بعد إصابتها بمرض عضوي، وعدم قدرة زوجها وأبنائها على نقلها لأحد المستشفيات الخاصة في العاصمة اليمنية صنعاء، اضطرت «أم محمد» (55 عاماً)، وبقناعة منها ورضوخ أهلها للأمر الواقع، للبقاء على فراش المرض في منزلها، رغم خطورة المرض الذي ألمّ بها.
وأكدت «أم محمد» التي امتلأ كبدها بالسموم، خلال حديثها مع «الشرق الأوسط»، أنها تفضّل البقاء طريحة الفراش بمنزلها حتى يكتب الله لها ما يشاء، لأنها إن ذهبت إلى مستشفى خاص أو حكومي، فسيرفضون استقبالها أو تقديم الرعاية الصحية لها نتيجة حالة زوجها المادية المتعبة.
ومن جهته، يشعر زوج «أم محمد» بالأسى والبؤس وهو يشاهد زوجته طريحة الفراش تعاني الألم، ولا يستطيع تقديم المساعدة لها أو نقلها لأقرب منشأة صحية لتلقي العلاج. ويقول زوجها (عبد الله)، وهو يعمل بالأجر اليومي على متن حافلة أجرة، ويقطن أحد أحياء صنعاء، إن ظروفه وظروف أبنائه الثلاثة المعيشية والمادية حرجة للغاية، كما أن مرض زوجته خطير، ويحتاج إلى رعاية وخدمات طبية وأموال كثيرة، وما يدخره يومياً من أجرة حافلته «الصغيرة» لا يكاد يسد احتياجات أسرته المعيشية.
ويروي زوج «أم محمد» معاناته لـ«الشرق الأوسط»، فيقول: «ذهبت إلى مستشفيات خاصة عدة في صنعاء للاستفسار منهم وطرح مشكلتي عليهم، على أمل أن أحصل على تخفيض ولو 50 في المائة من علاج زوجتي، وأن أضع باصي الصغير (الحافلة)، وهو المقتنى الوحيد الذي أملكه، كرهن بالمبلغ المتبقي، لكني قوبلت بالرفض نتيجة ادعاء معظم تلك المشافي أن مخازنها تعج برهون المئات من المرضى الذين لم يتمكنوا من تسديد ما عليهم من تكاليف علاجية سابقة لمرضاهم».
مرض «أم محمد»، وحالة زوجها المادية المتدهورة، يختصران معاناة عشرات الآلاف من المرضى اليمنيين القابعين بمناطق سيطرة الميليشيات الحوثية، بخاصة بعد أن أميط اللثامُ في الوقت ذاته عن مشكلات وصعوبات واجهتها كثير من المستشفيات الخاصة في صنعاء ومدن يمنية أخرى بسبب كمية «الرهون» التي تضعها أسر المرضى نتيجة عدم القدرة على تسديد فواتير مداواتهم.
وتقول مصادر طبية في صنعاء، تحدثت مع «الشرق الأوسط»، إن هناك الآن آلاف الرهونات التي يقدمها ذوو المرضى لدى مستشفيات خاصة في أمانة العاصمة ومناطق أخرى خاضعة للميليشيات، مما يشير إلى وضع معيشي مزرٍ يعانيه السكان منذ انقلاب الجماعة الحوثية على السلطة قبل نحو 5 أعوام.
وفي الصدد ذاته، كشف مسؤولون في مستشفيات خاصة بصنعاء عن وجود ملفات ديون كبيرة، وآلاف الرهونات الخاصة بمواطنين عجزوا عن تسديد ما عليهم من تكاليف الرعاية الطبية والعلاج لمرضاهم.
ويتحدث المسؤولون الصحيون لـ«الشرق الأوسط» عن آلاف من الحالات المرضية التي تصل تباعاً إلى المشافي، وبحاجة لرعاية صحية عاجلة، لكن أصحابها المرضى يعانون من أوضاع مادية في غاية الصعوبة لا تسمح لهم بدفع أجر العلاج.
وفي الإطار ذاته، يشير مسؤولو مستشفيات خاصة إلى أن مستشفياتهم لم تعد قادرة على مساعدة أو قبول كل رهون الحالات المرضية الوافدة، كون أغلبها فقيرة ومعدمة، وستشكل في الوقت نفسه خسارة فادحة لمنشآتهم الصحية، خصوصاً في ظل الوضع الحالي الذي تعانيه معظم المستشفيات الخاصة نتيجة حملات الاستهداف والتعسف والنهب والعبث الحوثية المتواصلة الممنهجة في حقهم.
وقدّر مسؤول آخر في مستشفى خاص بالعاصمة قيمة عدد الرهون التي أودعها مرضى قدموا لتلقي العلاج في المستشفى خلال الأشهر الثلاثة الماضية فقط بأنها تصل إلى أكثر من 30 مليون ريال (الدولار يساوي نحو 600 ريال).
