اليهود في الروايات السعودية (2 - 2): روائيون سعوديون: نستغرب من التوظيف السياسي لرواياتنا

اليهود في الروايات السعودية (2 - 2):  روائيون سعوديون: نستغرب من التوظيف السياسي لرواياتنا
TT

اليهود في الروايات السعودية (2 - 2): روائيون سعوديون: نستغرب من التوظيف السياسي لرواياتنا

اليهود في الروايات السعودية (2 - 2):  روائيون سعوديون: نستغرب من التوظيف السياسي لرواياتنا

نشرنا يوم أمس، الحلقة الأولى من تحقيق «اليهود في الرواية السعودية»، الذي استعرضنا فيه مضامين 5 روايات تناولت شخصيات يهودية، ومن خلالها قضايا إنسانية عامة كالهوية والصراع القومي، أو قضايا المرأة وذكورية المجتمع. ولكون هذه الأعمال صدرت في أوقات متقاربة، فقد أثارت كثيراً من الأسئلة... رغم أن مؤلفيها الذين تحدثنا معهم يستغربون من التوظيف السياسي لرواياتهم. وفي هذه الحلقة، ننشر 3 حوارات مع علي الأمير مؤلف رواية «قاع اليهود»، ورجاء بندر مؤلفة «غربة يهودية»، وسالمة الموشي مؤلفة «يهودية مخلصة»...

علي الأمير: «حي اليهود» مجرد حامل لعمل روائي
في البدء يتحدث الروائي والناقد علي الأمير، مؤلف رواية «قاع اليهود»، قائلاً: «روايتي ليست خالصة لليهود، ولكن بسبب (قاع اليهود/ اسم حي في صنعاء) الذي أعرفه جيّداً من خلال عملي لسنوات في صنعاء، احتجت للحديث عن اليهود، عبر إحدى شخصيات الرواية. بذلتُ كثيراً من الجهد في العودة للكتب التاريخية، والمقالات في الصحف اليمنية القديمة، لجمع الحقائق التاريخيّة والوقائع الثابتة، رغم أنّ الجانب التاريخي لا يشكل سوى أقل من 10 في المائة من الرواية. كما لا أنكر استفادتي من مراجعتي اللغوية لرواية (اليهودي الحالي) للروائي اليمني علي المقري، الذي كان قد طلب مني مراجعتها قبل طباعتها، وبالطبع موضوع روايتي مختلف تماماً عن روايته».
يضيف رداً على سؤال عن الجديد في هذه الرواية: «كنتُ أفضل أن أترك الحديث عنه للنقاد أو القراء، لكن ربما تجده في كشف حقيقة الحرب على الإرهاب في اليمن، وربما في مظلوميّة يهود اليمن».
يفند علي الأمير الاتهام بأن روايته هذه تسوّق لثقافة التطبيع بقوله: «كل ما أستطيع تأكيده لك، أنّ تلك الإسقاطات التي تدور في أذهان البعض، حول الدعوة للتطبيع بسبب ذكر اليهود، هي محض افتراء، وتربّص واضح بنا كسعوديين. أتفق معك في كون مفردة يهودي مثقلة بحمولاتها التاريخيّة، ولافتة للنظر، لذلك قد يعمد كاتبٌ ما إلى استثمارها دعائيّاً كعنوان، وهذا من حقه، بالنسبة لي حي (قاع اليهود)، لم يكن يعني لي أكثر من حامل لعمل روائي، وليس في روايتي شيء من أوهام التطبيع».

