«الشرق الأوسط» في مهرجان برلين السينمائي (1): افتتاح مهرجان برلين بفيلم عن امرأة تنشد حرية القرار

مرغريت كوايلي في «سنتي السالنجيرية»
مرغريت كوايلي في «سنتي السالنجيرية»
TT

«الشرق الأوسط» في مهرجان برلين السينمائي (1): افتتاح مهرجان برلين بفيلم عن امرأة تنشد حرية القرار

مرغريت كوايلي في «سنتي السالنجيرية»
مرغريت كوايلي في «سنتي السالنجيرية»

بدأ مهرجان برلين دورته هذا العام بدقيقة وقوف حداداً على أرواح من سقطوا في الحادثتين اللتين روّعتا مدينة هاناو الألمانية. وبذلك يظهر المهرجان موقفه غير الحيادي حول الحادثة العنيفة التي وُجهت ضد المهاجرين، حسبما صرّحت المصادر الرسمية الألمانية ذاتها.
مرتكبا الحادثة لم يضعا في بالهما مهرجان برلين، لكن المسؤولين مدركين أن الظروف العصيبة التي يمر بها العالم اليوم نتيجة الحروب التي سادت العراق وسوريا، وما تزال، قد تفجّر مواقف من هذا النوع.
ورغم ذلك، لا تلحظ تعزيزات أمنية غير معتادة: لا ترى قوى أمنية، من البوليس ومن الدرك وأجهزة أمنية أخرى، تتمشى في طول وعرض شوارع المهرجان، كما الحال في «كان» على سبيل المثال. بعض الموجودين هنا يعتبرون أن هذا دليل أمان مطلق، وبعض آخر يداهمه الشعور ببعض التوتر. وهذا البعض الأخير هو ذاته الذي استغرب عدم مشاهدة كمامات وقائية منتشرة بين الحاضرين في العروض الأولى للأفلام حتى الساعة، كما لو أن وباء «كورونا» لا يعدو كونه أكثر من مؤثرات وخدع سينمائية تقع في فيلم معروض خارج المكان.
- مشاريع جديدة
الغالب هو أنه حالما يعقد مهرجان العزم على دفع مسيرة دورته الجديدة إلى الأمام، فإن الأكثر أهمية من أي حادث أو خطر هو إنجاح الدورة، بكل ما تحمله من آمال وطموحات وجهد تم بذله طوال الأشهر السابقة؛ كل أرجائه ومنصاته وأقسامه تعمل كما لو كانت مصانع عليها ألا تتوقف قبل أن تؤمن الحد الأقصى مما تنتجه. وأحد هذه الأقسام «سوق الفيلم» التي تعقد كل سنة تحت اسم «يوروبيان فيلم ماركت». هذا العام لا يختلف في مستوى الجهد المبذول لجذب رجال الصناعة، من منتجين وممولين وموزعين، وتشجيعهم على إجراء العقود وإبرام الاتفاقات. وحقيقة أن «سوق الفيلم» في «كان» العام الماضي لم تشغل بال كثيرين، ولم تنتج عنها صفقات بمئات ملايين الدولارات كما التوقعات، شجعت السوق البرلينية على تعزيز نشاطاتها، ودعوة كثير من طاقم الصناعة لحضورها. هذا باستثناء الشركات الصينية التي لديها ما لديها من مشكلات نظراً لانتشار وباء «كورونا».
