعهم خضعوا لتدريبات وتوجيهات وتعليمات في هذا الشأن... وينبغي عليهم الالتزام بها».

من ناحيته، يشير صليبي إلى أن المراسلين يبذلون الجهد الأكبر في هذه الحرب. ويوضح: «عملهم مرهق ومتعب ومحفوف بالمخاطر. لذلك نخاف على سلامتهم بشكل كبير».

محمد فرحات (إنستغرام)

«إنها مرحلة التحديات»

وبمناسبة الكلام عن المراسلين، يُعد إدمون ساسين، مراسل قناة «إل بي سي آي»، من الأقدم والأشهر في هذه المحطة. وهو لا يتوانى عن التنقل خلال يوم واحد بين جنوب لبنان وشماله. ويصف مهمّته خلال المرحلة الراهنة بـ«الأكثر خطراً». ويشرح من ثم قائلاً: «لم تعُد هناك خطوط حمراء أو نقاط قتال محددة في هذه الحرب. لذا تحمل مهمتنا التحدّي بشكل عام. وهي محفوفة بخطر كبير، لا سيما أن العدو الإسرائيلي لا يفرّق بين طريق ومبنى ومركز حزب وغيره، ويمكنه بين لحظة وأخرى أن يختار أهدافه ويفاجئ الجميع... وهذا ما وضع الفرق الصحافية في خطر دائم، ونحن علينا بالتالي تأمين المعلومة من قلب الحدث بدقة».

وفق ساسين، فإن أصعب المعلومات هي تلك المتعلقة بالتوغّل البرّي للجيش الإسرائيلي، «فحينها لا يمكن للمراسل معرفة ما يجري بشكل سليم وصحيح على الأرض... ولذا نتّكل أحياناً على مصادر لبنانية من جهة (حزب الله)، و(اليونيفيل) (القوات الدولية العاملة بجنوب لبنان) والجيش اللبناني والدفاع المدني، أو أشخاص عاشوا اللحظة. ومع هذا، يبقى نقل الخبر الدقيق مهمة صعبة جداً. ويشمل ما أقوله أخبار الكمائن والأسر، بينما نحن في المقابل نفتقر إلى القدرة على معرفة هذه الأخبار، ولذا نتوخى الحذر بنقلها».

«لبنان يستأهل التضحية»

في هذه الأثناء، يتكلم مراسل تلفزيون «الجديد» محمد فرحات «بصلابة»، عندما يُسأل عن مهمّته الخطرة اليوم.

محمد كان من بين الفريق الإعلامي الذي تعرّض لقصف مباشر في مركز إقامته في بلدة حاصبيا، وخسر يومذاك زملاء له ولامس الموت عن قرب لولا العناية الإلهية، كما يقول. ويتابع: «لقد أُصبت بحالة إنكار للمخاطر التي أتعرّض لها. في تلك اللحظة عشت كابوساً لم أستوعبه في البداية. وعندما فتحت عيني سألت نفسي لبرهة: أين أنا؟»، ويضيف فرحات: «تجربتي الإعلامية ككل في هذه الحرب كانت مفيدة جداً لي على الصعيدين: الشخصي والمهني. من الصعب أن أُشفى من جروح هذه الحرب، ولكني لم أستسلم أو أفكر يوماً بمغادرة الساحة. فلبنان يستأهل منا التضحية».

العلاج النفسي الجماعي ضرورة

أخيراً، في هذه الحرب لا إجازات ولا أيام عطل وراحة. كل الإعلاميين في مراكز عملهم بحالة استنفار. ولكن ماذا بعد انتهاء الحرب؟ وهل سيحملون منها جراحاً لا تُشفى؟

تردّ الاختصاصية النفسية الدكتورة سهير هاشم بالقول: «الإعلاميون يتعرضون لضغوط جمّة، وفي الطليعة منهم المراسلون. هؤلاء قد لا يستطيعون اليوم كشف تأثيرها السلبي على صحتهم النفسية، ولكن عند انتهاء الحرب قد يكون الأمر فادحاً. وهو ما يستوجب الدعم والمساندة بصورة مستمرة من مالكي المحطات التي يعملون بها». وأضافت الدكتورة هاشم: «ثمة ضرورة لإخضاعهم لجلسات علاج نفسية، والأفضل أن تكون جماعية؛ لأن العلاج الموسمي غير كافٍ في حالات مماثلة، خلالها يستطيعون أن يساندوا ويتفهموا بعضهم البعض بشكل أفضل».