رجاء بندر: التطبيع مجرد دعايات
حققت رواية «غربة يهودية» لرجاء بندر، التي صدرت بداية العام الحالي، أرقاماً عالية في حجم المبيعات، وتداولتها الأيدي بسرعة كبيرة، وحظيت بتقدير واضح كونها أول إنتاج أدبي مطبوع لصاحبتها، الشابة رجاء بندر، وجاءت بلغة سردية رصينة وتقنية روائية لافتة، ومؤلفتها كعلي الأمير من منطقة جازان جنوب السعودية.
تتحدث رجاء بندر لنا عن بدايتها الأدبية قائلة: «بدأت أكتب قصصاً قصيرة خيالية، تقرأها الصديقات، ثم كتبت رواية خيالية بحتة لجنس مختلف، يعيش في عالم آخر، وقد أثّرت هذه الرواية فيمن قرأها ممن حولي، فدفعتني الحماسة أن أجسّد في نصوصي شخصية العدو المحاط بألغام وخطوط حمراء فظهرت في روايتي (غربة يهودية) عبر شخصية عفراء».
وتتحدث رجاء بندر عن مراحل تشكل وعيّها بالموضوع اليهودي قائلة: «ترعرعت ونشأت في الفترة التي كان فيها الغضب العربي في ذروته، كنتُ أحفظ أغنية (وين الملايين)، وكانت صورة الطفل الفلسطيني محمد الدرة في أوائل الذكريات المرئية من مخيلتي، وكنتُ ألعب مع الأطفال من عائلتي ولنا جيران فلسطينيون، نمثل معاً مشهد طفل يجابه بالحجارة البندقية الإسرائيلية ويهزمها بحجر، وكان سقوط الطفل الذي يمثل الجانب الصهيوني في لعبتنا البريئة يُشعرنا بالنشوة والنصر الصغير، كأن أرواحنا تطير».
تجيب رجاء البندر عن سؤال: «أين تعرفت على المكون اليهودي في هذه المنطقة؟»، بقولها: «في الثانية عشرة أصبتُ بصدمة ثقافية، حيث إنني دخلتُ في نقاش حاد مع يهودي عربي من اليمن عبر وسائل التواصل، كانت صدمة بالنسبة لي، حين وجدتُ أنه يمكنه تكلم العربية بهذه الفصاحة ومعرفة التفاصيل الصغيرة عن البلاد العربية، كنتُ أحاول مجابهته كونه عدواً! ولكن بعدها اكتشفت أبعاداً أخرى للقضية التي كانت أحد خطوطي الحمراء، فاكتشفت أنني جاهلة تماماً بها ولم أعرف منها سوى العداوة المجردة من التفاصيل والأسباب، فقررت الغوص في عالم يهود الشرق، واكتشفت أنهم كانوا يعيشون بيننا».
عكفت رجاء بندر عامين للتعرف على قراءة العهد القديم، كما قرأت المقالات والكتب وشاهدت الأفلام الوثائقية، التي تناولت التجمعات اليهودية في اليمن، وتقول إنها حاولت كذلك التفتيش عنهم في كتب التاريخ العربي.
تنظر رجاء لروايتها بفخر، تقول: «(غربة يهودية) هي أولى درجات السلم، وهي عملي الأول، وأتمنى ألا يكون الأخير. والسرد عموماً يستهويني، وفي داخلي نَهَمٌ حكائي لم أروِ منه إلا النزر اليسير. والجديد أنني زرعت في نفوس الشباب المهتم بالرواية الفضول لقضية معينة، لأن الرواية التي لا تخلق في رأسك الأسئلة والبحث عن الأجوبة وتكون ذات أسلوب وموضوع اعتيادي وتقدم لك كل شيء في أوراقها وبين طياتها - تكون مملّة ورتيبة».
رجاء هي الأخرى لا تخشى الاتهام بالتطبيع لأنها كتبت رواية عن اليهود، تقول: «يخشى الإنسان من الأمور الحقيقية الموجودة، وليس الأشياء التي ليس لها وجود...! أنا لم أخشَ من تهمة التطبيع لأن هذه مجرد ادعاءات، فأنا كتبتُ نصاً أدبياً فقط...! لا يوجد فيه غير ما تقوله شخوصه».

