«الحي الروسي»... حكاية متصدعة لنص سردي مختلف

من روايات القائمة القصيرة لـ «البوكر العربية»

«الحي الروسي»... حكاية متصدعة لنص سردي مختلف
TT

«الحي الروسي»... حكاية متصدعة لنص سردي مختلف

«الحي الروسي»... حكاية متصدعة لنص سردي مختلف

لا تنتمي رواية «الحي الروسي» لخليل الرز الصادرة عن داري «ضفاف» و«الاختلاف» إلى النمط التقليدي من الكتابة السردية، فمنذ الصفحات الأُوَل من الرواية يشعر القارئ أنه أمام حكاية مُتصدِّعة حطّم الكاتب نسقها السردي وأدخلها في متواليات زمكانية وحدثية تنسجم مع البنية المعمارية التي يقترحها خالق النص الروائي ومُبدعه الذي لا يراهن على البنية الأرسطية التي تقوم على مثلث «البداية والوسط والنهاية»، وإنما يعوّل على تشظية الوقائع وتقديمها على شكل جُرعات متقطّعة من دون أن يُخضعها إلى ثنائية التوتر والتصعيد الدراميين.
يشتغل خليل الرز في المنطقة الرمادية التي تفصل بين الواقع والخيال، فرواياته لا تعوِّل على الواقع كثيراً ولا تُراهن على الخيال الجامح، وإنما تأخذ من الاثنين ما ينسجم مع طبيعة النص السردي المختلف قليلاً عن النصوص السائدة. وعلى الرغم من أنّ وجود الحيوانات في الأدب ليس جديداً فإنّ رواية «الحي الروسي» تحتفي بعدد من الحيوانات وتمنح بعضها أدواراً موازية للشخصيات الأخرى التي تشترك في البطولة الجماعية، فميزة هذه الرواية هي غياب البطل الواحد، وهيمنة الأصوات المتعددة مثل الراوي، ونونّا، وبوريا، وعصام وغيرهم، إضافة إلى الحيوانات التي أخذت مساحة موازية للشخصيات الأخرى مثل الزرافة، والكلبة الأفغانية رئيسة بتروفنا، والكلب العجوز موستاش، ويمكن الإشارة إلى الذئبين الأعجفين، والعقبان الثلاثة، والقطة غزال، وسواها من الشخصيات الحيوانية التي منحت النص أبعاداً رمزية عميقة.
يمكن القول إن «الحي الروسي» هي رواية شخصيات أكثر منها رواية أحداث، فثمة شخصيات سورية وروسية كثيرة جعلها الكاتب خليل الرز تتحرك بين روسيا إثر انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، وبين سوريا إثر اندلاع الانتفاضة الشعبية عام 2011. وقد اختار لها مكاناً افتراضياً أسماه بـ«الحي الروسي» الذي تقوده المافيا الروسية الممثلة بشخصية «بوريا» وثمة عدد آخر من الشخصيات التي قُدمت بطريقة المشاهِد السينمائية على مدار النص السردي، وأثثتهُ منذ مستهل الرواية حتى جملتها الختامية.
تحتل شخصية الراوي مساحة كبيرة من الرواية كما تسجّل حضوراً طاغياً في النص السردي ولا توازيه في هذا الحضور إلا شخصية الزرافة التي تُطل علينا في الفصل الأول وتسقط قتيلة في الفصل الأخير. وبما أنّ الروائي يعتمد أسلوب تشظية الحدث وتفتيته فلا بد أن يلتجئ إلى الاستطراد الذي ينتقل فيه من الحدث الرئيس إلى أحداث ثانوية قد تعزّز الحدث الأول أو تنصرف عنه كلياً. وبواسطة هذه التقنية نتعرّف على شخصية الراوي من دون الإشارة إلى اسمه، كما يُحيطنا علماً بشخصية أمه، المرأة السورية البسيطة المُصابة بمرض السُكري التي سوف يبتر الأطباء ساقها وتطلب من ابنها أن يدفنها في جبانة شيخ سعود إلى جانب قبر أبيها. ثم يعود بنا إلى الوراء ليخبرنا أنه خرّيج قسم اللغة الروسية وآدابها، ويعرف مدير «حديقة الحيوانات» فيكتور إيفانيتش الذي كان يعمل معه في مجلة «أنباء موسكو»، أما أقرب أصدقائه الخُلّص فهو صالح علي الذي سنصادفه في الفصول الأخيرة من الرواية.
