الإسكندرية تريد التخلص من مخالفات محت كوزموبوليتها

الإسكندرية من أجمل مدن مصر (تصوير: عبد الفتاح فرج)
الإسكندرية من أجمل مدن مصر (تصوير: عبد الفتاح فرج)
TT

الإسكندرية تريد التخلص من مخالفات محت كوزموبوليتها

الإسكندرية من أجمل مدن مصر (تصوير: عبد الفتاح فرج)
الإسكندرية من أجمل مدن مصر (تصوير: عبد الفتاح فرج)

ارتبط اسم مدينة الإسكندرية المصرية، التي تُطل على ساحل البحر الأبيض المتوسط، بجمال الطرز المعمارية والحدائق والمباني الأثرية التي تضمها، وتنتمي إلى حقب تاريخية وحضارات وثقافات مختلفة، جعلت منها واحدة من أبرز وأجمل المدن المصرية، لكنها خلال العقدين الأخيرين عانت من التشوه العمراني، ومخالفات البناء، ولم تستطع الحكومات المتتالية وضع حد لانتشار البناء المخالف في المدينة المميزة، ورغم سَن قوانين تحظر البناء المخالف، وتمنع هدم المباني والفيلات التراثية، فإن كثيرين استغلوا ثغرات موجودة في هذه القوانين لتحقيق أهدافهم المادية، مما أدى إلى تشويه المدينة ومحو هويتها الكوزموبوليتانية، حسب الخبراء ومواطني المحافظة.
قبيل انتهاء القرن الماضي بشهور قليلة، حاول عدد من المهتمين بتراث الإسكندرية، إنقاذ ما يمكن إنقاذه عبر مبادرات فردية، كان من بينهم الدكتور محمد عوض، أستاذ العمارة في جامعة الإسكندرية ورئيس لجنة الحفاظ على تراث المدينة بالمحافظة سابقاً، والذي يقول لـ«الشرق الأوسط» إن «جهود الحفاظ على تراث المدينة الساحلية عروس المتوسط بدأ بمبادرة شخصية منه لحصر المباني التراثية عام 1999 تم اعتمادها من مجلس الوزراء في حينها، وكانت أول محاولة من نوعها في محافظات مصر»، مشيراً إلى أنه «في عام 2007 أصدر مجلس الوزراء المصري في ذلك الوقت قراراً بتعميم التجربة وتشكيل لجان لحصر المباني التراثية في المحافظات المختلفة، وعلى ضوء القرار تم حصر المباني التراثية في الإسكندرية وتسجيل 1150 مبنى تراثياً، وتقسيم المدينة إلى مناطق تراثية وشوارع ذات طابع خاص، من بينها وسط البلد والحي التركي، ووابور المياه، والشاطبي، ومنطقة الرمل، وشُكلت لجنة لفحص طلبات التعديل والترميم الخاصة بهذه المباني».
لكن هذا الحصر لم يكن كافياً لحماية المباني التراثية، فوفقاً لعوض «استغل ملاك بعض المباني التضارب بين قانون حماية المباني التراثية ولائحته التنفيذية في الحصول على أحكام قضائية تقضي بخروج المبنى من قائمة المباني التراثية وتسمح بهدمه».
وعلى مدار السنوات الماضية أثير أكثر من قضية متعلقة بهدم مبانٍ تراثية في الإسكندرية كان أشهرها هدم فيلا جوستاف أجيون بمنطقة وابور المياه بالإسكندرية، عام 2016 والتي يعود تاريخها إلى عام 1922، ولم تنجح محاولات السكندريين والمهتمين بتراث المدينة في منع هدم مبنى راقودة مسقط رأس المخرج يوسف شاهين، والتي صدر قرار بهدمه عام 2017، وأصدرت محكمة القضاء الإداري نهاية الشهر الماضي قراراً بإخراج محكمة الإسكندرية الشرعية من قائمة المباني التراثية في الإسكندرية.