تميّزت السوق هذا العام بأنها تحمل عنواناً كبيراً، هو البحث عن «الطفيليات». ‫فمنذ أن حظي «طفيلي» (Parasite( بأوسكاراته الأربع، وانطلق ليحقق أرقام بيع قياسية بالنسبة لفيلم كوري، والأعين مفتوحة على الفيلم الأجنبي الذي يمكن أن يعيد التجربة ذاتها هذا العام؛ التجربة التي مرّ بها فيلم بونغ دجون منذ عروضه في مهرجان «كان» السابق، والتي نتج عنها نجاحات كبيرة (نسبة للسينما غير الأميركية) في فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وأكثر من رقعة أخرى حول العالم.‬
- المسألة تجارية محضة
«طفيلي» أكد أن هناك جمهوراً كبيراً للفيلم الجيّد الذي قد يقطف الأوسكار بيد، ويلتقط مئات ملايين الدولارات باليد الأخرى. وصل الموزّعون باكراً هذا العام، وتم إبرام العقد الأول حتى من قبل أن تفتح السوق أبوابها. شركة «A24» اشترت فيلم المخرجة كلير دنيس المقبل «نجوم الظهر» (The Stars at Noon) الذي يقود بطولته روبرت باتنسون ومرغريت كوايلي.
أحد المستفيدين من هذا الزخم الجديد للبحث عن «طفيلي» آخر هو المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد الذي أبرم مع شركة «مومنتو» الفرنسية عقداً لإنتاج فيلمه المقبل «صالون هدى»، وهي الآن تسعى لمبيعات مبكرة، حتى من قبل أن يبدأ أبو أسعد التصوير.
سيكون هذا الفيلم هو الأول للمخرج الذي سبق له أن رُشح للأوسكار في قسم أفضل فيلم أجنبي مرتين: الأولى سنة 2006 عن فيلمه «الجنة الآن»، والثانية سنة 2013. وفي هذا الفيلم الجديد، سيعاود التصوير في فلسطين المحتلة، مع منال عوض في دور امرأة تدير شبكة تجسس في صالونها، وعندما يتم اكتشاف أمرها تضطر للهرب.
مثل هذه المواضيع الشائكة تسعد المنتجين والموزعين الباحثين عن بلورة الأفلام إلى نجاحات بناء على تلك الأزمات والصراعات التي لا تزال قائمة؛ إنها عنصر اهتمام للباحثين عن أفلام تطرح مشكلات واقعية، و«صالون هدى» يبدو أحدها، فهو استلهام لقصة حقيقية (وقعت أحداثها في بيت لحم)، وبطلتها امرأة في زمن «مي تو»، والقضية الأكبر هي تكتلات القضايا القائمة بين فلسطين وإسرائيل، من دون التوغل في السياسة على نحو مباشر.
- فيلم الافتتاح
على أن «طفيلي» ليس وحده الذي يعزز هذه الطاقة الموجهة للبحث عن أفلام يمكن أن تحمل صدى بعيداً. فعام 2019 شهد نجاحات أخرى مهمّة في هذا الصدد، بينها «منارة» (Lighthouse) و«سكاكين مسلولة»، وهي أيضاً من تلك التي شقت طريقها المستقلة بنجاح عادة ما تحققه الأفلام الناتجة بالكامل من المصنع الهوليوودي.