وبموازاة الراوي تقف الزرافة شخصية رئيسة أفرد لها الكاتب فصولاً متعددة يقول فيها إن الزرافة تغنّي أحياناً في سكون الليل بصوت مبحوح خفيض، وإنها تكتفي بشربة ماء واحدة خلال يومين أو 3 أيام، ولا تنام إلا لفترات قصيرة جداً وهي واقفة، وإنّ لديها خوفاً غريزياً من السباع، ولذلك تُطلق أصواتاً غامضة تمنعها من النوم. ورغم أنها موجودة في «الأسر» منذ سنوات فإن خوف الزرافة، وصور الافتراس الموروثة لديها لم تضمحل في مخيلتها، ولعل صور الحيوانات المفترسة التي تظهر على سطح الشاشة التلفازية الكبيرة المثبّتة أمامها تُعيد لها هذه المخاوف وتؤكدها كلما شاهدت الأسود والنمور والضباع وهي تُطارد فرائسها في البراري المفتوحة والغابات المكتظة بالأشجار.
تتواصل المشاهِد لتزوّد القارئ بالحكايات وبعض القصص المتناثرة التي تحث الراوي على السرد، فأم الراوي هي أنموذج للمرأة السورية البريئة التي أنجبت أولادها في «الرقة» ولا تعرف غير هذه المدينة المحاذية للحدود العراقية، بل إن العراق كله لا يعني لها سوى المُطرب الريفي حضيري أبو عزيز أو الحزن العراقي الكثيف الذي يتسرّب من مَنجَم المناحات الأبدية في كربلاء والنجف والكوفة وبقية المدن العراقية المتشحة بالسواد.
أما الشخصيات الروسية فكثيرة هي الأخرى، أبرزها أركادي كوزميتش، الكاتب الروسي المغمور الذي يرفض الناشرون طبع رواياته، وقد عاش 35 سنة مع زوجته من دون أن يحبها أو يُدرِك أنها كانت مؤمنة بموهبته الأدبية إلا بعد فوات الأوان. ينتقل أركادي بتحفيز من ابنته إلى «الحي الروسي» في دمشق، ويدرّس في معهد اللغة الروسية في المركز الثقافي، لكن الحدث الأهم هو عثوره على رسالة قديمة للناشر تشجّعه على العودة إلى المخطوط وتصحيح الحريق في ذاكرة بطلته تانيا.
تُعدّ شخصية بوريا الأكثر غموضاً بين الشخصيات الروسية فهو المتنفِذ الفعلي بمصائر أُناس «الحي الروسي»، ويمثِّل شكلاً من أشكال المافيا الروسية الخطيرة التي انتقلت إلى سوريا، ولا بد أن تكون له علاقة وطيدة بالأفرع الأمنية في دمشق، وهو في النهاية لصٌ قوي منظّم يُحاصص الناس بأرزاقهم. وإذا كانت هناك شبه ذروة في ثيمة هذه الرواية فتتمثل بالتحدي القائم بين بوريا وعصام، الرياضي الذي حطّم أرقاماً قياسية في الرماية ورفع الأثقال، ورغم أنّ هذا التحدي سيظل قائماً فإن ذهاب عصام إلى «الغوطة» المُحررة ومَقتله هناك قد وضع حداً لهذا التحدي، ولا بد من تشييعه بطريقة تليق بالأبطال، إذ خرج الحي «الروسي» بقضّه وقضيضه وواروه الثرى على عجل تحت كشّافات طائرات الهليكوبتر. ثمة سيارة مفخخة تفجّرت أمام حديقة الحيوانات حطمت الباب الرئيس وأحدثت بعض الأضرار الطفيفة، لكنها سمحت للزرافة بالخروج من الباب إلى الشارع، ثم تحركت بخطى وئيدة موزونة فتبعها الجميع.
هناك مشهدان ملحميان في هذه الرواية؛ الأول تشييع عصام ودفنه في المقبرة تحت هدير الطائرات السمتية؛ والثاني خروج الزرافة من «الحي الروسي» ومرورها في بعض الأحياء المُحررة من «الغوطة»، ثم وصولها إلى ساحة «الأمويين» حيث تعرّضت إلى رشقة دوشكة مثبتة على دبابة «تي 90» أسقطتها أرضاً في الحال، ثم التقطتها رافعة ونقلتها إلى المبنى العسكري، بينما تولى جنود آخرون إزالة دماء الزرافة القتيلة، فيما سقط الراوي بين ذراعي صديقه القديم صالح، ولم يعد بوسعه أن يسمع شيئاً، لأن موستاش بدأ يهتف من جديد.
لم يشأ خليل الرز أن يتناول الحرب السورية إلا بهذه الطريقة الفنتازية التي أنقذت نصه من الوقوع في فخ المباشرة والتقريرية، كما لجأ إلى الترميز في مواضع كثيرة من النص السردي الذي يجمع بين الحوار المسرحي الذكي، واللغة الأدبية الفصيحة التي طرّزها بكثير من المفردات المألوفة في المحكية الشامية التي أصبحت جزءاً حيوياً من نسيج النص الإبداعي الذي يحتاج إلى دراسة موسعة للوقوف عند ثيماته الفرعية الكثيرة التي رصّعت المتن الروائي وأمدّته بمحمولات فكرية وثقافية واجتماعية تُدين الحرب وتعرّي العقول المريضة التي أشعلت أوراها منذ 2011 حتى الآن.
أصدر خليل الرز 9 روايات، من بينها «يوم آخر»، و«سلمون إرلندي» و«وسواس الهواء».