الفنان فاروق حسني، وزير الثقافة الأسبق، يقول لـ«الشرق الأوسط»، إن «الإسكندرية أكثر مدينة تعرضت للتشويه، الذي قضى على ملامحها الكوزموبوليتانية الجميلة، والتي كانت تضاهي في جمالها العاصمة الفرنسية باريس»، مشيراً إلى أن «المدينة كانت مليئة بالفيلات والحدائق الجميلة، والتي تعرضت للهدم وبُنيت مكانها أبراج سكنية ومبانٍ قبيحة».
وقال عوض إن «الإسكندرية لا تنفرد بظاهرة هدم المباني التراثية، فهذه الظاهرة موجودة في كل مصر، وهي نتاج للزيادة الكبيرة في السكان»، مشيراً إلى أن «المشكلة زادت في الإسكندرية بسبب عدم وجود امتداد عمراني للمدينة، على عكس مدينة القاهرة التي كان لها امتداد في مدن جديدة مثل الشيخ زايد والقاهرة الجديدة»، موضحاً أن «الإسكندرية شهدت موجة من التوسع الرأسي ببناء أبراج بالمخالفة للقانون، لتتحول منطقة الرمل التي كانت مليئة بالفيلات والحدائق، إلى منطقة أبراج سكنية مشوهة».
ومع حالة الانفلات الأمني التي شهدتها مصر عقب ثورة 25 يناير (كانون الثاني) عام 2011، تزايدت موجة البناء المخالف في الضواحي الشرقية والجنوبية والغربية للمدينة، وتم بناء مئات العقارات المكونة من 12 طابقاً في شوارع لا تزيد مساحتها على 6 أمتار، ولأن أصحابها كانوا يبنونها بسرعة لافتة بمواد كيميائية تسهم في سرعة جفاف المواد الإسمنتية، تعرض عدد كبير من هذه العقارات للانهيار.
وتعود الطرز المعمارية بالمدينة إلى أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين، حيث دُمرت المدينة في 11 يوليو (تموز) عام 1882 بعد القصف البريطاني، وأُعيد بناؤها بطرز أوروبية مستحدثة منتقاة، تمزج بين عمارة الباروك وعمارك عصر النهضة، وفي أوائل القرن العشرين ظهرت طرز زخرفية تعرف باسم الأورنوفو، ثم الأرديكو بين الحربين العالمية الأولى والثانية، ومعها ظهرت الطرز الحديثة Early modern style، وكان أول مبنى بهذا الطراز هو المدارس الإيطالية عام 1931، وفق عوض الذي أشار إلى أنه «في عام 1958 تم وضع أول مخطط مصري للمدينة بعيداً عن الأجانب».
وحسب عوض، فإن المدينة بدأت في فقد هويتها وملامحها تدريجياً عقب حرب عام 1967، خصوصاً مع دخول الآيديولوجية الاشتراكية إلى عمارة الدولة عبر مباني الإسكان الشعبي، وظهور العشوائيات. وأضاف: «ثلثا المدينة يغلب عليها الطابع العشوائي المخالف للقوانين».
محمد علي، الخبير والمثمن العقاري السكندري، يؤكد لـ«الشرق الأوسط» أن «المحافظة تسعى بكل الطرق لوقف البناء المخالف، وتنفيذ قرارات الإزالة لهذه الأبنية، لكن المشكلة تكمن في أن عدد العقارات المخالفة كبير جداً، فهناك نحو 40 ألف وحدة سكنية مخالفة، ولو صدرت قرارات إزالة لها من الصعب إيجاد مقاول لتنفيذها جميعاً في وقت واحد، وبالتالي يستمر البناء ويسكن العقار قبل أن يصيبه الدور في تنفيذ قرار الإزالة».
بدوره، توّعد اللواء محمد الشريف، محافظ الإسكندرية، أصحاب العقارات المخالفة مجدداً، وقال إنه «لن يسمح بوجود تلك المخالفات ما بقي في منصبه»، وأشار إلى أن «هذه المخالفات تمثل خطورة وضغطاً كبيراً على البنية التحتية وشبكة المرافق بالمحافظة، ما يهدد بكارثة حقيقية».
وطلب الشريف من رؤساء الأحياء محاربة مخالفات البناء كافة في المهد، وعدم السماح بأي مخالفات جديدة، وتكثيف الحملات اليومية بنطاق المحافظة، وإزالة المخالفة في الحال، ومصادرة معدات البناء.