وتشاء الصدف أن تكون مرغريت كوايلي، التي سنراها في فيلم كلير دنيس «نجوم الظهر» وهي تبحث عن حقيقة دورها في خضم أحداث أمنية تقع في أميركا الجنوبية، هي بطلة فيلم الافتتاح الذي عرض يوم أول من أمس (الخميس).
هي ممثلة صاعدة (كذا درجة في كل خطوة) منذ عامين. بدأت -أيضاً- بأفلام مستقلة، ثم اختارها كونتِن تارنتينو لدور واحدة من هيبيات فيلمه الأخير «ذات مرة في هوليوود»، وها هي الآن تقود بطولة «سنتي السلنجيرية» (My Salinger Year)، للمخرج الشاب فيليب فالارديو.
الفيلم مأخوذ عن رواية كتبتها جوانا سميث راكوف عن الفترة التي قضتها موظفة في وكالة بيع نصوص أدبية، قبل أن تكتب وتبيع روايتها الأولى. جوانا راكوف ولدت في نيويورك، وليس في مدينة أميركية أخرى نزحت منها إلى نيويورك، كما في الفيلم. لكن هذه المفارقة لا تكفي لوصف الفيلم بأنه لا يستلهم الرواية استلهاماً شبه كامل.
جوانا في الفيلم، كما تؤديها كوايلي، فتاة رومانسية وديعة تترك لوس أنجيليس، وتصل إلى نيويورك، ثم تتصل ببعض الأصدقاء لكي تبيت عندهم. تتعرّف على موظف في مكتبة، وترتبط معه بعلاقة حب. وقبل أن تصل الأمور إلى تبادل العواطف، كانت قد وجدت عملاً في تلك الوكالة التي تديرها امرأة صارمة اسمها مرغريت (سيغورني ويڤر). طموحات جوانا ليست العمل سكرتيرة، كما اكتشفت أن هذا هو حالها، بل أن تكتب وتبيع وتحقق مستقبل في هذا الميدان. العمل سيمنعها، والخلاف مع صديقها يستشري، ما يجعلها تكتشف أنها سوف لن تحقق ما تصبو إليه إلا من خلال الانفصال عنه والاستقالة من العمل.
خلال الفيلم، يتكاثر الحديث عن الكاتب الأميركي جيروم سالينغر (أو J. D. Salinger كما يُشار إليه). وهو بدوره كاتب فعلي برز في الخمسينات والستينات، ثم قاد حياة بعيدة عن الأضواء فيما بعد. وفي مطلع التسعينات (الفترة التي تقع فيها أحداث الفيلم)، يعاود الظهور (توفي مطلع سنة 2010) راغباً في التعاون مع الوكالة لنشر رواية جديدة. جوانا كانت على إلمام كبير بأعماله وتتوق لمقابلته، لكنها لا تتعرّف عليه (في الفيلم) إلا قبيل نهاية الفيلم عندما يأتي في زيارة.
سيغورني ويڤر لا تقود البطولة، لكنها تخطف الأنظار الممعنة كلما ظهرت؛ تجربة الممثلة الشابة مرغريت كوايلي حيال تجربة ويڤر صعبة المقارنة. نعم، كوايلي لديها البراءة والعزم والتمثيل الجيد الذي يبرز هاتين الخاصيتين، لكن ويڤر هي التي تجسد الشخصية كما لو كانت هي. حركاتها تصبح تلقائية، تخرج من شخصيتها الحقيقية لتصبح مديرة الوكالة بلا جهد يذكر.