مقالات ذات صلة

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

كتب دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

يضم الكتاب مجموعة من البحوث والدراسات الأكاديمية وموضوعات وقراءات تتعلق بالجانب الاجتماعي - الاقتصادي

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق الروائيّ اللبناني جبّور الدويهي (فيسبوك)

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

عشيّة الذكرى الثالثة لرحيله، تتحدّث عائلة الروائيّ اللبنانيّ جبّور الدويهي عن سنواته الأخيرة، وعن تفاصيل يوميّاته، وعن إحياء أدبِه من خلال أنشطة متنوّعة.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

رواية «حكاية صفية» للروائية الكويتية ليلى العثمان الصادرة عام 2023، رواية جريئة بشكل استثنائي

فاضل ثامر
كتب بعض واجهات المكتبات

موجة ازدهار في الروايات الرومانسية بأميركا

الصيف الماضي، عندما روادت ماي تنغستروم فكرة فتح مكتبة لبيع الروايات الرومانسية بمنطقة فنتورا بكاليفورنيا

ألكسندرا ألتر
كتب الرواية الخليجية... بدأت خجولة في الثلاثينات ونضجت مع الألفية

الرواية الخليجية... بدأت خجولة في الثلاثينات ونضجت مع الألفية

يتناول الناقد والباحث اليمني د. فارس البيل نشأة وجذور السرد الإبداعي في منطقة الخليج وعلاقة النص بالتطورات الاجتماعية والاقتصادية المتلاحقة

رشا أحمد (القاهرة)

بن بخيت مستشاراً ثقافياً لرئيس هيئة الترفيه السعودية

صورة للروائي عبد الله بن بخيت نشرها تركي آل الشيخ عبر حسابه في منصة «إكس»
صورة للروائي عبد الله بن بخيت نشرها تركي آل الشيخ عبر حسابه في منصة «إكس»
TT

بن بخيت مستشاراً ثقافياً لرئيس هيئة الترفيه السعودية

صورة للروائي عبد الله بن بخيت نشرها تركي آل الشيخ عبر حسابه في منصة «إكس»
صورة للروائي عبد الله بن بخيت نشرها تركي آل الشيخ عبر حسابه في منصة «إكس»

اختار المستشار تركي آل الشيخ، رئيس مجلس إدارة هيئة الترفيه السعودية، الثلاثاء، الروائي والمترجم والسيناريست السعودي عبد الله بن بخيت مستشاراً ثقافياً له، ونائباً لرئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً»، التي يقودها الدكتور سعد البازعي.