ولمواجهة مخالفات البناء أصدرت الحكومة المصرية قانون التصالح مع مخالفات البناء رقم 17 لسنة 2019، وتواصل أحياء الإسكندرية تلقي طلبات التصالح في مخالفات البناء بموجب القانون، لكن تنفيذ القانون يواجه مجموعة من التحديات، ووفقاً لتقديرات محافظة الإسكندرية فإن هناك 112 ألف مخالفة بناء خلال السنوات الماضية لم تتعدّ نسب الإزالة فيها 5%. ويرى علي أن «اشتراط التصالح عن العقار كاملاً، دفعة واحدة، من أبرز مشكلات قانون التصالح في مخالفات البناء».
وفي محاولة لإحياء المدينة الساحلية وضعت هيئة الحكومة المصرية مخططاً لتطوير بعض المناطق في المدينة على رأسها منطقة المنتزه، وترعة المحمودية، وأصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي، القرار الجمهوري رقم 157 لسنة 2019 بتشكيل لجنة لتطوير منطقة المنتزه برئاسة المهندس شريف إسماعيل، مساعد الرئيس للمشروعات القومية والاستراتيجية، تضم وزير السياحة، ومستشار رئاسة الجمهورية للتخطيط العمراني، ورئيسي الجهاز التنفيذي للهيئة العامة للتنمية السياحية، ومجلس إدارة شركة المنتزه للسياحة والاستثمار، ووفقاً لمخطط التطوير الذي نشرته وزارة التخطيط والمتابعة والإصلاح الإداري على صفحتها على «فيسبوك» فإنه «سيتم إنشاء مرسى لليخوت، وكورنيش مفتوح، مع الاهتمام بالحدائق، وتحويل المنطقة إلى مزار سياحي عالمي».
وأكد علي «زيادة الإقبال على المناطق التي أعلنت الحكومة عن تطويرها، وعلى رأسها المنطقة المحيطة بقصر المنتزه، والمزمع تحويلها إلى منطقة سياحية عالمية»، وقال: «هناك إقبال كبير على شراء الوحدات السكنية في هذه المنطقة، أدى إلى رفع أسعارها بنسبة 30% إلى 40% سنوياً بدلاً من 15% قبل بدء مشروع التطوير»، موضحاً أن «الوحدة التي كان ثمنها 700 ألف جنيه أصبحت تباع اليوم بمليون و100 ألف جنيه، والوحدات ذات الواجهة الأمامية أصبحت تباع بمبلغ يتراوح ما بين مليونين و300 ألف و3 ملايين جنيه، بدلاً من مليون ونصف قبل بدء مشروع التطوير».
منطقة أخرى تشهد إقبالاً وارتفاعاً في الأسعار هي منطقة ترعة المحمودية التي تنفذ فيها الحكومة الآن مشروعاً للتطوير، تم خلاله ردم الترعة، والتخطيط لإنشاء تجمعات سكنية وصناعية وطريق جديد.
وقال علي إن «منطقة ترعة المحمودية التي كان الناس يخشون السكن فيها، لاقترابها من العشوائيات، تشهد اليوم إقبالاً متزايداً وزيادة في أسعار الوحدات السكنية لتصل إلى مليون و900 ألف جنيه (الدولار الأميركي يعادل 15.7 جنيه مصري)».
وتضم منطقة المنتزه مجموعة من الحدائق التي تحيط بقصر المنتزه (الحرملك)، وقصر السلاملك، وهما من القصور الملكية التي أقامها الخديو عباس حلمي الثاني، قبل أكثر من 100 عام، وتقع على مساحة 375 فداناً، تطل على شاطئ البحر المتوسط، وبها مجموعة من المعالم الأثرية مثل كشط الشاي وبرج الساعة، وكانت تضم مجموعة من الكبائن والشاليهات المملوكة لمجموعة من رموز النظام السابق وعدد من رجال الأعمال، تم نزع ملكيتها وهدمها لصالح مشروع التطوير، كما تم هدم المطاعم والكافيتريات المطلة على البحر في المنطقة.


