النظام البيئي العالمي... ينبوع ينضب من عناصر باهظة الثمن

مجموع قيمة خدمات الطبيعة للأرض يفوق 140 تريليون دولار

النظام البيئي العالمي... ينبوع ينضب من عناصر باهظة الثمن
TT

النظام البيئي العالمي... ينبوع ينضب من عناصر باهظة الثمن

النظام البيئي العالمي... ينبوع ينضب من عناصر باهظة الثمن

إذا كنتم من المهتمين بالقضاء على التغير المناخي، فهذا يعني أن الوقت قد حان لتخرجوا محفظتكم وتتوجهوا إلى الشاطئ للعثور على أقرب حوت... وتحرير صك له بقيمة مليوني دولار! وهذا أقل ما يمكن أن تفعلوه.

ثمن الحوت
تقوم الحيتان بالكثير من أعمال التنظيف المجانية التي تخلصنا من الفوضى الكربونية، إذ إنها تراكم أطناناً من الكربون في أجسادها الضخمة خلال نموها (ما يعادل استهلاك ألف شجرة وأكثر)، وتأخذها معها إلى قعر المحيط عند موتها، فتزيلها بشكل كامل ونهائي من الجو. وقد وجد الباحثون أيضاً أن براز الحيتان يشكل مأدبة للعوالق النباتية التي تتواجد على مقربة من سطح المحيط، مما يعني أنها تساهم بدورها بامتصاص ثاني أكسيد الكربون من الهواء بكميات موازية لما تمتصه عدة غابات مجتمعة وتحبسها في الأعماق.
في ديسمبر (كانون الأول) الفائت، عمدت مجموعة من اقتصاديي صندوق النقد الدولي إلى احتساب البدل المالي المقدر لهذه الخدمة بناء على سعر ثاني أكسيد الكربون في السوق (بالإضافة إلى سعره في صناعات أخرى تدعمها الحيتان كالسياحة والصيد)، ووجدوا أنه يصل إلى مليوني دولار للحوت الواحد (في حياته)، وإلى تريليون دولار لحيتان العالم مجتمعة.
يُعرف هذا النوع من العلوم المتداخلة الاختصاصات - تحويل الخدمات التي تقدمها مختلف أنواع الكائنات الحية والمنظومات البيئية (الأهوار، والشعاب المرجانية، والغابات، وغيرها) إلى دولارات وجنيهات من الكربون وغيرها من الأرقام الصعبة - باسم «اقتصادات رأس المال الطبيعي». ولا يقتصر هذا الأمر على الكربون فحسب، حيث إن اقتصاديي رأس المال الطبيعي يقيسون أيضاً قيمة «خدمات المنظومات البيئية الأخرى» كإنتاج الغذاء، وتخزين المياه، وتلقيح الزهور، وتنظيف الهواء من السموم، والتربة، والمياه، وحتى الحماية من التآكل والفيضانات.