فترة حاسمة

لكن الفيلم، الممعن في ترداد أسماء الروائيين والشعراء تأكيداً على خلفياته الأدبية، يعاني من ملل بعض فتراته. السيناريو جيد، لكنه يتلكأ في الوصول إلى النتائج التي هي في الأساس متوقعة، والنهاية لا تحمل شحنة قوية، بل تنساب بالهدوء نفسه.
ما يلعب الدور المهم هنا هو حسن تقديم نيويورك التسعينات. إنه عن المدينة التي كانت تمر في مفترق الفترة بين الآلة الطابعة والكومبيوتر، بين القديم والحديث، التقليدي والمعاصر، التي ما زالت تعكس هذا التوازن حتى اليوم. وهناك ذكاء معالجة من قبل المخرج الشاب (ثامن عمل له وأكبرهم حجماً)، واختيار مرغريت كوايلي في مكانه، والمخاطرة هنا تكمن في أنه لم يصنع فيلماً من بطولة امرأة من قبل، والآن يجد نفسه ليس أمام فيلم من بطولة نسائية، بل يدور حول شخصية حقيقية في الواقع.
كثير من التعليق والحديث للكاميرا، لكن هذا يمر في قناة مبررة، فجوانا تلجأ لقراءة رسائل القراء الذين يبعثون بخطاباتهم عبر الوكالة، لكن سالينغر كان قد طلب من الوكالة ألا تحوّل له أي خطاب. وتجد مرغريت نفسها منجذبة إلى الخطابات التي تحمل ردّات فعل تكشف عن شخصيات مرسلي الخطابات. ففي تعليقاتهم ورغباتهم في التواصل مع مؤلفهم المفضل، يكتبون عن أنفسهم ويشرحونها. وهذا يزكي علاقة جوانا بالحياة، وربما -وهذا ليس وارداً في الفيلم- كان واعزاً خفياً لترك الوكالة ومحاولة الاستقلال بقرارها للمرة الأولى.
- برلينيات
• انتقد الرئيس دونالد ترمب فوز «طفيلي» في حفلة الأوسكار الجديدة، في خطاب ألقاه في ولاية كولورادو مؤخراً، فقال: «والرابح هو… فيلم من كوريا الجنوبية. لدينا ما يكفي من المتاعب التجارية مع كوريا الجنوبية. دعونا نعود إلى (ذهب مع الريح) و(صنست بوليفارد)… أفلام كثيرة عظيمة».
كما لم ينسَ براد بت من نقده. وكان الممثل قد انتقد الرئيس الأميركي إثر فشل محاكمته، فرد عليه الرئيس في خطابه قائلاً: «لم أكن معجباً ببراد بت. نهض وقال شيئاً متكلفاً. إنه شخص متكلف».
‫• تتمتع السينما الألمانية بدعم حكومي قدره 300 مليون دولار في السنة، والنتائج الإيجابية بادية على هذه الدورة. وفي الحقيقة، إن عدداً كبيراً من الأفلام مدرج هذا العام للتنفيذ. أحدها أول فيلم ألماني عن رواية إريك ماريا ريمارك «كله هادئ على الجبهة الغربية» (All is Quiet on the Western Front) التي قامت هوليوود بتصويرها مرّتين (1931 و1979).‬
‬• سخاء بولندي بالنسبة لعمليات دعم الصناعة السينمائية هناك، نتج عنه في العام الماضي تحقيق 23 فيلماً. إذا تم تصوير فيلم أجنبي في بولندا، فإن 30 في المائة مما تم صرفه في البلاد خلال التصوير سيعاد إلى المنتج. أما الميزانية المقررة لتحقيق أفلام بولندية، فقد بلغت 33 مليوناً و500 ألف دولار.


مقالات ذات صلة

«فنون العُلا 2025» ينطلق بتجارب ملهمة

يوميات الشرق المهرجان يقود الزوّار في رحلة حسية شاملة لاكتشاف العُلا بمختلف تفاصيلها (الهيئة الملكية)

«فنون العُلا 2025» ينطلق بتجارب ملهمة

انطلقت فعاليات مهرجان «فنون العُلا 2025» في نسخته الرابعة، لتقديم تجربة فنية وثقافية مميزة وسط الطبيعة الخلابة لواحة العُلا، شمال غربي السعودية.

«الشرق الأوسط» (العلا)
يوميات الشرق مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية (إدارة المهرجان)

مصر وتونس تستحوذان على جوائز «الأقصر السينمائي»

استحوذت مصر وتونس على جوائز الدورة الـ14 من مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية، الذي اختتمت فعالياته، الثلاثاء، في محافظة الأقصر (جنوب مصر)

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية شهد حضور فنانين مصريين ومن دول أفريقية (صفحة المهرجان على «فيسبوك»)

«الأقصر للسينما الأفريقية» في مرمى الأزمات المالية

شهد معبد الأقصر، مساء الخميس، انطلاق فعاليات الدورة 14 من مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية، وسط تحديات عدة أبرزها الأزمة المالية نتيجة تقليص ميزانية المهرجانات.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق من أفلام شاشات الواقع «النهار هو الليل» لغسان سلهب (المكتب الإعلامي للمهرجان)

مهرجان «شاشات الواقع» في دورته الـ19 بانوراما سينما منوعة

نحو 35 فيلماً وثائقياً طويلاً وشرائط سينمائية قصيرة، يتألف منها برنامج عروض المهرجان الذي يتميز هذه السنة بحضور كثيف لصنّاع السينما اللبنانيين.

فيفيان حداد (بيروت)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».