مقالات ذات صلة

«أنكس للتطوير» تكشف عن مشروع «إيفورا ريزيدنسز» في دبي

عالم الاعمال «أنكس للتطوير» تكشف عن مشروع «إيفورا ريزيدنسز» في دبي

«أنكس للتطوير» تكشف عن مشروع «إيفورا ريزيدنسز» في دبي

أعلنت شركة «أنكس للتطوير»، التابعة لمجموعة «أنكس القابضة»، إطلاق مشروعها الجديد «إيفورا ريزيدنسز» الذي يقع في منطقة الفرجان.

الاقتصاد العاصمة السعودية الرياض (واس)

بفضل النمو السكاني... توقعات باستمرار ارتفاع الطلب على العقارات السعودية

تتوقع وكالة «ستاندرد آند بورز غلوبال» للتصنيف الائتماني، أن يظل الطلب على العقارات السكنية في السعودية مرتفعاً، لا سيما في الرياض وجدة، وذلك بفضل النمو السكاني.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد جناح سلطنة عمان في معرض «سيتي سكيب العالمي 2024» بالرياض (وزارة الإسكان العمانية)

سلطنة عمان تعرض مشروعات استثمارية في معرض «سيتي سكيب» بالرياض

عرضت سلطنة عمان خلال مشاركتها في أكبر معرض عقاري عالمي، «سيتي سكيب 2024» الذي يختتم أعماله الخميس في الرياض، مشروعاتها وفرصها الاستثمارية الحالية والمستقبلية.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد ارتفعت الإيجارات السكنية بنسبة 11 % في أكتوبر (واس)

التضخم في السعودية يسجل 1.9 % في أكتوبر على أساس سنوي

ارتفع معدل التضخم السنوي في السعودية إلى 1.9 في المائة خلال شهر أكتوبر على أساس سنوي.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الاقتصاد زوار يطلعون على أحد مشاريع الشركة الوطنية للإسكان في معرض «سيتي سكيب العالمي» (الشرق الأوسط)

«سيتي سكيب»... تحالفات محلية ودولية لرفع كفاءة العقار بالسعودية

شهد معرض «سيتي سكيب العالمي»، المقام حالياً في الرياض، عدداً من التحالفات المحلية والدولية ضمن الشركات المجتازة لبرنامج «الدعم والتمكين للتطوير العقاري».

بندر مسلم (الرياض)

جدل أميركي حول تأثير بناء الشقق الفاخرة في الأحياء الفقيرة

المباني الجديدة مشكلة وحل في الوقت نفسه
المباني الجديدة مشكلة وحل في الوقت نفسه
TT