فوزي صادق: روايتي تستقي من غرس التاريخ ولا علاقة لها بالسياسة
عاشت قبائل من اليهود في الجزيرة العربية، وخصوصاً في اليمن، ويثرب، وخيبر، وتيماء، ودومة الجندل، واليمامة، وحافظوا على وجود قليل لهم في اليمن، حتى 1948. وفي نجران حتى ثلاثينات القرن الماضي.
لكن وجودهم في الأحساء انقطع تقريباً بعد الإسلام، ثم عاد في القرن التاسع عشر مع المد العثماني. ويرجح المؤرخ الأحسائي الراحل جواد الرمضان أن تاريخ اليهود في الأحساء يرجع إلى عام 1871؛ حين أرسلت الدولة العثمانية حملة إلى المنطقة بقيادة «مدحت باشا» لبسط نفوذها على الساحل الشرقي من الجزيرة العربية، ممهدة لدخولها تحت لواء الدولة العثمانية.
ويرى الرمضان أن الدولة العثمانية أنشأت جهازاً لتسيير الأمور في المنطقة التي كانت ضمن «لواء البصرة» العثماني، واستقدمت أفراده من العراق، وبينهم يهود تركوا فيما بعد آثاراً تدل إلى وجودهم، منها بستان «داود اليهودي» في إحدى ضواحي مدينة الهفوف، وبستان حدارة، ومخزن تجاري، ومقبرة بالقرب من سوق القيصرية.
وقد نزح كثير من اليهود مع خروج العثمانيين، كما غادر بعضهم مع قيام الدولة السعودية، نحو العراق والبحرين. ولم يعد ثمة يهود في تلك المنطقة.
في روايته: «اللِّيدي تالين - الأحساء 1912» يقتفي فوزي صادق، أثر اليهود الذين كانوا يعيشون في الأحساء مطلع القرن العشرين، ولذلك فرواية «اللِّيدي تالين» الوحيدة من بين الروايات الأخيرة التي تنقِّب عن اليهود الذين كان يعيش بعضهم في الأحساء شرقي السعودية، وتدور أحداثها في كواليس حارة اليهود بالهفوف، في الأحساء، وهي أيضاً تروي قصة حب فتى من الأحساء يعمل نجاراً، لفتاة يهودية.
‏يقول فوزي صادق، مؤلف رواية «الليدي تالين»، إن روايته «جريئة... وستلقى إقبالاً كبيراً، وستخلق حراكاً في الرواية السعودية والخليجية، فهي دراما اجتماعية جديدة، بقالب تاريخي ومعلوماتي عن تاريخ وأرشيف الأحساء؛ أرض الحضارات والثقافات، وأحداث الرواية جرت قبل قرن من الزمان، في كواليس حارة اليهود، وتروي قصة عشق بين يهودية وشاب أحسائي».
وعن فكرة الرواية يقول: «أنا من مواليد الأحساء، وعشت طفولتي بالبحرين، وطالما سمعت عن وجود الجالية اليهودية بالبحرين، وأنهم قدموا من الأحساء بعد خروج العثمانيين، والفكرة موجودة؛ لكن لم أتجرأ على الكتابة عنهم؛ كون هذا العمل كان داخل (التابو) سابقاً في الرواية المحلية. وقد تعرَّفت على تاريخ اليهود، ووقفتُ على أطلال وجودهم في الأحساء، وبينها المقبرة التي خلفوها وراءهم، واطلعت من شخصيات أدبية ومؤرخين عن تاريخ الجالية اليهودية، وبعد البحث والتقصي عنهم لمدة ثلاث سنوات تقريباً، سمعت عن قصة عشق بين يهودية مهاجرة وشاب أحسائي، وأخبرتني بالقصة سيدة بحرينية كبيرة بالسن، فبدأت بفكرة كتابة الرواية».
ويختتم فوزي صادق بالقول إن هذا النوع من الكتابة «حسَّاس»؛ لكن هذه الرواية لا علاقة لها بالسياسة، فهي «رواية تاريخية، تستقي معلوماتها وأفكارها من غرس التاريخ الإنساني وحصاد المؤلف».