خدمات الطبيعة
تتراكم هذه القيم لتسجل أرقاماً خيالية حقاً. فقد أوردت ورقة بحثية مؤثرة أعدها عام 2014 الاقتصادي الأسترالي روبرت كوستانزا أن مجموع قيمة هذه الخدمات يفوق 140 تريليون دولار أميركي. وفيما يلي، سنضيئ على أبرز التفاصيل التي وردت في هذه الورقة:
منذ ظهور مصطلح «رأس المال الطبيعي» عام 1973 على يد الاقتصادي الألماني إيرنست فريتز شوماخر، تحول هذا المجال إلى أداة مهمة للناشطين البيئيين تساعدهم في إقناع القادة السياسيين ورواد الأعمال بالاستثمار في حماية البيئة. وورد في تقييم أعدته الأمم المتحدة عام 2017. أن أكثر من 50 دولة معظمها في أوروبا وجنوب أميركا (الولايات المتحدة ليست واحدة منها)، تُشرك اليوم اقتصادات رأس المال الطبيعي في القرارات التي تتخذها بشأن سياساتها البيئية.
وحديثاً، حاز اثنان من الباحثين الذين يقودون مجال اقتصادات رأس المال الطبيعي على جائزة تايلور للإنجاز البيئي، التي تعتبر الوسام الأعلى في مجال البحث البيئي وتُعرف بـ«جائزة نوبل للبيئة». وإلى جانب الجائزة، يحصل كل فائز على منحة مالية بقيمة 100 ألف دولار. ومن أبرز الأسماء التي حازت على هذه الجائزة في السنوات السابقة نذكرُ عالم الأحياء إدوارد أوسبورن ويلسون، والباحثة المتخصصة في قردة الشمبانزي جين جودال، والكاتب وعالم الأحياء جارد دايموند، وعالم المناخ في جامعة ولاية بنسلفانيا ميخائيل مان الذي تحول رسمه البياني الذي يظهر ارتفاع الحرارة العالمية والمعروف بـ«عصا الهوكي» إلى «الرسم البياني الأكثر جدلاً في عالم العلوم». أما الأسماء الفائزة لهذا العام فتضم غريتشن ديلي، مديرة مركز حفظ الأحياء في جامعة ستانفورد، وبافان سوخداي، خبير اقتصادي ورئيس الصندوق العالمي للطبيعة. وكان سوخداي الباحث الرئيسي لتقرير أعدته الأمم المتحدة عام 2008. وجد أن العالم كان يخسر ما يقارب أربعة تريليونات دولار من رأسماله الطبيعي سنوياً نتيجة قطع الأشجار، وتلوث المحيطات، وغيرها من النشاطات الضارة بالبيئة. أما دايلي، ففي رصيدها العديد من الكتب التي تحدثت عن رأس المال الطبيعي، إلى جانب تأسيسها مشروع رأس المال الطبيعي التابع لجمعة ستانفورد، الذي قدم أبحاثاً حول قيمة الثروات الطبيعية من كينيا إلى كوستاريكا ونيبال.
رأس المال الطبيعي
ترى هيذر تاليس، أحد أبرز علماء منظمة الحفاظ على الطبيعة والتي جمعها بدايلي تعاون علمي وثيق، في رأس المال الطبيعي «مفهوماً ثورياً حقيقياً» وتقول إنه «حول نمط التفكير القائم حول الحفاظ على الطبيعة من شيء غير مدرج في اقتصادنا إلى عنصر أساسي في الاقتصاد».
تساعد هذه الأنواع من الحسابات أيضاً الشركات في تحديد كيف يمكن للتغير المناخي، والتلوث، وغيرها من التأثيرات المناخية أن تؤثر على النتيجة النهائية لأعمالها.
ففي عام 2018 مثلاً، استخدمت الحكومة المكسيكية والشركات المحلية العاملة في صناعة السياحة الشاطئية اقتصادات رأس المال الطبيعي في إطلاق برنامج تأمين لحماية الشعاب المرجانية المعروفة بإمكاناتها الكبيرة في جذب السياح وحماية الشواطئ والفنادق، والطرقات، وغيرها من البنى التحتية الأساسية من الأعاصير. يهدف هذا البرنامج إلى السماح للحكومة بالمشاركة في دفع تكاليف هذه الحماية، من خلال تقديمها التعويضات للشركات المحلية عند تضرر الشعاب المرجانية جراء الأعاصير أو أي أضرار أخرى. في الوقت الحالي، يركز اقتصاديو رأس المال الطبيعي جهودهم على مبادرات حفظ الثروة المائية المدعومة من الشركات والوكالات التي تعتمد على المياه النظيفة في عملها كالمصانع الكهربائية، ومصانع صناعة البيرة، والنظام المائي لمدينة نيويورك.
شبهت تاليس هذا الأمر «بشراء علاج شافٍ بدل الإنفاق المتواصل على شراء ضمادات للجروح». ولفتت تاليس إلى إمكانية الربط بين الفكرة وبين الرسالة الأخيرة التي أعدها لاري فينك، الرئيس التنفيذي لـ«بلاك روك»، واحدة من أكبر شركات العالم المتخصصة في إدارة الثروات. وحذر فينك في رسالته من أن «الأدلة المقدمة على المخاطر المناخية تُجبر المستثمرين على إعادة تقييم الفرضيات الأساسية حول التمويل العصري».