جدل أميركي حول تأثير بناء الشقق الفاخرة في الأحياء الفقيرة

المباني الجديدة مشكلة وحل في الوقت نفسه
المباني الجديدة مشكلة وحل في الوقت نفسه

غالباً ما ينظر النشطاء في مجال الإسكان بالولايات المتحدة الأميركية إلى بناء المباني السكنية الجديدة على أنه هو المشكلة، حيث يتم السماح للمطورين العقاريين ببناء مزيد من المساكن، لا سيما في الأحياء الفقيرة، مما يجعل المستأجرين والجيران في هذه المناطق يخشون من ارتفاع أسعار السوق وزيادة تكلفة الإيجارات عليهم، في حين يميل الاقتصاديون، من ناحية أخرى، إلى رؤية المباني الجديدة بوصفها الحل وليست المشكلة، حيث يقولون إن الطريقة الوحيدة لتخفيف النقص في عدد الشقق، الذي بدوره يؤدي إلى رفع الإيجارات، هي بناء مزيد من المساكن، فهم يؤكدون أن بناء ما يكفي من المساكن سيؤدي لانخفاض الإيجارات بشكل عام.
وتعدّ الإشكالية بين هذين الرأيين أساس حالة الجدل المثارة حول البناء الفردي والمعارك الأوسع حول كيفية تخفيف أزمة الإسكان في الولايات المتحدة. وحتى وقت قريب، لم تكن هناك أي بيانات تقريباً على نطاق الأحياء لحل هذه الأزمة، ويبدو أن كلا الرأيين صحيح في الوقت نفسه، فالمساكن الجديدة قد تساعد في خفض الإيجارات في مناطق المترو على سبيل المثال وذلك حتى في الوقت الذي قد يعني فيه ذلك زيادة الطلب على هذه المناطق مما يزيد من قيمة الإيجارات فيها.
وتقدم دراسات جديدة عدة أخيراً بعض الأدلة المشجعة، إن لم تكن كاملة، حيث نظر الباحثون في جامعة نيويورك و«معهد آب جون»، وجامعة مينيسوتا، إلى ما يحدث بشكل مباشر مع بناء المساكن الجديدة، واسعة النطاق، والتي تُباع بسعر السوق (دون قيود على قيمة الإيجار)، حيث تشير دراسات عدة بالفعل إلى أن المناطق التي تبني مزيداً من المساكن تكون أسعارها معقولة، وتتساءل هذه الدراسات الحديثة عما إذا كان هذا النمط يظل ثابتاً عند النظر إلى بناء المساكن الفردية وليس المجمعات السكنية الكبيرة.
وتشير النتائج، مجتمعة، إلى أن المساكن الجديدة يمكن أن تخفف من حدة ارتفاع الإيجارات في المباني الأخرى القريبة، لكن جاء رأي هذه النتائج مختلطاً حول ما إذا كان المستأجرون من ذوي الدخل المنخفض يستفيدون بشكل مباشر من المباني الجديدة أيضاً.
وتمثل أنواع المباني التي تصفها هذه الدراسات، والتي تخضع لسعر السوق وتتكون من 50 وحدة سكنية أو أكثر، غالبية المباني الجديدة الآن، كما تستهدف الغالبية العظمى من الشقق الجديدة اليوم المستأجرين من ذوي الدخل المرتفع، حيث يبلغ متوسط الإيجار لوحدة جديدة الآن 1620 دولاراً أميركياً في الشهر، أي أعلى بنسبة 78 في المائة من متوسط الإيجار على مستوى البلاد، وذلك وفقاً لـ«مركز هارفارد المشترك للدراسات الإسكانية»، (كما أن الهوة بين هذه الأرقام آخذة في الاتساع)، وتميل هذه المباني أيضاً إلى أن تكون الأكثر ظهوراً في المعارك المتعلقة بالإسكان في مختلف الأحياء الأميركية.
وتقول الزميلة في «مركز فورمان» بجامعة نيويورك، والتي درست تأثير المباني الجديدة في نيويورك، شياودي لي: «المستأجرون لا يحبون فكرة بناء المباني الشاهقة الجديدة، وذلك لأنهم يجدون هناك ارتفاعاً أيضاً في قيمة الإيجارات لديهم».
وقد يفترض الجيران أن المباني الجديدة تتسبب في ارتفاع الإيجارات، وهذا أمر مبرر إذا كانت المباني الجديدة تجذب كثيراً من السكان الأكثر ثراءً، والذين بدورهم يجذبون وسائل الراحة الراقية التي تجعل الحي مرغوباً فيه بشكل أكبر.
وتضيف لي: «السؤال الرئيسي هنا هو: ما التأثير الحقيقي لبناء هذه المباني؟». وقد وجدت لي أن المباني الجديدة في نيويورك تجذب مزيداً من المطاعم والمقاهي في المناطق المجاورة، لكنها خلصت إلى أن أي تأثير قد يؤدي لرفع الإيجارات في المناطق المجاورة لهذه المرافق، سيتم وقفه بسبب زيادة المعروض من المباني، وهو الأمر الذي يؤدي لخفض الإيجارات، كما وجدت أنه مقابل كل زيادة بنسبة 10 في المائة في المعروض من المساكن، فإن إيجارات العقارات التي تقع على مسافة 500 قدم تنخفض بنسبة واحد في المائة، وذلك مقارنة بالمناطق الأخرى التي يرتفع فيها الطلب.