وفي سياق متصل، قال عامل صحي بمستشفى خاص بصنعاء لـ«الشرق الأوسط» إنه رغم تقديم المستشفى الذي يعمل فيه تخفيضات للمرضى المعدمين تصل إلى 50 في المائة، فإن أمانات المستشفى وساحاته تعج بكثير من الرهونات والمقتنيات الخاصة بالمواطنين، يتم قبولها بصورة اضطرارية. وأوضح العامل أن بحوزة المستشفى من الرهون سيارة أجرة، وحافلة، و6 دراجات نارية، و5 جنابي (خناجر) ثمينة، ومصوغات ذهبية، و5 قطع سلاح آلي (كلاشنيكوف)، ومسدسات، وبطاقات وهويات مختلفة، ووثائق ملكيات منازل وأراضٍ، وغيرها من المقتنيات الأخرى، بعد أن عجز ملاكها عن تسديد ما عليهم من أجور الرعاية الصحية التي قدمتها المستشفى لمرضاهم.
وتطرق العامل الصحي في حديثه إلى الوضع المتدهور والحالة المزرية التي وصلت إليها المنشآت الصحية الحكومية في مناطق سيطرة الميليشيات، وقال إن سبب ذلك التدهور «يعود لسياسات النهب والسلب والتجويع للجماعة الحوثية التي عملت منذ انقلابها على إفراغ خزينة المستشفيات الحكومية من العائدات المالية، وتحويلها لصالح مجهودها الحربي». وتحدث عن أن معظم المستشفيات الخاصة، ورغم ما تعانيه من جور الميليشيات، يقوم حالياً بما يعادل 80 في المائة مما كانت تقوم به المستشفيات الحكومية فيما يتعلق بتقدير الرعاية الصحية للمرضى.
ويتهم عاملون آخرون في القطاع الصحي «المسؤولين الحوثيين الذين أصبحوا هم الآمرون الناهون في أغلب المستشفيات الحكومية بالفساد وسوء الإدارة، إذ لا يهمهم سوى جباية الأموال على حساب صحة المرضى اليمنيين بمناطق سيطرتهم».
ويشكو سكان محليون في صنعاء ومناطق يمنية أخرى من عدم قدرتهم في زمن الميليشيات على مداواة مرضهم، كما يشكو السكان أيضاً من الخدمات الصحية المتدهورة في المستشفيات الحكومية بمناطق سيطرة الجماعة، ويؤكدون أن تلك الخدمات تشهد تحسناً طفيفاً في بعض المستشفيات الخاصة، لكن أسعارها مرتفعة، وبشكل كبير، وتفوق قدرتهم المادية.
وأكد سكان وجود المئات من حالات المعاناة والقصص الأليمة والمحزنة المنبعثة من داخل العشرات من المشافي الحكومية والخاصة في صنعاء العاصمة وبقية مناطق سيطرة الحوثيين، مما يشير، بحسبهم، إلى وجود خلل كبير في الوضع الصحي بشكل عام.
ووفق تقارير محلية ودولية، فقد جعلت الحرب التي قادتها جماعة الحوثي معظم السكان في مناطق سيطرتها بحاجة إلى مساعدات إنسانية عاجلة، فيما بات الملايين على حافة المجاعة، في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية بالعالم، وفق تقديرات الأمم المتحدة.
ولجأت الميليشيات المدعومة من إيران، إلى جانب حربها العبثية، للاستهداف المباشر لقطاعات حيوية، بما فيها القطاع الصحي الذي ارتبط ارتباطاً مباشراً بصحة وحياة المواطنين اليمنيين، وذلك من خلال عمليات النهب والسلب والجباية والابتزاز والمصادرة وغيرها.
وأدت تلك الممارسات الحوثية المتواصلة إلى انهيار كامل للقطاع الصحي في اليمن، وتدهور كبير في الخدمات الصحية بالمستشفيات الحكومية والخاصة، وتسببت في انتشار الأمراض والأوبئة، وعلى رأسها الكوليرا والدفتيريا وحمّى الضنك وأنفلونزا الخنازير، وغيرها من الأوبئة والأمراض الفتاكة الأخرى.
وانتهجت الميليشيات الحوثية منذ انقلابها أواخر عام 2014 سياسة تدميرية شاملة تجاه القطاع الصحي بمناطق سيطرتها، وعملت على إيقاف رواتب ونفقات تشغيل القطاع الصحي، وحرمت المواطنين من تلقي الخدمات الطبية للحماية من الأمراض والأوبئة التي تفتك بهم، الأمر الذي تسبب بوفاة الآلاف منهم.
وكان أحدث تلك السياسات الميليشاوية، وليس آخرها، استيلاء الجماعة على 6 من كبريات المستشفيات الأهلية في العاصمة صنعاء، وهي: مستشفى الأم، والمستشفى الأهلي، ومستشفى جامعة العلوم، والمستشفى الألماني الحديث، ومستشفى سيبلاس، والمستشفى المغربي، وقامت بالحجز التحفظي على أموالها وممتلكاتها، وتعيين حارس قضائي مزعوم عليها.