موازنة البيئة
ولكن هذا المجال لا يخلو من الخلافات، حيث إن باحثين وخبراء بيئيين بارزين يؤكدون أن رأس المال الطبيعي اختزالي بشكل خطير، معتبرين أن تسعير الحيتان والأراضي الرطبة (الأهوار) يشوه القيمة الحقيقية للطبيعة ويشتت الاهتمام عنها. كما أن هذا الأمر قد يؤدي إلى نتائج عكسية في الحالات التي يكون فيها المشهد الطبيعي أو الكائن الحي ذا قيمة اقتصادية متواضعة، أو حتى يتميز بأسلوب حياة معاكس للمصالح البشرية، كالأراضي الرطبة مثلاً التي يمكن أن تساهم في نشر الأمراض المعدية، أو بعض الحيوانات المتوحشة التي تقتل البشر أو تدمر الممتلكات.
من جهته، يرى أدريان فوغل، عالم رئيسي في مشروع رأس المال الطبيعي، أن علماء رأس المال الطبيعي يظهرون اهتماماً متزايداً بتجاوز الأرقام الدولارية إلى مقاييس ملموسة أكثر، كأعداد الحيوات التي يساهم الهواء والمياه النظيفان في إنقاذها، أو توقع التأثيرات التي قد تطول المحاصيل جراء التلوث والتغير المناخي. ويعتبر فوغل أن الخطوة التالية تتمثل في مساعدة عدد أكبر من الحكومات والشركات التي تستخدم أفكار رأس المال الطبيعي في الموازنة بين النمو الاقتصادي وحفظ البيئة. وأخيراً، يختم الباحث في مشروع رأس المال الطبيعي بأن «تسعير كل شيء بالدولار ليس الجواب النهائي. نحن بحاجة إلى الذهاب أبعد من تحديد الكمية والفهرسة إلى دمج هذه القيم في سياسات فعالة».
- «كوارتز»، خدمات «تريبيون ميديا».



«إعادة التحريج»... عوائد إيجابية للمجتمعات الأفريقية

دراسة تؤكد زيادة النشاط الاقتصادي في المناطق القريبة من مزارع الأشجار بأفريقيا (رويترز)
دراسة تؤكد زيادة النشاط الاقتصادي في المناطق القريبة من مزارع الأشجار بأفريقيا (رويترز)
TT

«إعادة التحريج»... عوائد إيجابية للمجتمعات الأفريقية

دراسة تؤكد زيادة النشاط الاقتصادي في المناطق القريبة من مزارع الأشجار بأفريقيا (رويترز)
دراسة تؤكد زيادة النشاط الاقتصادي في المناطق القريبة من مزارع الأشجار بأفريقيا (رويترز)

شهدت السنوات الأخيرة تصاعداً ملحوظاً في الاهتمام بمبادرات «إعادة التحريج» بصفتها استراتيجية فعّالة لمواجهة آثار تغيّر المناخ وتحسين سبل معيشة السكان المحليين.

«إعادة التحريج»

تعني «إعادة التحريج»، وفق الأمم المتحدة، استعادة الأراضي التي كانت مغطاة بالغابات من خلال زراعة أشجار جديدة لتعويض الغطاء الحرجي المفقود، بخلاف التشجير الذي يركّز على زراعة أشجار في مناطق لم تكن غابات أصلاً.

وتهدف هذه العملية إلى معالجة تحديات بيئية كبيرة، مثل: التغير المناخي وتآكل التربة، كما تعزّز التنوع البيولوجي، فضلاً عن فوائدها البيئية، مثل تحسين جودة الهواء. وتُسهم «إعادة التحريج» في خلق فرص عمل وتحسين الأمن الغذائي.

ومن أبرز هذه المبادرات «تحدي بون» (Bonn Challenge)، الذي أُطلق عام 2011 بوصفه حملة عالمية، تهدف إلى إعادة تأهيل 350 مليون هكتار من الأراضي المتدهورة والغابات بحلول عام 2030.