ولكن يبدو أن هذه الفوائد ستذهب للمستأجرين في المباني الراقية والمتوسطة القريبة، حيث يفترض أن مالكي العقارات يرون منافسة جديدة في الجوار مما يدفعهم لتعديل قيمة إيجارات مساكنهم بما يتناسب مع هذه المنافسة، لكن «لي» وجدت أن المباني الجديدة ليس لها أي تأثير على إيجار العقارات التي تقع على بُعد أكثر من 500 قدم، وأنها لا تؤثر أيضاً على إيجارات الوحدات منخفضة التكلفة القريبة، وذلك لأنه ربما لا يرى ملاك هذه الوحدات الأبراج الفاخرة الجديدة على أنها منافسة لهم بشكل مباشر.
وفي دراسة منفصلة، وجد براين أسكويث وإيفان ماست من «معهد آب جون»، وديفين ريد في «بنك فيلادلفيا الفيدرالي»، مجموعة مماثلة من النتائج في 11 مدينة رئيسية، بما في ذلك أتلانتا وأوستن وشيكاغو ودنفر، وشملت الدراسة المباني الجديدة التي تضم 50 وحدة على الأقل والتي تم بناؤها في أحياء يقطنها ذوو الدخل المنخفض في وسط المدينة، ويقدر هؤلاء الباحثون أن هذه المباني الجديدة تؤدي لخفض الإيجارات بنسبة بين 5 و7 في المائة في المناطق المجاورة بشكل مباشر، وذلك مقارنة بقيمة الإيجارات المتوقعة في حال لم يكن قد تم بناء هذه المباني الجديدة.
ولكن لا تعني الدراسة أن الإيجارات تنخفض بالفعل، إلا إنها تشير، بدلاً من ذلك، إلى أن المباني الجديدة تبطئ وتيرة زيادة الإيجارات في أنواع الأحياء التي يصفها المطورون العقاريون بأنها مرتفعة بالفعل، حيث إنه بحلول الوقت الذي يصل فيه هؤلاء المطورون إلى حي ما، خصوصاً مع وجود خطط لمشاريع كبيرة الحجم، فإنه من المرجح أن ترتفع الإيجارات بشكل سريع.
وعن تفسيره النتائج التي توصل إليها في اجتماع عام بشأن الرؤية السابقة، يقول ماست: «الأثرياء يتطلعون بالفعل إلى الانتقال إلى حي ما، ولذلك فإنه يمكننا بناء ذلك المبنى الذي يمنحهم شكل الوحدة التي يريدون أن يعيشوا فيها، وفي حال لم نفعل ذلك، فإنهم سيقومون بشراء وحدة في مكان قريب ثم سيقومون بتجديدها».
وقد يكون هذا الرأي غير مريح بالنسبة للمقيمين في الأحياء منذ فترة طويلة، خصوصاً أولئك الذين يشعرون بالقلق من التغيرات التي تحدث في أحيائهم والتي تتجاوز فكرة قيمة الإيجارات فقط، لكنه يمثل رداً على نقطة واحدة على الأقل فيما يخص الجدل المثار حول بناء المباني السكنية الجديدة.
ويقول الأستاذ في جامعة نيويورك، إنغريد غولد إيلين: «هذه النتائج تشير ببساطة إلى أن بناء مزيد من المساكن في أحد الأحياء لن يؤدي إلى تفاقم أعباء الإيجار المرتفعة، ولكنه قد يساعد في التخفيف من حدتها».
ويأتي أحد التحذيرات في الأبحاث التي أجراها أنتوني داميانو وكريس فرينير، اللذان يدرسان للحصول على الدكتوراه في جامعة مينيسوتا، حيث قاما بدراسة المباني الجديدة واسعة النطاق التي بنيت في مينابولس، وقد وجدوا أن بناء المساكن الجديدة قد ساعد في تخفيف حدة ارتفاع قيمة الإيجارات للوحدات الراقية القريبة، لكنهم خلصوا إلى أنه في الثلث الأسفل من السوق يكون للمباني الجديدة تأثير معاكس، حيث ترتفع قيمة الإيجار بشكل سريع.
ومن الممكن في بعض السياقات أن يتسبب بناء الشقق الجديدة، التي تباع وفقاً لسعر السوق، في قيام ملاك العقارات في المناطق القريبة بكبح جماح قيمة إيجار شققهم، لكنه قد يتسبب أيضاً في رؤية مجموعة أخرى من الملاك أن قيمة إيجاراتهم تعد قليلة مقارنة بالأسعار الجديدة، ومن المحتمل أن يشعر المستأجرون من ذوي الدخل المنخفض بالغضب من المساكن الجديدة في البداية، وذلك حتى لو كانوا سيستفيدون منها على المدى الطويل، وذلك لأنه مع تقدم عُمر هذه المباني الجديدة، فإن أسعارها تصبح في المتناول.
وبشكل عام، فإن هناك أدلة في هذه الدراسات كافة على أن العرض والطلب يعملان على النحو الذي يتوقعه الاقتصاديون، وذلك حتى على نطاق الحي الواحد، ولكن هناك أيضاً أدلة على تحقيق مخاوف المستأجرين الأكثر فقراً.
ويقول داميانو: «هؤلاء هم الأشخاص الذين مروا بعدد كبير من التجديدات الحضرية، وإنشاء الطرق السريعة، والاستثمار العام في الإسكان، وإخفاقات التخطيط الأوسع والمؤسسات الحكومية على مرّ الأجيال، وأعتقد أن الخوف من مجرد جملة (مبنى جديد) هو خوف حقيقي ومبرر، والأمر متروك للمخططين وصانعي السياسات للنظر إلى تلك المخاوف بشكل جيد».

* خدمة «نيويورك تايمز»