سالمة الموشي: روايتي جديدة في المضمون والطرح
> لماذا اليهود؟ بمعنى لماذا اخترتِ الكتابة عن اليهود تحديداً؟
- الكتابة في روايتي «يهوديَة مُخَلِصَة» تحمل خطاً فكرياً متفرداً يتناول الجانب التاريخي والإنساني والاجتماعي والنسوي ضمن سياق تاريخ اليهود، ويستطيع القارئ التواصل معها روحياً وتاريخياً بسلاسة، وحين تم اختياري للبيئة اليهودية، فإن شخوص الرواية سيكونون بالضرورة يهوداً؛ سواء كان في اختيار الأسماء اليهودية للشخصيات أو الفضاء المكاني للرواية. كما أشير إلى أن اليهود ليسوا طارئين على التاريخ أو على الجزيرة العربية فقد وجدوا قبل الإسلام، بل إن يهود اليمن من الأمم العريقة التي سكنت شبه الجزيرة العربية وذكروا في القرآن الكريم أكثر من مرة.
> كيف نشأت فكرة أن تكتبي رواية عن اليهود في جنوب الجزيرة العربية؟
- بدأت الفكرة بالكتابة عن رواية تحمل فكراً تفكيكياً لسياقات تاريخية معينة وتساؤلات، تحمل أبعاداً سياسية ودينية، فكان الفضاء المكاني هو البيئة اليهودية من خلال شخصية محورية لفتاة يهودية. نشأت الفكرة نتاج اللحظة التي أُلهمت فيها تجسيد حبكة سردية يمكن من خلالها تجسيد الأفكار والرؤى والمعاني العميقة التي أردت طرحها عن حضارة الإنسان يهودياً كان أم سعودياً أم يمنياً، حيث تتقاطع الرواية مع السياسي والفكري والموت والحياة والحب والفراق.
> أين تعرفتِ على المكون اليهودي في هذه المنطقة؟
- المكون اليهودي بكل معطياته التاريخية والأدبية والإنسانية حاضرٌ في قلب التاريخ وكوني دارسة متخصصة في التاريخ وباحثة شغوفة بالحضارات القديمة والأديان والأنثروبولوجيا والسيسيولوجيا التي تمس الإنسان بشكل عميق، كل هذا كان أشبه بقاعدة يمكنني الكتابة من خلالها للحد الذي كنت فعلياً أتقمص الحياة اليهودية في أدق تفاصيلها، بالإضافة إلى كوني جنوبية الأصول ولدي تماس مع الجذور القديمة لتاريخ جنوب الجزيرة العربية القديم، وكانت علي قراءته والتعرف عليه بعمق.
> هل روايتك هذه أقرب إلى الرواية التاريخية؟ ما نسبة الخيال والتاريخ في هذه الرواية؟
- الرواية «يَهودِيّة مُخَلّصة» ليست خيالية بالقدر الذي يعتقده القارئ، بل هي قريبة جداً من واقع ما، لحياة أشخاص حقيقيين تم تجسيد حكايتهم عبر الرواية ونسبة الخيال تكاد تكون لا شيء، ونسبة التاريخ عالية جداً، بحيث إنها تضمنت كثيراً من الحقائق عن اليهود في مراحل تاريخية مختلفة وعن المرأة وعن التساؤلات الوجودية، هناك مزيج واقعي من السياسي والتاريخي والفكري.
> ما الجديد في روايتك؟
- أؤكد للقارئ أنها رواية جديدة كلياً في المضمون والسياق والطرح ومعنى الخلاص الذي لم يُطرح تاريخياً إلا من خلال إسقاطه على الرجل أكان نبياً أو من الصالحين، في «يَهودِيّة مُخَلّصة» كانت المرأة هي من يقوم بدور البطولة، دور الباحث عن الخلاص، والمُخلص، والقائمة على خلق المعنى والمحكي.
> الرواية تدور في بيئة تشهد حضوراً يهودياً، من حيث التاريخ واللغة والأشخاص والأحداث، هذه البيئة لا وجود لها فعلياً اليوم، من أين أتيت بهذا الفضاء اليهودي الذي تدور فيه الرواية؟
- نعم الرواية تدور في بيئة يهودية تماماً مع فلاش - باك للحياة في قلب الرياض، وهنا يكمن التحدي في السرد الروائي، وحين تسأل: من أين أتيت بهذا الفضاء اليهودي؟ فإن الإجابة ببساطة ستكون: من خلال القراءة، فهي بالنسبة لي معطى أدبي ينقلك إلى عوالم موازية حقيقية.
> هناك من يرى أن اختيار الموضوع اليهودي هو معبر للشهرة ليس إلا، هل دار في بالك هذا الأمر؟
- من يعرفني عن قرب يعلم أني لست باحثة عن الجدل والشهرة ولو أردتُ هذا لفعلتُ، إنما أجد في قلمي وفكري رسالة، وصاحب الرسالة ليس صاحب شهرة وجدل، نعم الجدل والشهرة والضجيج قد تصنع تسويقاً كمياً للمنتج الأدبي وللكاتب وتوفر له حضوراً شكلياً في كل القنوات والمنصات الإعلامية، بل وتجعل الكاتب يقع في فخ وخديعة الشهرة الخادعة، إذ ما يلبث الضجيج أن ينتهي ويبقى المعنى. ولنا في التاريخ الأدبي خير مثال، الذي بقي هو الأدب الحقيقي أما القشور فسقطت في النسيان.



أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.