وتشمل هذه المبادرة أساليب متعددة؛ مثل: الزراعة المكثفة لتكوين غابات جديدة لأغراض بيئية أو إنتاجية، والزراعة المختلطة التي تدمج الأشجار مع المحاصيل، أو تربية الحيوانات لزيادة الإنتاجية، بالإضافة إلى التجدد الطبيعي حيث تترك الطبيعة لاستعادة الغابات ذاتياً دون تدخل بشري.

وفي دراسة أُجريت من قِبل فريق بحث دولي من الدنمارك وكندا والولايات المتحدة، تم تحليل تأثير «إعادة التحريج» في تحسين مستويات المعيشة لدى 18 دولة أفريقية، ونُشرت النتائج في عدد 20 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، من دورية «Communications Earth & Environment».

واعتمدت الدراسة على بيانات أكثر من 200 ألف أسرة بين عامي 2000 و2015. واستخدم الباحثون أساليب إحصائية دقيقة لتحديد العلاقة الإيجابية بين إعادة التحريج وتحسّن مستويات المعيشة.

واستندوا إلى مؤشرات متنوعة لقياس الفقر تشمل التعليم والصحة ومستويات المعيشة؛ حيث أظهرت النتائج أن زراعة الأشجار أسهمت بشكل مباشر في تحسين الدخل وتوفير فرص عمل، بالإضافة إلى آثار اقتصادية غير مباشرة. كما أظهرت أن مناطق زراعة الأشجار كان لها تأثير أكبر من مناطق استعادة الغابات الطبيعية في تخفيف حدة الفقر.

يقول الباحث الرئيس للدراسة في قسم علوم الأرض وإدارة الموارد الطبيعية بجامعة كوبنهاغن، الدكتور باوي دن برابر، إن الدراسة تطرح ثلاث آليات رئيسة قد تُسهم في تقليص الفقر، نتيجة لتوسع مزارع الأشجار أو استعادة الغابات.

وأضاف، في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، أن الآليات تتمثّل في توفير الدخل من خلال بيع منتجات الغابات، مثل: المطاط أو زيت النخيل، ما يسمح للأسرة بزيادة مواردها المادية. كما أن زراعة الأشجار قد تؤدي إلى خلق فرص عمل للسكان المحليين، في حين يمكن أن تُسهم مناطق التجديد البيئي في تحسين الظروف البيئية، ما يفيد الأسر المحلية من خلال النباتات والحيوانات التي يمكن بيعها وتوفير دخل إضافي للسكان.

ووفقاً لنتائج الدراسة، هناك مؤشرات من بعض البلدان؛ مثل: أوغندا، وبنين، أظهرت زيادة في النشاط الاقتصادي في المناطق القريبة من مزارع الأشجار مقارنة بتلك التي لا تحتوي عليها.

تأثيرات الاستدامة

كما أشارت الدراسة إلى أن برامج التشجير في أفريقيا التي تهدف إلى استعادة أكثر من 120 مليون هكتار من الأراضي عبر مبادرات، مثل: «السور الأخضر العظيم»، و«الأجندة الأفريقية لاستعادة النظم البيئية»، تمثّل جهداً كبيراً لمكافحة الفقر وتدهور البيئة.

وتُسهم نتائج الدراسة، وفق برابر، في النقاش المستمر حول استدامة تأثيرات زراعة الأشجار في التنوع البيولوجي والمجتمعات المحلية، من خلال تسليط الضوء على الفوائد المحتملة لهذه المبادرات عندما يتمّ تنفيذها بشكل مدروس ومتوازن. كما أظهرت أن مبادرات زراعة الأشجار، مثل «تحدي بون»، يمكن أن تؤدي إلى نتائج إيجابية للمجتمعات المحلية، سواء من حيث تحسين مستوى المعيشة أو تعزيز التنوع البيولوجي.

وتوصي الدراسة بأهمية مشاركة المجتمعات المحلية في هذه المبادرات بصفتها شرطاً أساسياً لضمان استدامتها ونجاحها، فالتفاعل المباشر للمجتمعات مع المشروعات البيئية يزيد من تقبلها وفاعليتها، مما يعزّز فرص نجاحها على المدى الطويل.