ويعد بن بخيت أحد أعمدة الأدب السعودي والعربي، ويحظى بتقدير واهتمام من الأوساط الثقافية السعودية والعربية نظير ما قدمه من أعمال وإنجازات كبيرة في هذا المجال، ويعد تعيينه متسقاً مع الجائزة التي تركز على الأعمال الروائية الأكثر جماهيرية وقابلية لتحويلها إلى أعمال سينمائية.

وله مؤلفات سردية، هي روايات «شارع العطايف»، و«التابوت النبيل»، و«الدحو»، إضافة إلى مجموعتين قصصيتين طويلتين: «لا يوجد سوانا في البيت» و«مذكرات منسية». كما قدّم خلال أكثر من 30 عاماً، مقالات يومية في عدة صحف تناول فيها الشأن العام والثقافي بالنقد.

وتولّى بن بخيت كتابة أعمال تلفزيونية، هي مسلسلات «هوامير الصحراء» بأجزائه الخمسة، و«جرذان الصحراء»، وحلقات في المسلسل الشهير «طاش ما طاش»، و«يا وطني» الذي عُرِض على شاشة التلفزيون السعودي.

يشار إلى أن لجنة الجائزة تَشكَّلت من أعضاء يملكون خبرات واسعة في مجالات الأدب، والكتابة السينمائية، والإنتاج والإخراج السينمائي.

وتضم اللجنة في عضويتها كلاً من الكاتب والروائي السعودي عبده خال، والروائي الكويتي سعود السنعوسي، والروائي المصري أحمد مراد، والروائية السعودية الدكتورة بدرية البشر، والكاتب والسيناريست السعودي مفرج المجفل، والكاتب والسيناريست المصري صلاح الجهيني، والناقد السينمائي المصري طارق الشناوي، والسيناريست المصري شريف نجيب، والخبير عدنان كيال مستشار مجلس إدارة هيئة الترفيه، وكاتبة السيناريو المصرية مريم نعوم، والمخرج المصري محمد خضير، والمنتج السينمائي المصري أحمد بدوي، والمخرج المصري خيري بشارة، والمنتج اللبناني صادق الصباح، والمخرج السينمائي المصري مروان حامد، والمخرج والمنتج السينمائي السعودي عبد الإله القرشي، والكاتب والسيناريست المسرحي السعودي ياسر مدخلي، والكاتب والروائي المصري تامر إبراهيم.

وتركز الجائزة على الروايات الأكثر جماهيرية وقابلية لتحويلها إلى أعمال سينمائية، مقسمة على مجموعة مسارات؛ أبرزها مسار «الجوائز الكبرى»، حيث ستُحوَّل الروايتان الفائزتان بالمركزين الأول والثاني إلى فيلمين، ويُمْنح صاحب المركز الأول مبلغ 100 ألف دولار، والثاني 50 ألف دولار، والثالث 30 ألف دولار.

ويشمل مسار «الرواية» فئات عدة، هي أفضل روايات «تشويق وإثارة» و«كوميدية» و«غموض وجريمة»، و«فانتازيا» و«رعب» و«تاريخية»، و«رومانسية» و«واقعية»، حيث يحصل المركز الأول على مبلغ 25 ألف دولار عن كل فئة بإجمالي 200 ألف دولار لكل الفئات.

وسيحوّل مسار «أفضل سيناريو مقدم من عمل أدبي» العملين الفائزين بالمركزين الأول والثاني إلى فيلمين سينمائيين مع مبلغ 100 ألف دولار للأول، و50 ألف دولار للثاني، و30 ألف دولار للثالث.

وتتضمن المسابقة جوائز إضافية أخرى، حيث سيحصل أفضل عمل روائي مترجم على جائزة قدرها 100 ألف دولار، وأفضل ناشر عربي 50 ألف دولار، بينما يُمنح الفائز «جائزة الجمهور» مبلغ 30 ألف دولار، وذلك بالتصويت عبر المنصة الإلكترونية المخصصة.